«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسامة الغزولي يكتب: الشباب .. مائتا عام من التمرد

من أهم ثورات الشباب التي شهدها العام 2010 ثورة الشباب من حركة «تحرير أرض المتوسط» في سردينيا التي واجهت قوة جبارة هي قوة الجريمة المنظمة ممثلة في تنظيم المافيا الممتد من سردينيا إلي عموم إيطاليا ثم إلي مختلف أنحاء العالم، ولعلنا نذكر أن أهم رئيس وزراء في إيطاليا في القرن العشرين ألدو مورو اتهم بانتمائه إلي المافيا .
الثورة ضد المافيا ثورة ضد فساد لا يتغير بتغير الحكومات لأنه أقوي من الحكومات. ومعظم الناشطين البارزين في هذه الثورة ضد المافيا ومن يساندها من رجال السياسة ورجال الشرطة والقضاء كانوا أطفالا يلعبون علي سواحل سردينيا الجميلة عندما شنت المافيا حربها الشعواء علي الشرفاء من رجال القضاء.
وبقيت ذكري تلك الأيام العصيبة وصور الشهداء من القضاة في مخيلة الشباب حتي انفجرت الثورة في يوليو الماضي في اللحظة التي اختارتها كتائب المتطوعين الذين نظموا أنفسهم ضد المافيا وتشكيلات الجريمة المنظمة عندما استعرت الحرب بين هذه التشكيلات وخاصة بين «المافيا» والمنظمة الإجرامية الفتية «ندرانغيتا» . وغني عن القول أن الصراع بين المنظمات الإجرامية فتح الثغرات التي شجعت الشباب علي التمرد علي سلطتها الممتدة من صقلية إلي كل إيطاليا منذ قرون. ويزعم البعض أن المافيا موجودة منذ انتهي حكم المسلمين لجنوب إيطاليا في القرون الوسطي، وهو ما يشير ليس فقط إلي قوتها ولكن أيضا إلي عمقها التاريخي الذي يجعل الثورة عليها حدثا مهما، خاصة أن من قاموا بها شباب تمردوا علي خنوع شعبهم الذي استمر أحقابا طويلة، وعلي تورط المسئولين السياسيين والأمنيين مع المافيا وتسترهم عليها وتسهيلهم لأنشطتها.
- المافيا؟
حكومتنا تثق بهم
والطريف حقا أن صحفيا مصريا مقيما في روما طلب مني في التسعينيات أن أقدم ممثلا لإحدي الشركات لأي مسئول مهم أستطيع الاتصال به في القاهرة فاتصلت بالوكيل الأول السابق لإحدي الوزارات في مصر وذكرت له اسم الشركة التي تريد أن تبعث بممثلها إلي القاهرة فرد علي ذلك الوكيل الأول قائلا: هذه شركة من الشركات التي تحب الحكومة المصرية التعامل معها لأنها ملتزمون ويعتمد عليهم . لماذا؟ لأنهم إحدي شركات المافيا!! فعلاقات المافيا إذن، لا تغطي كل إيطاليا فحسب بل تمتد إلي معظم دول العالم، وتعد إسرائيل مركز عملياتها الرئيسي في الشرق الأوسط، والولايات المتحدة أهم بلد خارج أوروبا تمارس نشاطها فيه.
نضال الشباب ضد المافيا في إيطاليا غير مستغرب لأن الشباب في إيطاليا ومنذ قرنين صار روح العمل من أجل حياة أفضل وأجمل منذ أسس جوسيبي ماتزيني حركة إيطاليا الفتاة في 1831 لتوحيد الأمة الإيطالية. ومن هذه الحركة انبثقت حركة أوروبا الفتاة في 1835 وقد ظهرت حركة الشباب في منطقتنا كعنصر نشيط وإن كان سريع الاشتعال عندما أدخل الزعيم مصطفي كامل الطلاب إلي المعترك السياسي، فكان أول من فعل ذلك وفقا لما قاله لويس عوض في كتابه «تاريخ الفكر المصري الحديث».
