تثبت الدولة المصرية دومًا أنها عنوان الشرف والضمير .. تعى قيمة رجالها، وتدرك جيدًا ما يجب فعله تجاههم .. فحضرت بكل مؤسساتها فى وداع مشرف يليق بأحد أبنائها، كما يليق بدولة كبيرة تحترم تاريخها وحضارتها وقادتها.. إذ تقدم الرئيس عبد الفتاح السيسي، الجنازة العسكرية للرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، الأربعاء الماضى من مسجد المشير طنطاوي، بحضور الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، والدكتور على عبد العال، رئيس البرلمان وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وقداسة البابا تواضروس الثانى بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية.. حضرت مصر الكبيرة برأس الدولة ومؤسساتها العسكرية وأزهرها وكنيستها وعدد كبير من المسئولين السابقين والحاليين. المشهد برمته يليق بنهاية رجل له تاريخ عسكرى.. بداية من كونه فردا مقاتلا فى القوات المسلحة عاش عمره مستعدًا للتضحية بروحه فى سبيل الوطن.. وانتهاءً بحفاظه على دماء أبناء شعبه، فلم يأمر يومًا بضرب المتظاهرين الذين خرجوا عليه، وصولاً لتنحيه عن السلطة، وعدم هروبه خارج البلاد التى قال مرارًا وتكرارًا أنه سيموت ويُدفن فى ترابها الطاهر. سمات شخصية مبارك كانت مستمدة بالأساس من المؤسسة العسكرية الشريفة والقوية فى أوقات السلم والحرب، ولذلك فإن كثيرا من مواقفه وقراراته لم تكن سوى تعبير خالص عن أبعاد الأمن القومى المصرى ومقتضيات السيادة الوطنية.. وبدأ ذلك حتى قبل توليه رئاسة البلاد، حيث كان له ضلوع مباشر، فى ترتيب زيارة الرئيس الراحل أنور السادات لإسرائيل، حيث صاغ مبارك العديد من القرارات من بينها توقيت زيارة السادات لإسرائيل، كما أدار البلاد وقتها كنائب للرئيس فى ظل غيابه. لم يزر مبارك إسرائيل طيلة حكمه ورهن تلك الخطوة بإحراز تقدم على المسار الفلسطينى، وكانت كافة تصريحاته تبرهن على حس رجل دولة مسئول تجاه وطنه وأمته العربية، ففى أحد اللقاءات مع القناة الأولى بالتليفزيون الإسرائيلى عام 2002 قال صراحة إن إسرائيل هى من رفضت التطبيع مع الدول العربية، مؤكدا على أن شرط إبرام تطبيع مع تل أبيب هو الانسحاب الكامل من جميع الأراضى المحتلة وأكد خلال حديثه الذى كان يتزامن مع فترة ولاية رئيس الوزراء الإسرائيلى أرئيل شارون أن إسرائيل تبث الكراهية تجاهها، مشيرا إلى أنه سيأتى يوم على إسرائيل تواجه 300 أو 400 مليون مواطن حاقد عليها نتيجة تصرفاتها فى المنطقة. وفى حديث آخر مع التليفزيون الإسرائيلى بمناسبة مرور 25 عامًا على نصر أكتوبر، وخلال الحديث، وجه المذيع الإسرائيلى للرئيس الراحل سؤالا يحمل خبثا صهيونيا مفاده عدم سماعه بما قدمه سلاح الجو المصرى خلال الحرب ليرد عليه مبارك ساخرا: «اسأل اللى كانوا موجودين فى الحرب هناك وشالوا الجثث»، مشيرا إلى أنه لا يمكن لأى حرب أن تحسم قضية، ولكن السبيل الوحيد للحسم هو التفاوض. مبارك الذى واصل طريق السادات فى تحقيق السلام واسترداد الأرض المصرية المسلوبة كشف فى أحد لقاءاته رغبة الاسرائيليين فى الاحتفاظ بطابا بينما رد عليهم قائلاً: «يعنى لما جت أيام طابا قولتلهم ده ملك الشعب كله ومقدرش اقولهم سيبوا الحتة دى وخدوا حتة فى الصحراء.. دى مش عزبة.. دى ملك 65 مليون مصرى». وكانت معركة استرداد طابا نموذجا للأداء المصرى المذهل فى الساحة السياسية والقانونية مثلما كان فى الساحة العسكرية، ووجه الرئيس الراحل مبارك، نداء السلام إلى العالم، أثناء رفع العلم المصرى على أرض طابا يوم 19 مارس من العام 1989 قائلاً: «إن الذين يعيشون بعقيدة أن الحرب هى التى تصون مصالحهم ووجودهم، لا يستلهمون حكمة التاريخ، ولا يعبرون عن نبض شعوبهم أبدا». وتظل اللحظة المضيئة فى تاريخ مبارك عندما دقت الساعة الثانية من ظهر يوم 6 أكتوبر 1973، ففى هذا التوقيت انطلقت طائرات مقاتلة مصرية قاصدة أرض سيناء. وحسب ما جاء فى مذكرات اللواء محمد عبد الغنى الجمسى رئيس هيئة العمليات بحرب أكتوبر 1973 حول الضربة الجوية قال :« فى الساعة الثانية بعد ظهر السادس من أكتوبر عبرت الطائرات المصرية خط جبهة قناة السويس متجهة إلى عدة أهداف إسرائيلية محددة فى سيناء. وأحدث عبور قواتنا الجوية خط القناة بهذا الحشد الكبير، وهى تطير على ارتفاع منخفض جدا، أثره الكبير على قواتنا البرية بالجبهة وعلى قوات العدو. فقد التهبت مشاعر قوات الجبهة بالحماس والثقة بينما دب الذعر والهلع فى نفوس أفراد العدو. ويضيف: «هاجمت طائراتنا 3 قواعد ومطارات، و10 مواقع صواريخ مضادة للطائرات من طراز هوك، و3 مراكز قيادة، وعددا من محطات الرادار ومرابض المدفعية بعيدة المدى. وكانت مهاجمة جميع الأهداف المعادية فى سيناء تتم فى وقت واحد». ويستطرد: «كانت قلوبنا فى مركز عمليات القوات المسلحة تتجه إلى القوات الجوية التى كان يتولى قيادتها اللواء طيار حسنى مبارك وقد حققت قواتنا الجوية نجاحا كبيرا لم يتوقعه الكثيرون».