قيل قديمًا « أهلك لتهلك».. وفى مدح صلة الرحم جاء الكثير والكثير فى الأثر، فالأقربون فعلًا أولَى بالمحبة والتواصل والمعروف والإحسان إليهم ودفع الشر عنهم.. لكن هناك من يفعل العكس تمامًا.. جحود ونكران وإساءة معاملة.. نرصد بعضًا من حكايات قاطعى الأرحام. مقطوعة من شجرة يتلقى الأشقاء والشقيقات الخمس اتصالًا هاتفيّا من أختهم السادسة تدعوهم فيه لحضور عَقد قران ابنتها وحفل زفافها.. لم يرحبوا بمكالمتها.. ولم يرغبوا فى حضور عقد قران ابنة أختهم!! حيث إن تلك الشقيقة بالتحديد لا تسأل عنهم منذ أكثر من عام.. حتى عندما مرضت أختها الكبرى وتم احتجازها بالمستشفى لم تذهب لزيارتها.. واكتفت بالسؤال عنها بمكالمة تليفونية قصيرة!! كما أنها لم تدعوهم لخطبة ابنتها بحُجة أنها كانت على الضَّيَّق وتقتصر على أسرتَى العروسَين فقط. والآن تُصر على حضورهم هم وأبنائهم حفل زواج ابنتها الذى تقيمه بفيلّتها بالتجمع الخامس.. تلك الفيلّا التى أقامتها سرّا ولا يعرفون حتى عنوانها!! .. لقد قامت ببنائها فى الخفاء دون أن تخبر أىّ أحد منهم .. وتركت شقتها القديمة وانتقلت إليها ولم تخطرهم بعنوانها الجديد.. وقد عرفوا أنها إنتقلت من مسكنها لمسكن آخر بالمصادفة عن طريق أحد معارفها.. يبدو أن شقيقتهم مصابة بهوس الخوف من الحسد.. فتتعمد التكتيم على أى شىء تفعله أو تشتريه!! حتى إن أخوتها دائمًا ما يبدون دهشتهم من أمرها وتصرفاتها الغريبة وقطعها للأرحام؛ خصوصًا أنهم لا يقلون عنها اجتماعيّا واقتصاديّا.. ويقيمون فى بيوت وشقق فاخرة.. لكنها تنعزل عنهم وتتكتم على كل شىء ولا تذكر نِعَم الله عليها.. وقد عاتبها شقيقها حين عَلِمَ بأمر انتقالها السّرى إلى فيلّا جديدة، وسألها بدهشة: كيف تستمتعين بأى شىء تشتريه أو تقتنيه وأنت تخفيه حتى عن أعين المقربين لك؟! وما فائدة الأشياء إذا كان الآخرون لا يشاركوننا فرحتنا بها ويفرحون معنا!!.. ولم يقتصر ذلك على عائلتها فقط.. لكنها أيضًا قطعت علاقتها بعائلة زوجها بسوء معاملتها لهم.. فلا ترحب بهم فى بيتها ولا تبتسم فى وجوههم.. ودائمًا ما تقابلهم بملامح خشبية متجهمة مما دفعهم إلى مقاطعة بيت أخيهم.. ومن العجيب أنها تصلى وترتدى الخمار وتذهب إلى المقرأة وتخفظ القرآن، ورُغم ذلك فلا تصل الأرحام أو تُبِر الأهل أو تُحسن معاملة الآخرين!! واليوم تتذكرهم حين تحتاج إلى عائلة تتباهَى بها أمام صهرها؛ خصوصًا أن خطيب ابنتها من عائلة عريقة مترابطة.. وسيدعو جميع أفراد عائلته لحضور حفل زواجه.. فأرادت أن تثبت له أن العروس أيضًا لديها عائلة كبيرة مشرفة لا تقل عن عائلته.. ولكنّ أشقاءها وشقيقاتها يقررون عدم الحضور.. فهى لم تشاركهم أفراحهم ولم تسأل عنهم فى محنهم ومرضهم.. واليوم فقط تريدهم معها ليس حُبّا فيهم ولكنْ لأن مصلحتها تتطلب ذلك!! والمدهش أن عائلة زوجها أيضًا قد اتخذوا القرار نفسه وامتنع أشقاؤه وشقيقاته عن حضور حفل زواج ابنة أخيهم الذى تسىء زوجته معاملتهم