ولكن التاريخ المصري هو - في هذه النقطة - غير منصف والعقل المصري العام غير منصف . فالحقيقة هي أن الشباب دخلوا بقوة إلي المشهد السياسي بإرادة حاكم مصر التركي الشاب عباس حلمي الثاني الذي صنع الزعيم الشاب مصطفي كامل باشا ودفع به إلي الأمام، وفي ظل هذين الشابين احتل الشباب موقعا متقدما في صفوف الحركة الوطنية، وقد غابوا عنه زمنا ثم عادوا في 25 يناير الماضي لاحتلاله بكل جدارة.
وقد بلغ اهتمام مصطفي كامل- ووراءه الخديو - بالتربية الوطنية للشباب أن أسس هذا الزعيم مدرسة حرص علي أن يكون تلاميذها من المصريين المسلمين والمسيحيين واليهود، وهنا قد نتلمس تأثير أستاذه عبد الله النديم الذي كان يري الوحدة الوطنية، خاصة بين الشباب من كل الطوائف، شرطا ضروريا لرشاد وفاعلية الحركة المطالبة بالاستقلال والدستور .
وبعد أن مات مصطفي كامل وهرب خليفته محمد فريد إلي المنفي وبعد أن عزل عباس حلمي الثاني من منصبه كحاكم للبلاد ظلت الأمة المصرية تئن ملتاعة: الله حي .. عباس جي . وبعد نفيه بسنوات طويلة تنازل عباس عن حقه في العرش. باعه لفؤاد الأول بحوالي ستين ألف جنيه مصري، وثمن عرش مصر بهذا الشكل لا يساوي ثمن شقة، حجرة وصالة، في أفقر أحياء القاهرة اليوم.
والأثر الأخطر لعزل عباس وغياب القادة التاريخيين للحزب الوطني وقرار إنجلترا بفصل مصر عن تركيا كان تطرف شباب الحزب الوطني.
وميلهم لمزج الدين بالسياسة وإعلانهم الخطير، الذي أنتج وطنية إقصائية صدامية متصلبة ومتوترة لا تزال سائدة ليومنا هذا، وهو الإعلان الذي يقول «لا تفاوض إلا بعد الجلاء». منذ تلك اللحظة، وحتي25 يناير 2010 ظهرت بين الشباب الوطني في مصر العقلية العصابية التي قاسي منها كل من أراد بمصر خيرا.
- الوطنية الإسلامية المسلحة
ورغم أن الحزب الوطني بذل جهدا كبيرا في ربط الوطنية بالإسلام وفي جعل العمل المسلح التعبير الوحيد عن الوطنية فإن الشباب القبطي لم يخل هذه الساحة للأغلبية المسلمة فأطلق شاب قبطي النار علي السلطان حسين وهو يمر في موكبه بشارع عابدين ولم يصب السلطان وقبض علي الجاني، كما جاء في الجزء الخامس من مذكرات سعد باشا زغلول، الذي صور عمق الاكتئاب الذي أصاب السلطان الذي كرهه الشباب، الذين حافظوا علي حيوية الروح الوطنية منذ غيب الموت مصطفي كامل باشا وحتي هبة .1919
وقد كره الشباب السلطان حسين لمجرد أنه قبل أن يتولي الحكم بعد خلع عباس الثاني حبيب الشعب . ولابد أن نعترف بأن قبول السلطان حسين لهذا المنصب تحت حراب الإنجليز لم يترتب عليه فقط موته مقهورا في حلوان ثم رفض ابنه الأمير كمال الدين أن يخلفه في الحكم، لكن الأخطر من ذلك أنه السبب الأول لسقوط شرعية الحكم في مصر وتحول الإحساس بعدم الشرعية إلي ثقافة تنميها وتتلمس المبررات لاستمرارها وتقتات عليها التيارات المتطرفة في كل العهود، إلي اليوم، لهذا فقد اعتبر المصريون ذلك الشاب القبطي الذي أطلق الرصاص علي السلطان بطلا.
ويعود إلي الظهور الشباب القبطي الوطني الذي يطلق الرصاص تعبيرا عن وطنيته في مشاهد تاريخية كثيرة أبرزها مشهد عريان يوسف سعد الذي كان واحدا ممن آمنوا بأن من يقبل التفاوض مع الإنجليز هو خائن يستحق الموت . هذا المبدأ الذي لا يمكن أن يكون صحيحا علي إطلاقه كان صحيحا في ديسمبر 1919 لأن اللورد ألفريد ملنر جاء إلي مصر بهدف التفاوض مع المصريين علي أن تكون لديهم مؤسسات للحكم الذاتي في ظل استمرار الحماية البريطانية، ورغم ذلك فالشباب مارس الإرهاب حماية لموقف الامتناع عن التفاوض ليس فقط غيرة علي مصالح الوطن ولكن أيضا لأن الخروج عن قرار سعد بالمقاطعة صار عملا يستحق الحكم بالإعدام، وهذا تكريس للوطنية الشمولية، في ظل زعيم ديمقراطي!!
