فجأة لمعت عينا الجراح العالمى مجدى يعقوب خلال حفل تكريمه ضمن مبادرة «صناع الأمل» بالإمارات العربية الشقيقة، وتحولت ملامحه بشكل درامى: من جبين مقطب ووجه تكسوه علامات الشرود إلى تقاسيم متهللة تملؤها البهجة وتعلوها ابتسامة طفولية واضحة.. تغنى هذه اللقطة عن آلاف الكلمات التى يمكن كتابتها تعبيرًا عن عقيدة الرجل وشغفه بأن يكون سببًا فى إنهاء معاناة البشر على قدر استطاعته. التحول المفاجئ فى مشاعر «أمير القلوب» جاء عندما ذكر رجل الأعمال الإماراتى «حسين السجوانى» خلال الحفل أن الدكتور يعقوب كان سببًا فى إنهاء معاناة والدته قبل عشر سنوات، وأضاف «السجوانى»: إن الجراح المصرى أخبره قبل العملية أن نسبة احتمال نجاحها لا تتجاوز 10 % والآن والدته على قيد الحياة. الواقعة التى جرت قبل أيام فى الإمارات تكررت فى أكثر من مناسبة وبأكثر من صورة وعلى أرض كثير من الدول التى زارها الجراح العالمى فى رحلته الممتدة بحثًا عن المرضى لتخفيف آلامهم، وهو يقول: «أكثر ما يسعدنى فى حياتى أن أجد شابًا يقول لى أنه التحق بكلية الطب اقتداًء بى أو أن يخبرنى أحدهم أنى كنت سببًا فى شفائه طفلًا».
تحالف لصوص التريند ومثلما كان الصراع بين ثنائيات: «الخير والشر» و«الموت والحياة» و«الجدب والنماء» حاضرًا فى الفكر المصرى قديمًا، فقد تجلى هذا الصراع بوضوح عندما خرج علينا بعض رموز التكفير وأعداء الحياة ودعاة الموت أمثال: وجدى غنيم وعبدالله رشدى وسامح عبدالحميد وغيرهم ليصطنعوا معارك وهمية ضد الدكتور مجدى يعقوب، بتكفيره والقول بأنه لن يدخل الجنة رغم كل ما يقدمه للإنسانية فى الدنيا لأنه لا يؤمن بالدين الإسلامى ابتداءً. قد تبدو فكرتهم منطقية لقطاع من العامة وقد تجذب إليها بعض محدودى الفهم، لكنها فى الحقيقة لا تعدو أن تكون محاولة بائسة من جانبهم لسرقة جزء من الشعبية الجارفة التى حققها الرجل وسعى لوضع أنفسهم معه فى نفس الإطار ولو من قبيل المواجهة، وهو ظهور سيترجم إلى مشاهدات وتفاعل جماهيرى ومن ثم «أموال» تصب فى جيوبهم صبًا. بنظرة متأنية ل «الجنة» سنجد أنها مفهوم فضفاض جدًا، فهى فى اللغة تعنى «الحديقة أو البستان العظيم» وتصغيرها «جنينة»، وفى الدين الإسلامى هى مقر الخلود الذى أعده الله لعباده الصالحين، وهى تقابل «ملكوت السماء» فى المسيحية و«النعيم» فى اليهودية و«النيرفانا» فى الديانة البوذية، ومن هنا يصبح لدى أصحاب كل معتقد جنتهم وإن اختلف مسماها، ولو نظر أولئك المتنطعون فى كلام ربهم وتدبروا الآية 69 من سورة المائدة: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ» لكان خيرًا لهم. راهب فى محراب مهنة الطب وحتى لا يأخذنا هؤلاء على دهاليز أفكارهم المظلمة فإن أفعال وأفكار الرجل كفيلة بجعل أى شخص قادرًا على الحكم إذا ما كان يستحق التكريم أم العقاب، فى الدنيا على الأقل، أما بعد الموت فليس بمقدور أحد أن يقطع بمصير أى إنسان، فليس لشخص أن يملك خزائن رحمة الله ليوزع منها كيفما شاء ويحرم منها من يشاء. منذ خطواته الأولى فى عالم الطب قرر مجدى أن يكون راهبًا فى محراب المهنة مخلصًا لتعاليمها ورسالتها، فهو لا يفرق بين مريض على أساس دينه أو جنسه أو لونه أو وضعه الاجتماعى