تفكيك البنية الفكرية للإرهاب يبدأ بمواجهة المحتوى المتطرف الذى تروج له الجماعات الإرهابية عبر منابر إعلامية مختلفة وعن طريق منصات التواصل الاجتماعى.. حيث يتلقف ملوك اللعب بالكلمات وشياطين تحريف المفردات الأخبار ليقوموا بإعادة إنتاجها بشكل ملون ملىء بالتوجيه المبطن لعقل القارئ.. فيصفون «شهداء» الجيش والشرطة ب«القتلى» ويصفون «الإرهابى» هشام عشماوى ب«المعارض البارز». ماكينة صناعة الزيف وتدوير الكذب شاهدناها مؤخرا عبر «الجزيرة» وأخواتها من قنوات الإخوان فى تركيا.. وانضمت إليهم BBC، فضلا عن عدد من المواقع الإلكترونية التى وقعت فى ذلك الفخ بقصد أو بدون قصد مثل «يورونيوز» التى قدمت اعتذاراً لاحقاً على وصفها الإرهابى المجرم هشام عشماوى ب«المعارض». أعادت هذه المسميات الكثير من النقاشات حول مفهوم المهنية الإعلامية والحياد والتوازن ومعايير النزاهة، والكثير من المفاهيم التى قد يتشدق بها رغبة فى تمرير «السم فى العسل» لخدمة أجندات خاصة، كما طرحت أسئلة أخرى حول علاقة وسائل الإعلام بالسلطة والفرق بين الدور الوطنى والدور السياسى للوسيلة الإعلامية. بالطبع لم تكن هذه هى المرة الأولى التى تصبح فيها هذه المفاهيم محل جدل ونقاش، لكن أزمة الإرهاب التى تهدد العالم كله كانت نقطة انطلاق جديدة للتساؤل، خاصة بعد أن كشرت الكثير من الوسائل الإعلامية عن أنيابها القذرة، وأصبح معروفًا للجميع الأجهزة المخابراتية والدول التى تدعم هذه القنوات. فى كتاب «الإعلام ومواجهة الإرهاب .. دليل الممارسة المهنية» للدكتورة هويدا مصطفى، وكيل شئون الدراسات العليا والبحوث بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، الصادر عن دار العربى للنشر، تستعرض الاتجاهات البحثية فى دراسة الأزمات وكيفية التعامل معها من المنظور الإعلامي، كما يتضمن الكتاب عدة نماذج تحليلية للأداء الإعلامى خلال أزمات عديدة وعلى رأسها أزمة الإرهاب. فى البداية علينا معرفة دور الإعلام وقت الأزمات، إذ ينحصر دوره فى وظيفتين، إما أن يكون انعكاسًا لما يحدث فى مجتمع الأزمة ليصبح انعكاسًا للشارع، أو يكون الإعلام موجهًا للمجتمع وقت الأزمة بحيث ينقل رسائل القيادة السياسية للشارع لاحتواء الأزمة، لكن الوظيفة الثانية تحتاج للكثير من الذكاء الإعلامى خاصة عندما تحتد الأزمة وتتخبط الآراء، وفى ذلك الوقت ربما تؤدى فجاجة الطرح الإعلامى أو الانحياز الأجوف (غير المبنى على دليل) إلى نتائج عكسية وزيادة الأزمة. على الجانب الآخر تكون الأزمات مادة ثرية لوسائل إعلام الدول صاحبة المصلحة، من هواة الصيد فى المياه العكرة، فتسارع بالاستجابة لحاجة الجماهير فى المعرفة، وفى هذه الحالة تكون تلك الوسائل (ظاهريًا) صوت الشارع لكنها فى الحقيقة هى المؤثر الحقيقى فى الأحداث والمحرك للجماهير. فى ذلك الوقت يكون الإعلام سكينًا ذا حدين فى إدارة الأزمات سواء على المستوى الداخلى أو الخارجي، فإما أن تقتل عدوك أو تنتحر بخطأ بسيط؛ إذ يعد الإعلام من أهم العناصر فى استراتيجية مواجهة الأزمة باعتباره مؤثرًا فى تشكيل وعى واتجاهات الرأى العام وقت الأزمات. الدور المؤثر لوسائل الإعلام يتطلب أيضًا عدم وجود تضييق على حرية تداول المعلومات، لأن الجمهور فى وقت الأزمات يكون متعطشًا لمعرفة الحقيقة بمصداقية كاملة دون تضخيم أو تقليل من مخاطر الأزمة، فكلاهما يؤدى لانصراف المتابعين لوسائل أخرى تغطى رسائلها بغلاف مزين بالموضوعية ووهم الحياد الإعلامي. مع التطور التكنولوجى المتزايد تصبح وسائل الإعلام باختلافها حائط صد للكثير من الشائعات التى تستهدف عقول المواطنين وكيان الدولة، وهو ما يتطلب ضخ الكثير من الاستثمارات فى نشر الوعى ودحض الروايات المكذوب، ولا يقل الاستثمار فى ذلك أهمية عن الجيش وتدعيم البنية التحتية للدولة. يتضمن دور وسائل الإعلام تجاه الأزمات ثلاث مراحل رئيسية: الأولى؛ هى سرعة نشر المعلومة ومواكبة رغبة الجماهير فى معرفة الأزمة بأبعادها المختلفة، والثانية؛ تفسير تلك المعلومات المتعلقة