ولم يجد السلطان فؤاد من يقبل أن يكون رئيسا للوزراء وأن يستقبل ملنر ويفاوضه بعد استقالة محمد سعيد باشا سوي يوسف وهبة باشا القبطي الذي استاء الأقباط من قبوله المنصب وحاول قادتهم إقناعه بالعدول عن ذلك فلم يستجب لهم.
وكان للشباب دور كبير في ذلك الظرف الثوري تحت إشراف وتوجيه من عبد الرحمن فهمي. وحسب مذكرات عريان يوسف سعد الممتلئة بآيات الشهامة والاعتزاز بالوطن يقول ذلك الشاب المنخرط في العمل الوطني أنه علم بصدور قرار باغتيال يوسف باشا وهبة فقرر أن يتولي هو هذه المهمة وألا يتركها لزميل مسلم حتي لا يحمل المسلمون دم قطب قبطي كبير، وكمن في موقع مناسب ينتظر مرور الباشا ليغتاله، وتجد في «موسوعة ناريخ أقباط مصر» حول واقعة محاولة الاغتيال التي عوقب عليها الشاب القبطي بالسجن عشرين عاما ما يلي:
جاء في صحيفة الأهرام بتاريخ 16 ديسمبر : في منتصف الساعة العاشرة خرج صاحب الدولة يوسف وهبة باشا رئيس الوزراء من منزله بشارع الشواربي، قاصدا ديوان المالية كعادته .. فلما وصل الأوتومبيل إلي شارع سليمان باشا قبالة النادي الطلياني، أسرع شاب كان جالسا في كافيه «ريش» إلي الرصيف الغربي من الشارع في ميدان سليمان باشا، وألقي قنبلة أخطأت الغرض لدوران الأوتومبيل بسرعة، ثم ألقي قنبلة أخري تجاوزت الأوتومبيل، فنزل الضابط سليم أفندي زكي وقبض علي الشاب، أما سائق الأوتومبيل فإنه دار بأوتومبيله وعاد بدولة الرئيس إلي منزله، فاستأنف دولته السير إلي وزارة المالية حيث قابل المهنئين.
- البطل المجهول
لكن البطل القبطي الأعظم في العشرينيات من القرن الماضي كان ذلك الطباخ المجهول الذي كان يعمل مع أحد الإنجليزيين وبعد أن اغتاله الشباب اتهم الطباخ القبطي بأنه القاتل وأعدم وقد كان يعرف أسماء الشباب الوطني المسلم الذين نفذوا عملية الاغتيال ولم يبح بأسمائهم وفضل أن يموت فداء لهم.
وفي الكتاب المهم «في ضوء القمر- مذكرات قادة العمل الوطني السري» يطرح الدكتور محمد الجوادي ملخصات وافية وشروحا لمذكرات ثلاثة من قادة النشاط العنفي السري آنذاك وهم عبد العزيز علي وعبد الفتاح عنايت وأحمد رمضان زيان . وفي مذكرات عبد العزيز علي نقرأ حكاية ذلك القبطي البطل دون أن نعرف من هو ولا ما هو عمره.
وقد تلاحظ أثناء قراءة هذا الكتاب - رغم انحياز مؤلفه الدكتور الجوادي للعمل المسلح - أن تحول الوطنية عند شباب مثل عبد العزيز علي إلي عقيدة قتالية خالصة قد اتخذ شكلا مرضيا حقا. فقد عين جمال عبد الناصر هذا الرجل وزيرا في مطلع العهد الثوري، لكن الرجل لم يحتمل أعباء العمل القانوني والدستوري العقلاني والمنظم الذي به تبني الأمم وخرج من الوزارة.
