أخيرًا بدأت بحيرة المنزلة، فى العودة لاحتلال مكانتها الطبيعية كإحدى أهم المزارع السمكية الطبيعية فى مصر، بفضل المشروع القومى لتطهير البحيرة الذى أطلقه الرئيس عبدالفتاح السيسى قبل عام ونصف العام بعد إهمال استمر نحو نصف قرن، أدى إلى تقلص مساحة البحيرة لنحو النصف. وبحيرة المنزلة واحدة من 13 بحيرة تسهم بنصيب كبير من إنتاج الأسماك، بجانب أنها محمية طبيعية، تشكل محطة تستقبل الطيور المهاجرة فى فصل الشتاء، لكن رُغم جَمالها الفريد؛ فإنها تعرضت- المنزلة- على مدار سنين سابقة لتعديات وتلوث وصيد جائر وعشوائيات لتغيير ملامح هذه البحيرة. تاريخ جديد لهذه البحيرة الاستراتيجية بدأ بعد نجاح إزالة معظم التعديات واستعادة توازنها البيئى وثروتها السمكية، ورد الاعتبار للصيادين الذين بدأوا فى مزاولة مهنة الصيد مرّة أخرى، إذ تعود جذور المشكلة، التى طالت معظم البحيرات الطبيعية فى مصر تقريبًا، إلى عقود مضت، فوفقًا للهيئة الرقابية الإدارية كانت مساحة هذه البحيرة فى عام 1973، تصل إلى 491 ألف فدان، فيما تقلصت مساحتها بسبب التعديات وقلة إنتاجية الأسماك بسبب التلوث والصيد الجائر إلى أقل من 200 ألف فدان قبل الشروع فى هذا المشروع. فلسفة المشروع: بدأ مشروع التطهير، عقب تشكيل لجنة ضمت محافظاتالدقهلية وبورسعيد ودمياط وهيئة الثروة السمكية، والهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وتشمل عملية التطوير محاور رئيسية، تتضمن تقسيم البحيرة إلى ثلاثة قطاعات يعمل بها ما يزيد على 100 حفار برى ومائى، لتنفيذ عدد من الأعمال، أولها الانتهاء من إزالة النباتات المائية والتعديات بإجمالى مساحة 31 مليون متر مربع. يتضمن المشروع أيضًا تكريك وتعميق وتطهير البواغيز الواقعة على الطريق الدولى الساحلى بطول 18 كيلومترًا، وإنشاء طريق يبدأ من حدود محافظة دمياط وربطه مع محور 30 يونيو، بطول نحو 85 كيلومترًا، ومن المخطط له أنه عقب أعمال التطوير التى تستمر لعامَين انقضى أكثر من عام منهما، أن تتم زيادة المسطح المائى للبحيرة ومساحات الصيد الحُر وتحسين خواص المياه وارتفاع إنتاج البحيرة من الأسماك لتزيد على 100 ألف طن سنويّا، بجانب إنشاء حزام الأمن الذى سيساهم على القضاء على التعديات. وتشارك وزارة الداخلية فى هذا المشروع ممثلة فى إدارة شرطة المسطحات المائية، التى تتولى حماية البحيرة من كل أشكال التعديات السابقة. الوضع الراهن: نجحت خطة التطوير فى إزالة آلاف التعديات بمساحة بلغت أكثر من 26 ألف فدان حتى الآن، وذلك من إجمالى مساحة تعديات تصل إلى 125 ألف فدان، حددتها هيئة الرقابة الإدارية، ويتضمن المشروع إقامة محطة معالجة مياه صرف بحر البقر سيوفر نحو 5 ملايين متر من المياه، لتصل كميات المياه المتدفقة إلى سيناء يوميّا لنحو 10 ملايين متر. تقوم خطة التطهير على إنهاء مشاكل البحيرة التى تتمثل فى نمو الحشائش حتى أغلقت البواغيز التى تغذى البحيرة بالمياه المالحة المتجددة، إضافة إلى الرواسب من مخلفات المصارف؛ حيث يصب فى بحيرة المنزلة 5 مصارف رئيسية من ضمنها مصرف بحر البقر، وهذه المصارف تصب نحو 12 مليون متر مكعب يوميّا. لذلك يركز مشروع التطوير، على تكريك البحيرة من خلال إزالة الرواسب والحشائش، بجانب منع مياه الصرف الصحى والزراعى التى كانت تصب فى البحيرة، عبر توجيهها للمحطات التى تقام حاليًا؛ لتوجيه هذه المياه لشرق القناة عبر صحارة السلام، لتندمج مع المياه التى تأتى من ترعة السلام لتصل فى الشرق إلى ترعة الشيخ جابر، لاستكمال مشروع استصلاح ال400 