فيما كان ملايين المصريين ينتظرون الليلة الأخيرة من السنة للخروج إلى الشارع احتفالًا برأس السنة الجديدة وبحثًا عن لحظة سعادة يسرقونها من العمر، كانت هناك فئة من الشباب تترقب النزول إلى الشوارع أيضًا، ولكن ليسرقوا فرحتهم ويمارسوا جريمة التحرش بهم تحت جنح الظلام، ورغم الاستعدادات الأمنية الكبيرة التى اتخذتها الأجهزة الأمنية لضبط الشارع وتشديد الرقابة على المخالفين خلال الاحتفالات والأعياد فإن المناسبة السنوية أبت أن تمضى دون أن تترك أثرًا نفسيًا وذكرى سيئة لدى ضحية جديدة من ضحايا التحرش الجماعى، الواقعة شهدتها مدينة المنصورة وسرعان ما انتشر فيديو يوثقها عبر مواقع التواصل الاجتماعى، ما أثار حالة غضب كبيرة فى الشارع وعبر وسائل الإعلام وداخل مؤسسات الدولة المختلفة. رصد شهود عيان تفاصيل الواقعة «الفتاة الضحية كانت تسير بصحبة فتاة أخرى بشارع الجمهورية، عندما قام الجناة بمعاكستهما وترديد ألفاظ جنسية ضدهما فقامت الضحية بالدخول لأحد محلات الموبايلات للاحتماء به، ولكن الشباب تجمعوا أمام المحل وكادت تنشب مشاجرة بين العاملين بالمحل والجناة حتى اضطر صاحب المحل لإخراج الفتاة منعًا لاقتحام المكان». وأضاف شهود العيان أنه «عندما خرجت الفتاة من المحل حاولت إيقاف تاكسى والخروج من المنطقة، لكن الجناة منعوها، وبدأت واقعة التحرش، حيث تدافع المعتدون حولها، بينما اختفت زميلتها من المكان واحتمت بإحدى العمارات، وحاول بعض الشباب حمايتها، لكن التدافع حال دون حدوث ذلك، ونشبت مشادات بين المتحرشين والمدافعين حتى تمكن بعض الشباب من إدخال الفتاة سيارة وإخراجها من المكان بسرعة». كثفت الأجهزة الأمنية بمحافظة الدقهلية مجهوداتها، وألقت الشرطة القبض على 17 شابًا من المشتبه فى تواجدهم بالمكان وقت الواقعة، كما استجوبت ما يزيد على 20 شخصًا من العاملين بالمحال التجارية بالمنطقة، وتبين لفريق البحث الجنائى أن المجنى عليها «طالبة» تبلغ من العمر 20 سنة وهى مقيمة بمدينة المنصورة وصديقتها 20 سنة طالبة بجامعة المنصورة، وتوصلت جهود البحث إلى تحديد شخصية بعض المتهمين وهم 7 بينهم 4 طلاب - 18 سنة - وطالبان- 20 سنة- وماسح أحذية - 20 سنة، بمواجهتهم أقروا بارتكاب الواقعة وتم اتخاذ الإجراءات القانونية.