وتغلق الباب فى وجوههم.. لقد نجحت فى إبعاد شقيقهم عنهم.. حتى إن والدته قد ماتت وهى غضبانة عليه.. لكنها اليوم تحتاجهم.. فتتودد لهم وترجوهم ألّا يخذلوها أمام عائلة العريس ويتخلفوا عن الحضور.. لكنهم يصرون على معاملتها بالمِثل.. حتى إن حفل الزواج قد ازدحم بعائلة العريس فقط؛ أشقاؤه وأعمامه وعمّاته وخالاته وأخواله وأبناؤهم.. وكان يقف مباهيًا بهم فَرِحًا بوجودهم ممتنّا لمشاركتهم له.. بينما لم يحضر من طرف العروس سوى ثلاثة أشخاص فقط؛ أمها وأبوها وشقيقها الأصغر..فبدت مقطوعة من شجرة بلا عائلة بلا أقارب بلا أهل!! مشاجرة على فراش الموت تظل تحكى طوال الوقت حكايات تشد انتباهى وتجعلنى أستمع إليها بتركيز واهتمام.. وربما يكون هذا أجمل ما فى تلك السيدة التى تحضر أسبوعيّا لمساعدتى فى تنظيف الشقة.. فيمضى الوقت معها سريعًا مسليًا.. ومن الحكايات التى قَصّتها وقد تأثرتُ بها قصة جارتها التى كانت تعيش بمفردها فى غرفة صغيرة بائسة بإحدى الحوارى الضيقة بحى السيدة زينب.. وتمتلك البيت الذى تعيش به والذى يضم شقة واحدة وأربع غرف مستقلة؛ حيث تستأجر كل غرفة أسرة كبيرة، وكانت قد ورثته عن زوجها الذى مات منذ عشر سنوات وتركها وحيدة، رُغم أنها قد أنجبت ثلاث بنات وولدًا، لكنهم كانوا يموتون بعد ولادتهم بشهور قليلة.. وهى لا تعرف كيف ماتوا ولا اسم المرض الذى قتلهم!! ولم يكن لديها مصدر دخل سوى معاش صغير لا يتجاوز المئة جنيه تحصل عليه من التضامن الاجتماعى بالإضافة للإيجار القديم الذى تحصل عليه من سكان البيت الذى لا يتجاوز الخمسين جنيهًا ..كما كان لها شقيقان أحدهما يعمل بائعًا متجولًا ولديه ثلاث بنات، والآخر مريض ولا يعمل ولديه ولدان. فكانت تعيش على المساعدات وما تقدمه لها الجمعيات الخيرية وفاعلو الخير الذين يخصصون لها رواتب شهرية.. ولم تكن تكتفى بذلك بل كانت تسعى للحصول على المزيد من المساعدات العينية والمالية.. حتى إن غرفتها كانت أشبه بمخزن للمواد الغذائية التى تحصل عليها من المتبرعين.. وحرصت على أن تساعد أبناء شقيقيها.. وترسل لهم بعض ما تحصل عليه من أرز وسكر وزيت وملابس.. كما ساهمت فى تجهيز بنات أخيها الثلاث.. واشترت لكل منهن بوتوجاز وثلاجة وغسالة وأدوات مطبخ.. وكانت فَرِحةً بزواجهن.. ولكن أبناء شقيقيها لا يهتمون بها ولا يبادلونها الزيارات ولا يسألون عنها، بل كانوا ينتظرون موتها بفارغ الصبر ليرثوا عنها البيت ويبيعوه..كما يعتقدون أن لديها الكثير من المال تخبئه عنهم.. وفى أحد الأيام مرضت مرضًا شديدًا ألزمها الفراش وطلبت من ابنة أخيها أن تبقى بجوارها يومًا أو يومين إلى أن تتعافَى.. لكن الفتاة ترفض أن تأتى لرعاية عمتها ولم تكلف نفسها حتى زيارتها!! واشتد بها المرض حتى إنها لم تستطع أن تستحم بمفردها أو تمشط شعرها، فهى لا تقوَى أن ترفع ذراعها ولا أن تسير عدة خطوات متواصلة.. وأمام ضغط الجيران على أخيها وبناته واتهامهم لهم بالجحود وإهمالهم لعمتهم