بالأزمة والبحث فى جذورها وأسبابها ومقارنتها بأزمات أخرى مشابهة مع تحرى المصداقية، أما المرحلة الأخيرة فتتمثل فى الدور الوقائى للإعلام الذى تتجاوز وظيفته فى التغطية المباشرة والتفسيرية بل يمتد لما بعد انتهاء الأزمة بتقديم طرق وقائية للتعامل مع الأزمات بشكل عام من خلال دراسة وتقييم أسباب وقوع الأزمات لتلافيها فى المرة القادمة. تتعلق الكثير من الإشكاليات فى الإدارة الإعلامية للأزمة منها غياب المعايير والضوابط المهنية للأداء الإعلامي، منها إغفال جانب تقديم المعلومات متكاملة، أو غياب الدقة فى المعلومات المستخدمة إعلاميًا مثل عدم وجود صور حية للأحداث سبب الأزمة، وعرض جانب واحد من الحقائق والمعلومات فى التغطية الإخبارية أو الانحياز لرأى واحد فقط خلال مرحلة تفسير الأزمة وهو ما يخل بمبدأ التوازن والنزاهة ويؤدى بدوره لحدوث أزمة ثقة بين الجمهور والإعلام. لذلك تفرض الأزمة أولويات على صانعى القرار والإعلاميين فى الوقت ذاته منها البعد عن مبدأ حجب المعلومات أو إخفائها باعتبار أن الجمهور مازال وعيه قاصرًا، فالدور المنوط بوسائل الإعلام أن تكون حلقة الوصل بين صناع القرار فى الأزمة والمسئولين عن التعامل معها وبين الرأى العام، أيضًا يتطلب الأمر الاهتمام بالمادة الوثائقية المصاحبة للمتابعات والتغطيات الإعلامية، وانفتاح الإعلام على وسائل التواصل الاجتماعى بما يضمن وصول محتوى توعوى يجعل القوى الشعبية بمختلف طوائفها متكاتفة ضد الأزمة. ونجد أن أحداث 11 سبتمبر شكلت مفهومًا جديدًا لإدارة الأزمات، باعتبارها أزمة متكاملة الأركان من تهديد مفاجئ وضيق للوقت ونقص المعلومات لكن الإدارة الأمريكية عملت على مواجهة الأزمة واحتوائها لإعادة التوازن كما استثمرتها إعلاميًا. استمرت المواجهة الأمريكية للأزمة ما يقارب ال 10 أسابيع، كانت القوات العسكرية تمارس دورها فى ميدان الأحداث بينما تهيئ وسائل الإعلام الرأى العام لشن الحرب على حكومة طالبان وتنظيم القاعدة، كما كان لأجهزة الإعلام والمنظمات الثقافية دور كبير فى توجيه الرأى العام والتحرك على المستوى الدولى لإنشاء تحالف لمحاربة الإرهاب، وهو ما أدى بدوره لبسط نفوذ القوات الأمريكية فى منطقة وسط آسيا، إذ كان للتغطية الإعلامية دور كبير فى رسم الصورة الذهنية عن أطراف الصراع وتماهى الحدود الفاصلة بين الخطاب الإعلامى والسياسى تحت غطاء من المهنية والحياد، إذ اعتمدت قناة CNN فى تغطية الأحداث على المعلومات المرئية فقط ونشر صور برجى التجارة العالمى لكسب تعاطف الشعب الأمريكى مع تجاهل الآراء المناهضة للتدخل العسكرى فى أفغانستان. فى الوقت نفسه، واجه الإعلام المصرى الكثير من الانتقادات فى تغطية أحداث 11 سبتمبر، إذ كان الاتجاه السائد لدى من اعتمدوا عليه كمصدر للمعلومات، أنه ما يقدمه ليس كافيًا لتكوين صور واضحة عما حدث، وهو ما سبب ترسيخ فكرة أن الإعلام المصرى لا يستطيع بمفرده تشكيل الخلفية المعرفية الكاملة عن الحدث خاصة فى وقت الأزمات، ويعد ذلك ثغرة كبيرة فى الأمن القومى للدول. وكانت حرب أفغانستان طريق قناة الجزيرة لبناء أرضية جماهيرية كبيرة، اعتمدت فى ذلك على المتابعات المتلاحقة والعميقة للحرب (نظرًا لعلاقتها السياسية بحركة طالبان) حتى إن المحطات الأجنبية كانت تنقل عنها، وذلك من خلال شبكة قوية من المراسلين وعرض مختلف وجهات النظر حول الحر لكن مع الحرص على نقل المظاهرات ضد الحرب فى مختلف البلدان العربية، وساعد «الجزيرة» على كسب تعاطف الجمهور أنها كانت دائمًا تجمع بين التيار القومى والدينى المعروفين بالتقائهما وقت الأزمات. لكن الهدف من اتخاذ الجزيرة نموذجًا، رغم تجاوزاتها الكثيرة التى لا ينكرها أحد، أنها استطاعت أن تتخلل إلى عقول جميع الطوائف والأفكار بدعوى الحياد، فكانت بالنسبة للدول التى تدعمها أفضل استثمار مدخر لحين الحاجة إليه، لما تمتلكه من تأثير على الكثير من الشعوب، وهو بالفعل الدور التى أدته على أكمل فى صنع الكثير من الأحداث فى الوطن العربى لخدمة أجندات خاصة.