ألف فدان فى سيناء. عودة الأسماك المهاجرة: قامت الهيئة الهندسية بتكريك البحيرة بحفارات، وبدأ المشروع بالكراكات الصغيرة الموجودة بالسوق المحلية، ولكن عندما وجدت الهيئة أن معدلات التكريك لن تستطيع أن تنجز العمل فى التوقيت الذى وضعه الرئيس السيسى للانتهاء من مشروع التطوير، تعاقدت الهيئة الهندسية على 10 كراكات جديدة، عن طريق التعاقد مع أكبر شركة هولندية لإنتاج الكراكات فى العالم. وتستطيع الكراكات العاملة بالمشروع الوصول إلى عمق 14 مترًا، لكن هيئة الثروة السمكية الشريكة فى المشروع، التى تتولى عملية الاستشارة الفنية، حددت عمقًا محددًا لا يتعدى 1.5 متر إلى 2 متر، كوْن أن هذه هى البيئة المناسبة لتربية وتكاثر الأسماك. اقتصرت أنواع الأسماك التى تُربَّى فى بحيرة المنزلة قبل مشروع التطوير، على أسماك البلطى والقراميط، لكن بعد تكريك البحيرة وفتْح البواغيز ودخول مياه البحر المتوسط بدأت أسماك المياه المالحة تنمو فى البحيرة من جديد، أهمها أسماك القاروص والدنيس التى بدأت فى الظهور فى البحيرة مرّة أخرى. وتتضمن خطة المشروع أيضًا، منع الصيد الجائر المتمثل فى الصيد بالتيار الكهربائى واللنشات السريعة، الذى كان يقضى على الأسماك فى البحيرة ويسرق الذرّيعة من البواغيز. وأظهر تقرير أصدرته هيئة الثروة السمكية قبل أيام، نتائج تحليل عينات من مياه البحيرة أكدت تَحسُّنَ نوعية المياه داخل البحيرة ومتابعة التغيرات التى حدثت بعدما تم رصد عودة عائلات من الأسماك المهاجرة من نوعيات الأسماك الفاخرة للبحيرة مرّة أخرى بعد غياب سنوات طويلة، ومنها أسماك البورى والدنيس والقاروص واللوت. ووفقًا للتقرير تمثل هذه العائلات نحو %70 من مجموعات الأسماك التى كانت تعيش وتتكاثر فى البحيرة، وهو مؤشر أكثر من ممتاز أن مشروع التطهير يسير على الطريق الصحيح لاستعادة جميع أنواع الأسماك المهاجرة؛ لاسيما أن النسبة العظمى من زرّيعة الأسماك عادت للبحيرة أيضًا. وأكد التقرير أن الهيئة تنفذ إزالة التعديات من الحُوَش والتحاويط التى كانت موجودة داخل بحيرة المنزلة، وكانت تمثل اعتداء صارخًا على حركة الأسماك والزرّيعة بالبحيرة ساعدت بشكل كبير فى عودة الحياة الطبيعية للأسماك والسماح لها بالتكاثر الطبيعى، وبالتالى زيادة كمياتها، وهو هدف قومى لتنمية الثروة السمكية. التكلفة الاستثمارية للمشروع: وفقًا لتقديرات رئاسة مجلس الوزراء، تقدر استثمارات المرحلة الأولى من المشروع بأكثر من 40 مليار جنيه، وتشمل هذه المرحلة إقامة محطة معالجة لمياه الصرف ترعة بحر البقر، التى يستغرق إنشاؤها نحو 3 سنوات، وهناك خمسة مصارف تلقِى مياهًا للصرف الصحى والصناعى والزراعى فى بحيرة المنزلة؛ لذلك يُخصَّص الجزء الأكبر من تكلفة هذا المشروع لإنشاء محطات المعالجة، ويشترك البنك الدولى فى تمويل هذا المشروع من خلال قرض يصل لنحو 500 مليون دولار، بجانب الاعتمادات التى توفرها الخطة الاستثمارية للدولة التابعة للموازنة العامة. وأكد مجدى زاهر، المدير التنفيذى لبحيرة المنزلة، أن المشروع بدأ منذ إشارة الرئيس بالبدء فى المشروع فى 15-5-2017، بعدها قامت الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة بالتعاون مع الهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية، بقياس وتوزيع بحيرة المنزلة إلى قطاعات لرفع كفاءتها إلى سابق عهدها؛ حيث كانت مساحة البحيرة تقلصت لتصبح 180 ألف فدان، لكن الآن بعد مرحلة من التطهير أصبحت مساحتها 250 ألف فدان. وأضاف «زاهر»: إن مشروع التطوير أدى إلى تحسن