يضل المرء حين ينسى ماضيه، لا سيما إن كان يحمل بين طيّاته صفحات مهمة، مليئة بفيض من العبر التى تساعد على كشف الواقع، والتطلع نحو الأمور بصورة موضوعية كاشفة لحقيقة الأشياء. وما تشهده الساحة الإقليمية من صراع حيوانى بالناب والمخلب التركى، من أجل السيطرة على مناطق عدة؛ سواء فى الخليج العربى أو الشمال الأفريقى، هو امتداد طبيعى لأحلام الغزو التى سيطرت – منذ القدم - على هذا الجنس، غير أنه مكتوب على وطننا أن يكون مقبرة لهذه الأحلام، فيتجرع كبارهم كأس الفشل حتى الثمالة. والتاريخ شاخص كجبل شاهق، حين أذاقهم الجيش المصرى مرارة الهزيمة فى قونية، رغم فارق العتاد والتعداد، بعد أن نكروا الفضل وجحدوا الجميل. بدأت نواة القصة تتشكل حين ثارت الكثير من المدن اليونانية ضد الحكم العثمانى، فأرسل السلطان محمود الثانى جيشًا لقمع التمرُّد، لكنه هُزم، فاستغاث بواليه القوى محمد على، الذى هب لنصرته وجهز جيشًا بقيادة ابنه إبراهيم باشا، حيث نجح فى إخماد ثورة كريت ثم رودس حتى دخل أثينا وأخضع كافة المدن الثائرة للحكم العثمانى. حينها تدخلت الدول الأوروبية لمساعدة الثوار اليونانيين وتواجه أسطولهم بالأسطول المصرى، الذى تحطم كاملًا فى تلك المعركة، الأمر الذى جعل محمد على يطلب من السلطان العثمانى أن يمنحه حكم الشام تعويضًا عن خسائر الأسطول المصرى، لكن السلطان رفض، فجاء الرد سريعًا من محمد على بأن جهز جيشًا، تحرك نحو غزة فاستولى عليها ثم يافا ثم حيفا، قبل أن يحضر زعماء قبائل عرب نابلس وطبرية والقدس ليقدموا فروض الولاء والطاعة لمحمد على وابنه. بعد ذلك، تحرك إبراهيم باشا نحو عكا فاستولى عليها ثم على دمشق ثم حمص ثم حلب ثم اتجه شرقًا إلى بيلان وانتصر فيها على القوات العثمانية، وصار الطريق ممهدًا إلى الأناضول، فتقدم بعد معركة بيلان واستولى على ولاية أدنة ثم طرطوس ثم أورقه وعنتاب ومرعش وقيصرية. ثم كانت المواجهة الحاسمة بين الجيش المصرى والجيش العثمانى فى قونية، حيث استغل إبراهيم باشا الثغرة التى كانت فى الجيش العثمانى وجعلت ميسرة الجيش منعزلة عن باقيه، وأمر بالهجوم حتى ألحق بهم الهزيمة وكبّدهم خسائر بالغة، وانتهى الأمر بتوقيع معاهدة كوتاهيه - بعد تدخل فرنسا والدول الأوروبية - بتنازل السلطان العثمانى «لمحمد على» على كل البلدان التى فتحها وهى سوريا (الشام) واقليم أدنه والحجاز وجزيرة كريت، مع تثبيته على ولاية مصر: مقابل أن ينسحب الجيش المصرى عن باقى مدن الأناضول التى فتحها إبراهيم باشا. هكذا كان التاريخ، الذى بات يهاجم أردوغان برؤى مفزعة تتلاعب فى خياله وتشخص أمام عينيه، فيشعر بالضآلة كذرة رمل فى متاهة جبل، فيزداد حقده ويدفعه ممزوجًا بأحلام الغزو المتوارث إلى سعار مستمر ونهم للافتراس، حتى صار كالخفاش يتغذى على الدم، ويشعر بظمأ مستمر للقتل والخراب وهدم منازل الآمنين، واستباحة الأراضى، بحجج فارغة وشعارات محتواها فارغ.. ومنذ منتصف عام 2017 شهدت مخططاته نشاطًا ملحوظًا فى إنشاء قواعد عسكرية خارج الحدود التركية، حين أعلنت دول المقاطعة (مصر والسعودية والإمارات والبحرين)، قرارها بمقاطعة النظام القطرى، حينها أعلنت تركيا إنشاء أول قاعدة عسكرية خارج حدودها فى قطر، هذا التخلى القطرى – المعتاد - عن سيادته الوطنية على أراضيه كان مبررًا نتيجة تقاطع المصالح بينهما بشأن إحياء نظام الإخوان الإرهابى ومساندته ضد الدولة المصرية من جانب، والرد على دعوات المقاطعة من جانب آخر. بعدها وتحديدًا فى أكتوبر من العام نفسه أعلنت عن إنشاء قاعدتها العسكرية الثانية فى الصومال، لتتضح الرؤية فى رغبتها التوسعية فى التمدد وخلق وجود مباشر فى جنوب البحر المتوسط وآخر فى الخليج العربى. ثم جاء ختام العام ذاته ليعلن عن اتفاق تركى مع نظام عمر البشير، ليمثل تعزيزًا جديدًا للوجود