أو الاقتصادى، ولو أن واحدًا ممن كفّروه أصابه مكروه ولجأ إليه لعالجه، وقد سبق له بالفعل أن أجرى عمليات جراحية عديدة لمساجين على اختلاف جرائمهم، كما أجرى عملية لأحد الإرهابيين المشاركين فى تنفيذ تفجيرات الأزهر الشهيرة وعن ذلك يقول: «أنا طبيب ولست قاضيًا أحاكم الناس على أفعالهم». وجد ذلك الشاب الحالم الذى ظل منظر الدماء يخيفه حتى أثناء دراسة الطب أن أمراض القلب تسوق الملايين من البشر إلى الموت بنسب أكبر من غيرها من الأمراض التى تنتقل بالعدوى، فقرر أن يكرّس حياته لمواجهة هذا العدو الشرس الذى يقتل 20 مليون مواطن سنويًا 80 % منهم من سكان الدول النامية. حين عاد إلى مصر بعد أن كرّمه العالم ليؤسس مشروعه الخاص لخدمة الناس قرر أن تجرى العملية التى تتكلف فى المتوسط 50 - 100 ألف دولار لجميع المرضى بالمجان، وكذلك حالات القلب الصناعى التى تبلغ تكلفتها عالميا 200 ألف دولار، والأهم أنه حقق ذلك بمعدلات نجاح تكافئ أعظم المراكز الطبية العالمية بل تزيد عليها بسبب صعوبة الحالات الموجودة فى مصر؛ لتراجع مستوى الثقافة الطبية لدى قطاعات واسعة من المواطنين فى المنطقة العربية، وجعل الأولوية فى اختيار عملياته للحالات الأكثر تعقيدًا. لم يكتف بذلك، بل عمد إلى تأسيس مركز أبحاث عملية ونظرية فى جميع المجالات المتعلقة بأمراض الكبد بما يساعد على تطوير العلاجات، فاختار نخبة من الباحثين لدراسة الجزيئات والجينات وغيرها من المجالات، وتبادل هذه النتائج مع أرقى المراكز الطبية حول العالم، وهو يؤمن أن مهمة العلم هى البحث عن الحقيقة والكمال ويتطلع لذلك اليوم الذى تشيع فيه ثقافة التبرع بالأعضاء بما تمثله من هبة لا تقدر بثمن من المتوفى للحى، وكذلك اليوم الذى يتم فيه علاج أمراض القلب دون الحاجة لتدخل جراحى.
فلسفة مجدى يعقوب ظل «السير مجدى» حريصًا على أن تبقى أفكاره الخاصة وحياته الشخصية منطقة حصينة لا يصل إليها الإعلام ولا تخترقها الصحافة، أحاطها بأسلاك شائكة، وعلق عليها لافتة «ممنوع الاقتراب أو التصوير»، وربما كانت طبيعته الخجولة سببًا فى ذلك، فهذا الشيخ الذى تجاوز الثمانين من عمره لم يختلف كثيرًا عن ذلك الشاب الذى راح مديره فى مستشفى هارفيلد ببريطانيا يقدمه للحضور أثناء افتتاح المستشفى واصفًا إياه ب«الخجول إعلاميًا». ما أخفاه الفيلسوف المصرى من أفكار كشفته أفعاله دون مواربة، فهو وإن لم يتكلم بوضوح عن موقفه الدينى، لكن أفعاله تؤكد أنه وجد فى السيد المسيح قدوة يمكن السير على خطاها، فطفق يقدم خدماته للناس جميعًا ويوزع الحب على من يستحق ومن لا يستحق، التزم بمقولته: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» فلم يُضبط يومًا متلبسًا بالحديث فى السياسة، وإن كان معجونًا بحب مصر وبدا ذلك من تفاصيل كثيرة. وإذا كان للمسيح حواريوه وتلاميذه فقد راح يعقوب ينتقى أفضل العناصر النابهة فى المجال ليعطيهم خلاصة تجاربه، ولم يجعل ذلك مقصورًا على الطلبة المصريين وحدهم، بل ضم إلى جانبهم نخبة من أمهر شباب الباحثين فى العالم، ونشرًا لتعاليمه فى البرية أخذ يؤسس لما يسمى بسلسلة الأمل التى تربط بين عشرات المراكز التى تعمل بنفس النهج والطريقة فى قارات العالم السبع.