التى طالما ساعدتهم.. تأتى ابنة أخيها لتحمّمها وتمشط لها شَعرها.. لكنها تقترح على عَمّتها أن تقص لها شعرها الطويل الذى صار مرتعًا للحشرات لعدم غسله أو تمشيطه باستمرار، كما أنها تصارحها بأنها لا يمكنها أن تأتيها من أجل أن تحممها وتمشط شعرها مرة أخرى.. وتهز العَمّة رأسها باستسلام وتوافق على قص شعرها.. لتقوم الفتاة بجز الشعر بالمقص بقسوة شديدة ثم تستخدم بعد ذلك ماكينة الحلاقة لإزالته كاملًا لتترك عمتها أشبه برجل أصلع.. مما أشعر العمة بالقهر والألم.. وهى مَن كانت يحسدنها النساء على شَعرها الخيلى الطويل الذى يصل لمنتصف ظهرها.. أمّا الآن فصارت تخشى أن تنظر فى المرآة.. وتموت العمة.. ويتوافد شقيقاها وأبناؤهما وزوجتاهما على البيت.. ليس من أجل توديعها أو تكفينها أو إلقاء النظرة الأخيرة عليها.. ولكن من أجل الحصول على مالها وأشيائها.. فكل منهم كان يحاول أن يسبق الآخر للوصول إلى دولابها... فقاموا بتفتيش كل جزء فى الغرفة حتى عثروا على عدة آلاف من الجنيهات وبراميل من الزيت والسكر وعشرات الأقمشة الجديدة التى لم تُفصلها.. وظلوا يتخاطفون الأشياء ويتشاجرون حتى إنهم اشتبكوا بالأيدى طامعين فيما وجدوه من مال وأشياء... بينما جثمان المرأة مُلقَى على الأرض لا حول له ولا قوة لا يجد من يبكيه أو يُقبله أو يحزن على فراقه أو يدعو له.. اختفاء الأخ الأكبر يخبر حارس العقار الذى يسكنه أنه مسافر لقضاء عدة أيام بالشاليه الخاص به فى الساحل الشمالى.. لكنه لم يعد رُغم مرور عدة أسابيع على سَفره مما أشعر البواب بالقلق عليه فلم يعتد على أن يبقى بالساحل أكثر من أسبوع.. وقد مضى على غيابه ما يقارب من الشهر.. يتصل به عدة مرات ليطمئن عليه ولكن تليفونه لا يرد فيعطيه مغلقًا وغير متاح.. مما ضاعف شعوره بالقلق والخوف عليه.. إنه لا يعرف أحدًا يسأله عنه سوى ابنه المهاجر لأمريكا.. وهو يحتفظ برقمه؛ حيث أعطى الأب رقم تليفونه له ومعه مبلغ من المال وأخبره بأن يضعه تحت حساب المكالمات الدولية التى سيجريها بابنه المهاجر فى حالة حدوث أى مكروه له.. ويقرر أن يتصل بابنه ليخبره بغياب أبيه ولكن الابن لم يبدِ انزعاجًا كبيرًا.. ويحاول إقناع البواب أنه ربما يكون مشغولًا وتعمّد إغلاق تليفونه كى يستمتع بإجازة طويلة بلا إزعاج.. وتمضى الأيام والرجل لايزال مختفيًا حتى إن كشافَى الكهرباء والغاز قد حضرا ولم يجداه.. ويتذكر البواب أن الرجل كان مكتئبًا منطويًا حزينًا فى الآونة الأخيرة.. حتى إنه كان يظل بالأيام الطويلة فى البيت دون أن يرى الشارع.. كما أنه لم يكن يتصل به أو يطلب منه إحضار شىء.. حتى الطباخ الذى كان يأتى له مرة فى الأسبوع ليطهو له طعامًا يكفيه طوال سبعة أيام لم يَعُد يأتي!!.. وكان الحارس يحرص من حين لآخر أن يصعد لشقته بالدور الرابع للاطمئنان عليه.. فيجده وحيدًا حزينًا صامتًا، عيناه مجهدتان ومتورمتان وكأنه أمضى الليل كله وهو يبكى!!.. وهو الرجل الذى يُعرف بأنه كثير