التركى فى البحر الأحمر عن طريق جزيرة سواكن السودانية، ومن ثم صار الأمر أكثر وضوحًا، وأصبح يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومى العربى. ومخطئ من يظن أن التدخل التركى فى الأزمة الليبية حديث العهد، بل بدأ مبكرًا منذ عام 2011 ، حين دعمت أنقرة – سرًا – الميليشيات الإرهابية، غير أنه بعد أن انحسرت مساحة سيطرتها على الأراضى الليبية، وتراجعت إلى العاصمة طرابلس، لم يكن أمام تركيا سوى اللعب على المكشوف، بإعلان دعمها الصريح والعلنى لهذه الميليشيات، خاصة بعد إعلان الجيش الليبى عن عملية تحرير طرابلس، فقامت تركيا بإرسال الأسلحة للميليشيات فى انتهاك فج لقرارات مجلس الأمن التى تحظر إرسال السلاح إلى ليبيا. وحين حقق الجيش الليبى انتصارات ملحوظة على الميليشيات، قامت تركيا بدعم تلك الميليشيات فى طرابلس بالطائرات المُسيّرة عن بعد، غير أن الجيش الليبى كان قادرًا على مواجهة هذا الدعم العسكرى، حين أعلن عن نجاحه فى استهداف قاعدة عسكرية تركية داخل طرابلس، ومن ثم ثبت انتهاك تركيا لقرارات مجلس الأمن تارة بإرسال السلاح للميليشيات وتارة أخرى بانتهاك سيادة ليبيا على أراضيها. ومع ذلك لا تزال أنقرة تحاول أن ترمى بثقلها فى معركة طرابلس، وتُبرم الاتفاقيات مع السراج، وتحصل على موافقة البرلمان فى نقل أسلحة للميليشيات، كل ذلك لتعزيز وجودها فى شمال أفريقيا، خصوصًا بعد أن طُردت من مدينة عدن وصارت تبذل أقصى جهودها للسيطرة على مدينة الحديدية على ساحل البحر الأحمر بمساعدة إخوان اليمن. لكنه نذير النهاية ونفث الجحيم، حيث يحدق بتركيا الضياع، ويسد طريقها الفشل. خصوصًا بعد أن وقر فى عقلها أن أحلامها فى الغزو وإعادة الإمبراطورية العثمانية رهن استهداف القوة العربية التقليدية التى تمثل عمق الأمن القومى العربى وبشكل مباشر مصر والسعودية، فوضعت استراتيجية نشر المخالب والتضييق على هذا العمق بمزاحمة السعودية فى الخليج ومصر فى البحر الأحمر وشمال أفريقيا، خصوصًا وأن لها نفوذًا عسكريًا فى جزيرة قبرص منذ منتصف السبعينيات سيكون له أثر بالغ على أزمة التنقيب عن الغاز فى شرق البحر المتوسط. إن مخططات الغزو التركى لم تعد حُلمًا؛ بل صارت خطرًا حقيقيًا - لامس جدران العبث - يشى به احتلالها لعفرين السورية وأجزاء من شمال العراق، ونفوذها التى تجاهد من أجل ازدياده فى الصومال وجيبوتى وليبيا والسودان، ومن خلفها تدفع قطر الفاتورة نكاية فى مصر وثأرًا للإخوان، بكُره يقبع فى نفسيهما فتمضغان حقدهما وتجترانه وتحولانه إلى رغبات مكبوتة محتواها حسد أكّال. لذلك كانت الحاجة ملحة لتحرك عربى فاعل من أجل وضع استراتيجية موحدة لمواجهة هذه المهددات المباشرة للأمن العربى، والتى لا تقل خطورة عن تلك المهددات الإيرانية التى عملت على خلخلة الأنظمة العربية فى العراقوسوريا واليمن ولبنان. لا بد من وضع تصوُّر واحد تدعمه لُحمة داخلية لأطياف الأمة، فالحياد خيانة، ووضوح الموقف لم يعد رفاهية بل صار أمرًا جوهريًا لا غنى عنه، خصوصًا إذا تعلق الأمر بمعركة وجود، مضمونها أكون أو لا أكون ولا مكان فيها للمواءمات أو أصحاب اللون الرمادى. إن تميم وأردوغان صارا آية للقبح الرخيص: سمجان كأفراس النهر، عاطلان من جاذبية القيادة، ذلك لأن جيش مصر العظيم متعالٍ عصىُّ على العمالقة ترويضه أو النيل منه، فما بالنا بالأقزام وإن جعجع كبيرهم كطبل أجوف. مصيرهما محتوم بالفشل حين يجلس كل منهما كإناء فارغ يتقطر فيه أحلام مقبورة بعد أن تسحقهما قبضة الأبطال، لأن من يبنى فوق الحقد، كمن يبنى فوق مستنقع، وإن كان هذا حالهما، فمصرنا تبنى على أرض صلبة ومن خلفها تاريخ شاهد على عظمتها جيشًا وشعبًا، لأن سماءها تغشاها غلالة من سحاب أبيض، ينضح بنور الشمس المتوهج، فيبدد الظلمة ويحرق الجرذان. * محام وروائى مصرى