إدانة حقوقية ومطالبات بأقصى عقوبة ومن جانبه، أعلن المجلس القومى للمرأة برئاسة الدكتورة مايا مرسى، وجميع عضواته وأعضائه، استنكاره واستيائه الشديدين لما تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» و«يوتيوب»، لمقطع فيديو لواقعة التحرش الجماعى بالفتاة، وطالبت الدكتورة مايا مرسي بتوقيع أقصى عقوبة على الجناة، وفقًا لما نص عليه القانون، ليكونوا عبرة لمن تسول له نفسه القيام بهذا الفعل المشين مرة أخرى، ومن أجل صون وحماية حقوق وحرية أفراد المجتمع. فى السياق ذاته، أدان مركز المرأة للإرشاد والتوعية القانونية بالدقهلية واقعة التحرش مؤكدًا أن «التحرش الجنسى آفة تهدد سلامة وأمن المجتمع»، وطالب رضا الدنبوقى، المدير التنفيذى للمركز، المحامى العام بإعلان نتائج التحقيق للرأى العام وصولًا لردع المتهمين وعدم تكرار تلك الوقائع المشينة وحفاظًا على سمعة ومكانة مصر، وأوضح أن «العقوبة تكون الحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه وبإحدى هاتين العقوبتين إذا تكرر الفعل من الجانى من خلال الملاحقة والتتبع للمجنى عليه». «شهيد الشهامة» لم يكد القضاء يصدر حكمه فى وقائع القضية التى جرت يوم 9 أكتوبر الماضى والتى عرفت إعلاميًا باسم «شهيد الشهامة» حتى وقعت جريمة المنصورة، وفى الواقعة المشار إليها قتل 3 شباب الطالب محمود البنا، بسبب تدخله للدفاع عن فتاة، وطاردوه فى أحد الشوارع بمدينة تلا، وانهالوا عليه طعنًا حتى الموت، وقد شغلت تلك القضية الرأى العام، وأطلق رواد مواقع التواصل الاجتماعى، هاشتاج «راجح قاتل»، وقد قضت محكمة جنايات الطفل بشبين الكوم فى المنوفية، بالسجن 15 عاماً بحق محمد راجح، قاتل الشاب محمود البنا المعروف إعلاميًا ب«شهيد الشهامة». وقائع التحرش الجماعى التى شهدها الشارع المصرى كثيرة أشهرها تلك الواقعة التى جرت فى العام 2014 بميدان التحرير أثناء احتفالات فوز الرئيس عبدالفتاح السيسى فى الانتخابات، وقد زار الرئيس السيسى، السيدة «ضحية التحرش» وقدم لها اعتذارًا عما حدث قائلًا: «حقك علينا، معلش، متزعليش، حمد لله على السلامة، أنا تحت أمرك.. أنا تحت مرك أنا آسف». وتابع: «باتكلم على كل مصر، وبقول للقضاء عرضنا ينتهك فى الشوارع وده لا يجوز، حتى لا لو كان حالة واحدة، وبقول للإعلام فيه مسئولية علينا واتكلمنا قبل كده علشان فيه مسئولية على الجميع، الإعلام والشرطة والقضاء وكل راجل عنده نخوة وشهامة عيب عليك، تسيب الحالة دى تحصل حتى لو كانت حالة واحدة».
حوار مع متحرش فى محاولة من جانبنا لفهم ما يدور بعقل شخص أقدم على هذه الجريمة تحدثنا إلى «فتحى» صاحب ال25 عامًا والذى لا يرى أى غضاضة فى الاعتراف بممارسته للجريمة.. «مصر كلها بتتحرش لفظى » هكذا رد فتحى الذى قال لنا دون أى شعور بالحرج إنه واحد ممن مارسوا التحرش فى أكثر من مناسبة سواء كان التحرش لفظيًا أو جسديًا، وأن الكثير من أصدقائه «متحرشين». يوضح الشاب خريج كلية الحقوق جامعة بنها أنه يعرف بكون التحرش سلوكًا غير قانونى ولكنه يعرف أيضًا أن احتمالية ضبطه ضئيلة، وعندما سألناه إذا ما كان للتحرش علاقة بلبس الفتاة قال لنا إن المتحرش لا يهمه ملابس