معجون بحب مصر حين ألحّ الناس عليه بالسؤال حول مصيره بعد الموت وهل يخشى عدم دخول الجنة، أجابهم بعبارة ذكية: «أنا هنا فى الجنة بالفعل» يقصد أن حب الناس وإسعادهم هو الجنة الحقيقية، أيقن الرجل أن «الكنز فى الرحلة» وليس فى نهاية الطريق، فراح يتشبث بالحياة وينشر الأمل فى نفوس الناس ويتاجر فى السعادة وخط بيده بنود دستور حياته الخاصة، فهو يمارس السباحة يوميًا لأهميتها للحفاظ على سلامة القلب، ويستمع إلى الموسيقى الهادئة، وهو يرى أن الاستماع إلى موسيقى موتسارت كفيلة بتحسين التفكير، وإلى جانب موتسارت لم يزل يحتفظ بنوع من الارتباط الوجدانى مع أغانى أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب. لم تستطع سنوات الغربة أن تنزع من قلبه حب زراعة النباتات التى مارسها فى محافظات الصعيد التى تنقّل بينها مع والده، فهو يزرع النباتات فى حديقة منزله ويرعاها بنفسه، ويتناول الأطعمة الصحية الخضروات والسمك؛ وربما كان ذلك سببًا فى احتفاظه بأسنانه كاملة بصحتها وبشرته بنضارتها. قلبه معلق بمعالم وآثار مصر القديمة وهو مؤمن بقدرات هذا البلد إلى أبعد الحدود، فهو عندما يتكلم عن تجربته فى مركز أسوان يقول: «استطعنا أن نثبت للعالم أن جينات هذا الشعب وعجينته قادرة على منافسة نظرائها حول العالم إذا ما وضعت فى نظام جيد يضمن لها الاستقرار والتفوق». يتابع «السير مجدى» كل ما يجرى على الساحة وتربطه علاقات طبية بالعديد من نجوم المجتمع فى مختلف المجالات، ويذكر الدكتور مبروك عطية مثلًا أنه التقاه فى المطار فجلسا يتبادلان أطراف الحديث وقال له إنه معجب بالطريقة التى يقدم بها أفكاره للناس.
المتواضع الأعظم وأنت تطالع أغلب الحوارات التليفزيونة التى أجريت معه ستجد أنه اشترط على محاوريه عدم الإفراط فى مدحه أو الثناء عليه، وحين سئل عن رأيه فى عمل درامى أو سينمائى يوثق رحلته قال بصدق غير مصطنع وتلقائية شديدة: «أنا إنسان بسيط يعظّمنى الناس أكثر مما أستحق، ولكنى أدركت أن إنسانًا واحدًا بإمكانه إن أراد فعل شىء ذى قيمة للناس أن يجد من يتعاونون معه على ذلك ويتمكن من تحقيق حلمه». عندما سألته إحدى المذيعات: هل سبب قِصر عُمر أول مريض تُجرى له عملية زرع قلب أن الأمر كان يتطلب مزيدًا من الدراسة؟، هنا كان بإمكانه النيل ولو قليلًا من قدر كريستيان برنارد الذى سبقه إلى إجراء أول عملية من هذا النوع، لكن إجابته جاءت: «صحيح أن الأمر كان يتطلب بعض الدراسة، لكن الرجل امتلك جرأة المبادرة، وكان طبيعياً أن نعرف ما هو أفضل فى ضوء التجربة»، وأضاف: «الحقيقة أن الرجل كان شجاعًا وأرى أن الصحافة ظلمته كثيرًا، وكان الأمر يتطلب من يمتلك هذه الشجاعة».
عنوان قوة مصر الناعمة
حين فكر فى الاستقرار فى مصر اختار أن يعيش فى «أسوان»، حيث أقل نسبة تلوث ليس فى مصر وحدها، ولكى يخفف من معاناة سكانها البسطاء الذين أشفق عليهم من مشقة الطريق إلى القاهرة، أراد أيضًا أن يستمتع بطبيعتها الخلابة وما تحويه من آثار ومعابد تخلد المجد المصرى القديم. ما تحقق على يد الدكتور يعقوب كان أكبر مما فكّر هو شخصيًا فيه، إذ أنه جعل من آخر نقطة فى حدود مصر الجنوبية بؤرة اتصال مع العديد من دول القارة كإثيوبيا وموزمبيق وأوغندا وغيرها وصولًا إلى جنوب إفريقيا، وكأنه أراد أن يجعل من تلك المنطقة النائية الفقيرة نقطة انطلاق لنفوذ مصر وقوتها الناعمة بين أبناء القارة السمراء وأصحاب القلوب البيضاء. حسنًا فعل الجراح العالمى حين اختار أن يكون مقر مركزه الطبى الجديد بالقرب من منطقة الأهرامات، فهو ليس أقل من أن يخلد اسمه بجوار العظماء فى التاريخ المصرى. وإذا كان لنا من كلمة أخيرة نقولها للدكتور الجليل فإننا نقول له: لا تغضب يا دكتور ممن هاجموك أو تطاولوا على مقامك.. «لا تغضب ولك الجنة».