وفي 1964 كانت لديه منذ أيام شبابه الإرهابي قنينة فيها مادة سامة أراد في عام1927 أن يدسها في طعام نجيب الهلباوي عقابا له علي دوره في إصدار أحكام بالإعدام علي الضالعين في اغتيال شخصية عسكرية بريطانية كبيرة، ولما لم يفلح في دس السم للهلباوي، أحد أعظم المحامين في تاريخ مصر، احتقظ بها سبعة وخمسين عاما ثم أهداها لفريق من الإخوان المسلمين علم أنه يستعد لاغتيال عبد الناصر. لقد كان السم الأخطر لدي عبد العزيز علي هو ذلك التحول الذي أصاب العقل الوطني بالمرض منذ أزمة الحزب الوطني وتحوله إلي حزب متطرف عقب وفاة قادته التاريخيين وخلع عباس حلمي وفصل مصر عن تركيا بقوة الإنجليز وفاقم بروز حزب الوفد كقيادة للأمة من أزمة الحزب الوطني، بالحزب الذي صار يخشي السقوط في ظلمات النسيان وفي أجواء الخوف ينمو الميل العصابي إلي التخويف.
وسوف تجد في مذكرات سعد باشا زغلول أنه يشكو مر الشكوي من انشغال الشباب بالسياسة لدرجة تنسيهم المهمة الأولي الملقاة علي عاتقهم في معركة التمصير وهي أن يجتهدوا ليصبح في مصر المحامي المتميز والطبيب المتميز والمدرس المتميز، لكن الشباب ظلوا يحتلون مساحة كبيرة من فضاءات العمل الوطني، وكلنا يعلم أن مؤسس الجمهورية جمال عبد الناصر كان زعيما لطلاب المدارس الثانوية في الثلاثينيات وأصيب في المظاهرات الطلابية إصابة بقي أثرها معه طوال حياته. ويعد العام 1946 في تاريخ مصر نقطة تحول في النشاط السياسي للشباب، لأن بروز أدوار الشباب المنتمي للمنظمات الشيوعية ولجماعة الإخوان المسلمين في ظل لجنة العمال والطلبة التي تشكلت في ذلك العام، جدد ثقافة التطرف الموروثة عن أزمة الحزب الوطني . ومنذ تلك السنة والتطرف يثقل علي العقل العام، رغم المحن التي قاساها دعاة التطرف الشيوعيون والإخوان المسلمون، وهم يتمردون علي الدولة متهمين إياها، حتي في زمن عبد الناصر بأنها ليست ثورية بما يكفي.
ومن الأحداث البارزة في 1946 فتح كوبري عباس علي المتظاهرين وضغط القوات المهاجمة عليهم وإجبارهم علي التراجع حتي تساقطوا في النيل، وأسوأ ما جري لتلك الانتفاضة ولغيرها من الانتفاضات الطلابية أن روحها سجنت في قصائد رومانسية كتب واحدة منها الشاعر العبقري صلاح جاهين وهي قصائد تخفي دلالاتها الاجتماعية والسياسية وتجعل من الصعب تثمينها بتعقل وتوازن، حتي بعد حدوثها بعشرات السنين.
وقد كان من أهم أهداف الرئيس المؤسس جمال عبد الناصر أن يقتلع التطرف وأن يعقلن حركة الشباب فأنشأ منظمة الشباب التي قادها رجال محترمون من أبرزهم الدكتور حسين كامل بهاء الدين والدكتور أحمد كمال أبو المجد، لكن عبدالناصر واجه هبة الشباب في 1968 ، وهي الهبة التي أسفرت عن تحولات في مسار الحكم بدأت مع صدور بيان 30 مارس وأظهر ناصر حكمة بالغة عندما عين أحد أبرز زعماء الشباب آنذاك وهو الدكتور عبد الحميد حسن وزيرا للشباب .
- حسن وكوهن
ولم تكن الهبة المصرية في 1968 مجرد رد فعل لحدث محلي بل كانت، مثل الهبة الشبابية في ميدان التحرير اليوم، أمرا يتعين البحث عن دلالاته في إطار تطورات عالمية مهمة، والإطار الدولي للهبة المصرية في 1968 هو حركة الاحتجاج الشبابية العالمية التي بدأت في ألمانيا الغربية في 1968 ضد ما اعتبره الشباب حكما تسلطيا ووسط ظروف تأزم اقتصادي مصحوب بضعف واضح في دور المعارضة في ألمانيا، وتطورت إلي المطالبة بتعميق الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبشن حملة عالمية للضغط علي واشنطن لوقف حرب فيتنام، وبالحيلولة دون صدور قانون للطوارئ في ألمانيا كان مزمعا إصداره لقمع المنددين بسياسات أمريكا في فيتنام وفي العالم.