الفتاة ولكنه يذهب لجسدها، ورغم اعتراف فتحى بخوضه علاقات جنسية كاملة فإنه يبرر جريمته قائلًا: إن المتحرشين لديهم نقص واحتياج جنسى وهو ما يدفعهم لذلك. «عمرو» شاب آخر يبلغ من العمر 24 عامًا يتحدث عن نفسه كمتحرش ويقول: «ممكن تقول عنى متحرش مناسبات فأنا لا أتحرش سوى فى الأجواء الاحتفالية كالأعياد، ورغم أنى من محافظة القليوبية إلا أنى أحضر لمنطقة «وسط البلد» كل عيد.. التحرش مافيهوش متعة، بس أنا لازم أحتفل». ضحية التحرش تتحدث
«مش عارفة نروح منهم فين»، هكذا عبرت «منى» 27 عامًا، عن استيائها مما تتعرض له الفتيات من تحرش بالشوارع، وقالت إنها تتعرض يوميًا لمضايقات وتحرش لفظى من الشباب، وبصوت منكسر تحكى عن آخر واقعة تحرش تعرضت لها إحدى الفتيات داخل سيارة أجرة، «أنا لسه فاكرة صرختها، وشعرت بما أصابها لأنى بنت، فقد حاول هذا المتحرش اعتراضى بالشارع، ولكنى أسرعت لتجمع فى انتظار «ميكروباص» وهنا جاءت الضحية لاستقلال السيارة فتركنى واتجه لها وجلس بجوارها ولم يكن بالسيارة الكثيرين، وبعد دقائق صرخت الضحية بقوة وانهارت بالبكاء، صائحة «إلحقونى بيتحرش بيا». وتقول «شيرين» 20 عامًا إنها تعرضت للتحرش مرات عديدة لكن المرة الأصعب كانت فى احتفالات عيد الأضحى الماضى، حيث اعترضها مجموعة شباب بالمعادى، والتفوا حولها محاولين نزع ملابسها، تقول: «حينها فقدت أعصابى وكنت سأدخل حالة إغماء، ولكن إرادة الله أنقذتنى فقد انشقت الأرض عن صوت سيارة إسعاف أرعبهم وأنقذنى». عنف تجاه الجنس الآخر
قالت الدكتورة هدى زكريا، أستاذ علم الاجتماع إن التحرش ظاهرة عالمية ليست فى مصر فقط، وهى ناجمة عن مرض نفسى متعلق بالفعل الجنسى ينتاب بعض الرجال، وأن المتحرش إما تعرض للتحرش من قبل، أو يحاول ممارسة هذا الفعل كنوع من العنف تجاه الجنس الآخر، وأشارت إلى واقعة تدلل بها على أن المتحرش مريض نفسى، بأن منتقبة تعرضت للتلامس من شخص، فسألته لماذا تفعل هذا فأنا أرتدى النقاب، فكانت إجابته صادمة «أنا شايف جسمك فى خيالى». وأضافت «زكريا» لروزاليوسف، أن هناك شيوخًا يقدمون خطابًا تحريضيًا ضد أجساد النساء فى الزوايا والمساجد غير المراقبة، وبذلك يصنع دوافع لارتكاب جريمة الاعتداء على النساء، بداعى أن ملابسها ليست محتشمة، وأوضحت أستاذ علم الاجتماع، أن الخيال المريض للمتحرش يتفاقم فى المجتمعات المغلقة، التى تخلق لديه رؤية مرضية للجنس الآخر، مؤكدة أن التحرش لن ينتهى إلا عندما يتخلص المجتمع من الأمراض النفسية. «سيكوباتى» يحتاج العلاج
قال الدكتور ابراهيم مجدى حسين، استشارى الطب النفسى بجامعة عين شمس، إن أغلب المتحرشين يتعاطون المخدرات، ويرتكبون التحرش تحت تأثيره، مستغلين الزحام والتجمعات خلال الاحتفالات، مؤكدًا أن الأسوياء لا ينظرون للمرأة كفريسة، ويتعاملون معها بصورة طبيعية. وأضاف «حسين» أن المتحرش الذى لا يخجل من الاعتراف بتحرشه، شخص «سيكوباتى » متبلد المشاعر، يتعامل بسلوك حيوانى ويرى الضحية كفريسة له، مشيرًا إلى أن هذا النوع يحتاج للعلاج بعد توقيع العقوبة القانونية عليهم، مع ضرورة اتخاذ إجراءات تأديبية ضدهم فى جامعاتهم أو وظائفهم، ووصمهم بالتحرش، حتى يعودوا أسوياء.