تكشف تقديرات منظمة الصحة العالمية أن ما يقارب 800 ألف شخص يَلقى حتفه كل عام منتحرًا، ومقابل كل حالة انتحار ناجحة هناك عشرات المحاولات الفاشلة كل عام، والانتحار ثانى أهم سبب للوفاة بين من تتراوح أعمارهم ما بين 15 و29 عامًا، و79% من حالات الانتحار فى العالم تحدث فى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل. ويعتبر ابتلاع المبيدات والشنق والأسلحة النارية من بين الأساليب الأكثر شيوعًا للانتحار على مستوى العالم. ويبلغ عدد الرجال الذين يموتون منتحرين ثلاثة أضعاف عدد النساء المنتحرات فى البلدان الأغنى، لكن فى البلدان المنخفضة والمتوسطة فى الدخل تكون نسبة الذكور إلى الإناث أقل بكثير. وطبقًا لدراسات وأبحاث منظمة الصحة العالمية أيضًا لا يوجد سبب محدد للانتحار، فقد تؤدى بعض العوامل إليه مثل الظروف الاقتصادية أو اضطرابات العلاقات العاطفية أو الاعتداءات الجنسية أو الفشل الدراسى أو المهنى أو تعاطى المخدرات أو الإحساس بالوحدة والخوف من المستقبل أو بعض الأمراض العقلية والنفسية مثل الاكتئاب أو القلق المزمن أو انفصام الشخصية إلى الانتنحار. ورُغم أن مصر تأتى فى مقدمة الدول العربية فى الترتيب الصادر عن منظمة الصحة العالمية عام 2016م بواقع 3799 حالة ؛ فإنها تأتى فى ترتيب متأخر عالميّا، إذ تحتل المرتبة رقم 150، ويعلم جيدًا المتخصصون فى علم النفس والاجتماع أن الانتحار لا يُعتبر سمة راسخة فى الشخصية المصرية على مَرّ العصور، فالمصرى مُتدين بطبعه ومؤمن بالقضاء والقدَر علاوة على قدرته العالية على التكيُّف، ولم يكن اللجوء للانتحار والعدوان على الذات من بين صفات أفراد الأسرة. ومع انتحار خريج كلية الهندسة من فوق برج القاهرة وإلقاء شاب آخر نفسه أمام عربات المترو الأسبوع الماضى أصيب الكثيرون بالخوف على شبابنا الذى نراه دائمًا منطلقًا ومطلعًا، مُهتمًا بما يحدث حوله. الخوف لم يكن وليد الموقف الأخير فقط، فقد أجرت الدكتورة حنان أبو سكين- أستاذ العلوم السياسية المساعد بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية- دراسة استطلاعية من داخل مركز علاج السموم بقصر العينى تحت عنوان «حالات الانتحار فى مصر: قراءة فى مؤشرات الخطر»، رصدت فيها، من خلال حالات الانتحار التى تم إنقاذها، الأسباب وأساليب الانتحار. الدكتورة حنان حصلت على عيّنة عشوائية عددها 58 حالة حاولت الانتحار، كانت 28 إناثًا و20 ذكورًا، واكتشفت أن الغالبية العظمى من هؤلاء أعمارهم من 18 إلى 35 عامًا «75٪» هى السّن المفحمة بالطاقة والسعى لتوفير الالتزامات المعيشية، فإذا أصابته مشكلة قد يحبط أو ييأس علاوة على نقص خبرته بالحياة فيكون التفكير فى الانتحار أكثر احتمالية. أمّا حالات هؤلاء الاجتماعية فكان منهم 19 متزوجًا و20 غير متزوج وحالة واحدة مطلقة وأخرى أرملة و7 حالات دون سن الزواج، ومن بين هؤلاء 12 عاملًا وثلاثة لا يعملون وعشرة ربات منزل و17 طالبًا. سأل الاستطلاع هؤلاء عن الأسباب التى دفعتهم لمحاولة الانتحار فكانت بالترتيب الخلافات الأسرية وضغوط أسرية بعد الطلاق والمعاملة السيئة من الأسرة وخيانة الزوج والعنف الزوجى والاعتداء على الزوجة بالضرب ورفض تطليق الزوجة والخلافات الزوجية والتورط فى علاقات غير مشروعة، والتعرض للاغتصاب وينتج عنه حمل وعلاقة عاطفية ورفض الأسرة زواج الفتاة والفشل فى خطبة فتاة وفسخ الخطبة، ويلى هذه الأسباب الاكتئاب والشعور بالفقد بعد موت أحد الأصدقاء والشعور بالفقد بعد وفاة الأب والحزن الشديد بعد موت الأم، ثم يأتى وبنسب أقل الرسوب فى الامتحان والجامعة والبطالة والمرور بضائقة مالية وتراكم الديون. ووجد الاستطلاع حالة واحدة فقط حاولت الانتحار بسبب ممارسة لعبة الحوت الأزرق، ولاحظ حالات حاولت الانتحار لبعض الأسباب التى تبدو بسيطة مثل الفشل فى الدراسة أو علاقة عاطفية، إلا أن السبب الحقيقى كما قال الاستطلاع يكمُن فى عدم الرضا عن الواقع الذى يعيشه الإنسان نتيجة تراكم الضغوط النفسية متعددة الأشكال. والخلاصة وكما أظهر الاستطلاع؛ أن القاسم المشترك بين غالبية حالات الانتحار هو الشعور باليأس وفقدان الأمل. وانتقل