وانتقلت الاحتجاجات الطلابية من ألمانيا إلي فرنسا بقيادة الشاب اليهودي الألماني الفرنسي دانييل كوهن - بيندت الذي كان ينشر الثورة الطلابية حيث ذهب، هذه الاحتجاجات الطلابية أسفرت بعد انتقالها إلي فرنسا عن انضمام أحد عشر مليونا من شباب العمال إلي الطلاب فاهتزت الجمهورية الفرنسية الخامسة بقيادة ديغول الذي أجري استفتاء علي رئاسته، قبل أن تبلغ ولايته نهايتها ليتأكد من أنه يملك الشرعية اللازمة للاستمرار في قيادة البلاد، ورغم أن الأغلبية صوتت لصالحه فقد رفض الاستمرار في الرئاسة لأن الأغلبية لم تكن كبيرة بما يطمئنه إلي أن القاعدة الشعبية للحكم قوية بما يرضيه .
وعندما وصل دانييل كوهن ذ بيندت إلي بريطانيا مطرودا من فرنسا في 1968 أعرب الإعلام البريطاني عن المخاوف من أن ينقل إلي البلاد روح التمرد الشبابي، لكن دانييل الذي اشتهر في شبابه باسم «داني الأحمر» بسبب ماركسيته وبسبب لون شعره يعرف اليوم باسم «داني الأخضر» لأنه منذ 2009 العضو البارز في البرلمان الأوروبي بين الأعضاء الداعين إلي حماية البيئة، بعد أن انتقل من الأيديولوجية الماركسية الحمراء إلي عضوية حزب الخضر.
هل تحب أن تقارن بين مسيرة الزعيم الطلابي المصري عبد الحميد حسن ومسيرة الزعيم الطلابي الأوروبي «داني ذ الأحمر ذ الأخضر» ؟ قارن كما شئت ولكن مصدر التفاوت في نظري بين ما آل إليه كل منهما هو أن الشاب عبدالحميد حسن احتضنته البيروقراطية المهيمنة علي الشعب و«داني الأحمر- الأخضر» احتضنته الديمقراطية الأوروبية.
وكإنسان عاش فترة عبد الناصر الذي لقي وجه ربه وأنا في الخامسة والعشرين فأنا أقول لك إن أحكام الطيران في 1968 أعطت الشباب في مصر شيئا يتظاهرون من أجله، وهو أمر أعرف الآن أنهم كانوا يتوقون له: وسط الإجماع للقاتل كل فردية يصبح التمرد، ولو من غير سبب حلما نبيلا . هل تذكر فيلم الشاب الأبدي جيمس دين «متمرد بلا قضية»؟
كنت أتعجب أشد العجب عندما أجد طلاب مدرستي يشتبكون مع الناظر والمدرسين ومع البوليس من 1957 حتي 1963 لكي يخرجوا إلي الشارع في مظاهرة تهتف بحياة جمال عبد الناصر. آخر مظاهرة شهدتها ضد عبد الناصر كانت في تلا منوفية من أجل عودة محمد نجيب في 1954 وقال زعيم المظاهرة الشاب في نهايتها إننا سنستأنفها غدا وبعد غد وحتي يعود نجيب . وعلي حد علمي لم تستأنف ولم أهتم في اليوم التالي بما جري له أو لنجيب.
- الكعكة الحجرية
قبضة الحنان الأبوي الناصري الخانق ارتخت مع صدور أحكام الطيران، بعد هزيمة يونيو. وهتف الشباب ضد عبد الناصر لأول مرة منذ14 سنة وكان صدي الهتافات في أذني غريبا وأنا أقف أمام قصر محمد علي بالمنيل، ورغم أنني لم أشارك فقد عدت إلي البيت لأجد ضابط مباحث ينتظرني في الصالون ويهددني بسجن أبي، وليس بسجني أنا، إن شاركت في مظاهرة. وكان أبي قد خرج من السجن قبلها بعدة أشهر في قضية سياسية لا ناقة له فيها ولا جمل.