المرح والضحك.. ولكن منذ خروجه للمعاش ووفاة زوجته وهجرة ابنه وقد عرفت التعاسة مكانه.. فصار كثير العُزلة قليل الكلام نادر الخروج.. لكنه كان يفاجئه بنزوله من شقته بحقيبة سَفره الصغيرة كل عدة أشهر ويخبره أنه سيمضى عدة أيام بالشاليه الخاص به فى الساحل الشمالى.. وبعد يومين أو ثلاثة يراه عائدًا وهو أكثر حزنًا واكتئابًا وكأن الدنيا كلها قد ضاقت به ولم يجد مكانًا يسعه!! ولكن غيابه قد طال هذه المرة.. ويتذكر أن له شقيقًا أتى لزيارته مرة أو مرتين طوال السنوات الأربعة التى أمضاها حارسًا للعقار.. كان يصغره بخمسة عشر عامًا على الأقل.. لكنه لا يعرف رقم تليفونه ولا عنوانه كى يسأله عنه ويخبره بغيابه.. ويتفتق ذهن البواب لفكرة أخرة.. أنه يعرف مكان الشركة الكبيرة التى كان يعمل بها الرجل كمدير عام.. ويقرر أن يذهب إلى هناك ويسألهم عن عنوان أحد من أقاربه أو معارفه المقربين.. ويستطيع الوصول لأحد زملائه المقربين ويحكى له عن اختفائه وعدم ظهوره منذ أكثر من شهرين وعن تليفونه الذى يعطى طوال الوقت مغلقًا أو غير متاح.. ويندهش زميله لما يسمعه ويخبره أن الرجل له ابن وأحفاد وأربعة أشقاء يعيشون بالقاهرة وشقيقتان، وكلهم لديهم أبناء شباب.. كما أنه الشقيق الأكبر لهم.. فكيف لا يسألون عنه أو يزورونه؟!..ويتصل زميله بأصغر أشقائه.. إنه يحتفظ بأرقامه منذ أن طلب َمنه شقيقه مساعدته فى الحصول على عمل.. لقد كان أخوه مهتمّا كثيرًا بهذا الأمر وكلّم كل معارفه من الشخصيات الكبيرة عن عمل له واستطاع بالفعل أن يجد له وظيفة محترمة براتب شهرى كبير.. فيتصل الزميل بذاك الشقيق ويخبره بما قاله له بواب العمارة عن اختفاء شقيقه الأكبر منذ فترة.. فيبدى بعض الانزعاج ويعده أنه سيبحث عنه.. وبعد يومين من الاتصال يحضر الأخ بصحبة شقيقين آخرين ويخبرون حارس العقار أنهم ذهبوا للساحل الشمالى ولم يجدوا شقيقهم الأكبر فى الشاليه.. ويقرروا كسر باب شقته ربما يجدون فيها شيئًا يدلهم عن مكانه.. ويصعدون بصحبة الحارس إلى شقة أخيهم.. ويتمكنون من كسر الباب لكنهم لم يجدوا ما يدل على مكانه.. لقد وجدوه هو شخصيّا مسجَى على بطنه جثة هامدة متحللة تفوح منها رائحة كريهة.. يقول الحارس وهو يبكى: كنت أعتقد أن الرائحة تأتى من القمامة التى يضعها الجيران بجوار أبواب شققهم.. ولم يأتِ ببالى لحظة أنها تتسلل من شقة أعز السكان إلى قلبى؛ خصوصًا أننى شهدته وهو يحمل حقيبة سَفره.. وأخبرنى أنه متجهًا للساحل الشمالى.. بينما لم أره وهو عائد.. وخلال أقل من ساعة يتوافد بقية أشقائه على شقته وهم يلتفون حول جثة شقيقهم التى طمست معالمها بعد أن تحولت إلى جيفة تفوح منها الرائحة العفنة حتى إن بعضهم كانوا يسدون أنوفهم.. لقد مات منذ أكثر من أربعين يومًا كما أخبرهم الطبيب إثر سكتة قلبية.. دون أن يشعر به أحد أو يلحظ أحد منهم غيابه!! ولولا انتباه حارس العقار لعدم وجوده لربما ظلت جثته شهورًا أخرى فى شقته دون أن يكتشف أحد موته!!