استطلاع الرأى إلى أساليب الانتحار، فكان تناوُل مادة كيميائية بالفم هو الأسلوب الأكثر شيوعًًا، وتراوحت المادة ما بين مبيد حشرى سم فئران وجرعة زائدة من المسكنات وجرعات أدوية زائدة وأقراص مخدرة بكميات كبيرة وحبوب حفظ القمح والصبغة، وفسر الاستطلاع السبب لاستخدام هذه المواد لسهولة الحصول عليها؛ لأنها فى متناول يد الشخص الراغب فى الانتحار. يلى هذا الأسلوب الانتحار بالشنق من خلال شريط بطانية وغطاء الرأس والستارة ثم القفز من مبنى مرتفع وشرفة المنزل ثم الغرق بالقفز فى نهر النيل ثم الانتحار بطلق نارى وإلقاء أسفل عجلات المترو وأمام القطار وإشعال النيران . واكتشف استطلاع الرأى أن بعض المنتحرين تركوا رسائل مكتوبة لأسرهم وآخرين كتبوا رسائل على حساباتهم بموقع الفيس بوك يحتوى على فقدان المعنى فى الحياة. كما اكتشفت الدراسة أن %50 ممن حاولوا الانتحار سبق لهم محاولات أخرى للانتحار. الاستطلاع انتهى إلى أنه لا توجد إحصاءات رسمية معلنة عن الانتحار فى مصر لمحدودية تسجيل نسبة حالات الانتحار، ولأن الثقافة الشائعة أن المنتحر وصمة على جبين أسرته لهذا دائمًا تنفى الأسر أن أحدًا من أفرادها حاول الانتحار. لهذا؛ طالب الاستطلاع بالاعتراف المجتمعى بأن المرض النفسى كباقى الأمراض وإطلاق خدمة الاستشارة الاجتماعية والنفسية لمن يعانون مشكلات سواء فردية أو داخل الأسرة سواء من خلال الزيارات المباشرة أو الهاتف أو حتى تطبيقات الموبايل وقيام وزارة التضامن الاجتماعى بالتعاون مع بعض المؤسّسات بإطلاق حملة بهدف الاكتشاف المبكر لإمكانية قيام أحد الأفراد بالانتحار. وأخيرًا كشف الاستطلاع كيفية معرفة الشخص المُقدم على الانتحار وكيف للوالدين متابعة سلوك الأبناء المُقدمين على الانتحار وهى تعكر المزاج للأسوأ بشكل ملحوظ والشعور الدائم بالحزن واليأس ومشاعر ذاتية بعدم القيمة والأهمية والانعزال والانطواء والابتعاد عن أفراد العائلة والأصدقاء والأنشطة والهوايات المحببة التى يمارسها الفرد فى أوقات الفراغ، والنظرة القاتمة للمستقبل وتغير ملحوظ فى عادات النوم والأكل والشعور بالملل الدائم وضعف الثقة بالنفس واختيار موضوعات تتحدث عن الموت وإهمال الواجبات المنزلية والدراسية والهروب من المنزل وإهمال العناية بالمظهر وارتداء الثياب. د. أيمن فتحى عبدالرحمن- استشارى العلاج النفسى الأسرى- قال لنا إن: %90 من المترددين على عيادتى النفسية الآن من الشباب من المرحلة الثانوى إلى ما بعد التخرُّج يشتكون من القلق والاكتئاب ويشعرون بالخوف والضياع فاقدى الأمان فى البيت لديهم هواجس وشكوك أن بابا وماما سينفصلان لأن بابا يغيب كثيرًا عن البيت وعندما نسأل ماما تقول اسألوا بابا، ونسأل بابا يقول اسألوا ماما، إنه الخوف وعدم الأمان يشعرون بالقلق الذى يتطور إلى الاكتئاب، فالعزلة عن من حولهم ويهمل فى نفسه وأخطر ما فى الاكتئاب تطوره عندما يصل المكتئب إلى أن الحياة متساوية مع الموت، هنا يحدث الانتحار. وأكد لنا الدكتور أيمن أن الانتحار عندنا فى مصر الآن ليس بسبب الحالة الاقتصادية وإنما بسبب الحالة الأسرية المفككة. لافتًا إلى أن فيس بوك والسوشيال ميديا ليسا السبب وإنما الأب والأم المشغولان عن أبنائهما بالفيس والسوشيال ميديا والعمل ولا يسمعانهم ولم يسألانهم عن أحوالهم ولو ربع ساعة فى اليوم. العيادات أصبحت مليئة بالشباب، %60 من الأولاد و%40 من البنات نبدأ معهم بأدوية المهدئات والمضادات للاكتئاب وعمل جلسات اجتماعية نفسية نستمع إليهم جيدًا نلتقط نقطة مضيئة من كلامهم ونركز عليها ونعطيهم الأمل ونطالب بحضور الأب والأم وننصحهما بالاهتمام بأبنائهما وإعطائهم الأمل، وللأسف الشديد نكرر ونقول للولد والبنت حاولوا التقرب أنتم للأب والأم تحدثوا معهم رغم المفروض العكس؛ خصوصًا أننا نرى شلل الشباب على الكافيهات والمقاهى طوال الليل والنهار، والحقيقة ومن خلال تحدثنا مع الشباب فى العيادات هؤلاء لم يتحدثوا عن مشاكلهم مع بعضهم، هؤلاء يتحدثون عن أحدث أغنية وفيلم، فأنا مع مبادرة «100 مليون صحة نفسية»، وأحب أن أضيف إليها التوافق الأسرى لكى نعيد للأسرة ترابطها مع بعضها.