منذ ذلك التاريخ وحتي 1977 أصبح الشتاء، وخاصة يناير، موعدا للتظاهرات الشبابية، وكانت مظاهرات 1972 التي احتل فيها الطلاب ميدان التحرير وقضوا فيه الليل حتي هجمت عليهم قوات الأمن بقسوة غير مبررة وشتتتهم في الفجر، أشهر انتفاضات السبعينيات.
أعطي الشاعر أمل دنقل أحداث تلك الليلة طابعا رومانسيا بقصيدته «الكعكة الحجرية» واعتبر شاعر تلك الفترة الثوري أحمد فؤاد نجم أن انتفاضات الشتاء الطلابية السنوية هي «بشاير ... في يناير كل عام» وفسر الكثير من الباحثين التمردات الدورية آنذاك تفسيرات كثيرة، لكنني أميل اليوم إلي اعتبارها، رغم محتواها الوطني ذ الاجتماعي الواضح، تطلعا إلي جولة خارج السور، تملصا من القبضة الأبوية الخانقة التي يمكن أن تدرك خطورتها بمقارنة مسيرة عبد الحديد حسن بمسيرة «داني- الأحمر - الأخضر».
وقد نستلهم من كلمات أحمد فؤاد نجم - التي ظللت أرفضها لعشرات السنين - تفسيرا آخر يعتمد علي ما قاله مؤسس حقوق الإنسان الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون عندما اعتبر وقوع تمرد بين الحين والحين أمرا ضروريا لصحة الكيان السياسي، تماما كما أن الأعاصير أمر ضروري لصحة النظام البيئي. ربما لأن الرياح تنهي ركود البيئة الطبيعية وتزيد من خصوبة الأرض والفورات السياسية تجدد الحيوية في البنية السياسية وتزيد خصوبة العقل العام، هذا الذي قرأته لجيفرسون قبل شهور جعلني مستعدا لتقبل الوصف الإيجابي الذي وصف به نجم الهبات الشتوية السنوية لشباب السبعينيات، بعد أن ظللت رافضا له أكثر من ثلاثين عاما.
- الحنان المصري
لكن النموذج الذي نجده في مسيرة متمرد مثل «داني- الأحمر ذ الأخضر» وهو النموذج الذي يسمح بقدر من الحركة الحرة التي تفضي إلي تحول إيجابي هو أفضل، علي أية حال، من نموذج جيفرسون ذ نجم . ففتح أبواب التعبير السلمي والمنظم علي النحو الذي أجبرتنا حركة 25 يناير المصرية علي القبول به والانحناء أمامه يبدو أنه الطريق إلي المستقبل.
لكني لا أحب الصورة التي رسمها أمل دنقل لليلة الطلابية التي انتهت بهجوم أمني شرس علي الطلاب . ولا أحب التفسير الذي تفرضه قصيدته للمشهد. وأجد في السطر الثاني من المقطع الأول، وفي سطرين قرب نهاية المقطع ذاته، وفي لغة الهتاف الأجوف التي تدوي في أنحاء العالم الذي شيدته هذه القصيدة تأثرا بلغة الحوار وببعض المشاهد النمطية في السينما الهوليودية الشعبية :
أيها الواقفون علي حافة المذبحة
أشهروا الأسلحة!
سقط الموت، وانفرط القلب كالمسبحة.
والدم انساب فوق الوشاح!
المنازل أضرحة،
والزنازن أضرحة،
والمدي.. أضرحة
فارفعوا الأسلحة
واتبعوني!
أنا ندم الغد والبارحة
رايتي: عظمتان.. وجمجمة،
وشعاري: الصباح!
انظر أيها القارئ إلي ميدان التحرير اليوم7 فبراير ولاحظ ما يقولون، وأنصت لما يقولون، وانس الأضرحة والمذبحة والبارحة. وتعلم درسا جديدا في «الحنان المصري» الذي قال جيل بيرو إنه ذ في صورته الإيجابية برأيي وليس في كل صوره ذ العنصر الحاسم في اللحظات التاريخية عندنا، ومن أهم الصور الإيجابية لهذا الحنان المصري أن نائب الرئيس عمر سليمان اجتمع بممثلي الشباب حول مائدة مستديرة!! مائدة مستديرة!! «الحنان المصري» يصنع التاريخ الآن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.