نوعِى وبيئى، بعد تحسن المياه، بعد إزالة الحُوَش والسدود، وبسبب هذا التحسن عادت أنواع جديدة من السمك؛ خصوصًا بعد تطهير البحيرة من البشنيل وورد النيل بنسبة 40 % حتى الآن. من جانبه قال طارق حسين، مدير تكريك البحيرة: إن أعمال التكريك من أهم الأعمال الخاصة بمشروع التطوير للوصول للأعماق المناسبة لنمو الأسماك. مشيرًا إلى أن هذه العملية مهمة للغاية؛ لمنع نمو الحشائش مرّة أخرى بالبحيرة. وأضاف إنه بعد المرحلة الأولى من إزالة الحشائش لا بُدّ أن تتبعها مرحلة ثانية من التكريك؛ حتى لا تنمو الحشائش مرّة أخرى. مضيفًا إن مشروع التكريك يشمل عددًا من المراحل، المرحلة الأولى تصل مساحتها من 6 إلى 8 كيلومترات مربعة. فيما أكد محمد السعدنى، أحد الصيادين بالبحيرة، أن أعمال التطوير جعلت البحيرة متسعة أمام جميع الصيادين. مشيرًا إلى أنهم يمارسون عملهم بكل حرية دون تعرُّض أصحاب التعديات لهم. وأشار إلى أن عمليات التطوير أدت إلى اتساع البحيرة، مما جعل الصيد بها أكثر من ذى قبل؛ لأن الخير أصبح وفيرًا، وهو ما يفتح أبواب زرق لآلاف الصيادين. قانون تنمية البحيرات: نظرًا للأهمية الاقتصادية للبحيرات الطبيعية التى يصل عددها إلى 11 بحيرة على مستوى الجمهورية، أصدر مجلس الوزراء نهاية مايو الماضى قانون جهاز حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية. وينص القانون على إقامة كيان مؤسسى يكون مسئولًا عن إدارة البحيرات فى مصر، ومتابعة أعمال تطويرها والمحافظة عليها، والتأكد من الاستفادة المُثلى من هذه الثروة القومية المهمة، سواء على مستوى الإنتاج السمكىّ؛ بحيث يضمن إنتاج كميات كبيرة من الأسماك العالية الجودة أو على المستوى السياحى. وينص القانون على إنشاء هيئة عامة اقتصادية لحماية وتنمية البحيرات السمكية تسمى «جهاز حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية»، ويكون- الجهاز- له الشخصية الاعتبارية ويتبع رئيس مجلس الوزراء، ويكون مقرّه الرئيسى القاهرة، وله أن يُنشئ فروعًا ومكاتب داخل الجمهورية. ويهدف الجهاز إلى حماية وتنمية واستغلال البحيرات وبواغيزها وسياحاتها وشواطئها وحرَمها، إلى جانب حماية وتنمية الثروة السمكية، والأحياء المائية، بقصد تنمية الاقتصاد القومى، ويقوم الجهاز برسم السياسة العامة لحماية البحيرات وشواطئها وحرَمها من التعدى والتلوث، مع دراسة واستغلال إمكانيات البحيرات وإجراء البحوث والدراسات اللازمة لذلك، وله أن يستعين بالجهات الأخرى، فضلًا عن العمل على حماية وتنمية الثروة السمكية ومصادرها، وله الحق فى منح الموافقات على إقامة المشروعات ذات النفع العام التى تقوم بها جهات أخرى فى حدود اختصاصها. كما يقوم جهاز حماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية بوضع قواعد وشروط وإجراءات منح التراخيص اللازمة، ووضع الخطط المتعلقة بمشروعات الثروة السمكية والتصنيع السمكى، إلى جانب العمل على تطوير حِرَف الصيد باستخدام الأساليب الحديثة، والتعاون مع الهيئات الدولية والإقليمية فى كل ما يتعلق بحماية وتنمية البحيرات والثروة السمكية. فى النهاية، نحن أمام مشروع قومى إنتاجى، يمثل خطوة مهمة فى سبيل تحقيق حلم الاكتفاء الذاتى من الأسماك، إذ إن مصر تستورد سنويّا نحو 250 ألف طن رُغم امتلاكها جميع الإمكانيات التى تؤهلها لأن تكون من أكبر مصدرى الأسماك فى المنطقة، لذلك فإن تلك المشروعات تمثل أهمية قصوى للاقتصاد القومى، وللمواطن المصرى الذى سيحصل على سلعة ذات جودة عالية وبأسعار فى متناول دخله البسيط.