المرأة الوحيدة.. ظاهرة مؤلمة فى المجتمع المصرى خصوصًا خلال السنوات الأخيرة.. فمن قبل كان آباؤنا وأجدادنا يرفضون أن تعيش أمهم أو أختهم أو عمتهم أو خالتهم بمفردها.. وكان ذلك يمثل عيبا كبيرا فى مجتمعنا المحافظ وفى حق العائلة التى تسمح بذلك.. الآن لم يعد يعبأ أحد بصلة الرحم ولا بالعيب!! ولم يعد الأخ أو الأخت أو الخال أو العم ينزعجون أن تعيش أقرب الأقربين لهم بمفردها تعانى من قسوة الوحدة ومن جحود المجتمع. وصية أمى لم يمض يوم لم تبك فيه وهى تتناول طعام الإفطار بمفردها فى شهر رمضان، فبالرغم من أنها تعيش بنفس البناية التى يسكن فيها شقيقها وأبناؤه إلا أنه لا أحد يسأل عنها أو يطل عليها، ولم تدعها زوجته يومًا للإفطار معهم، فكم تتوق لدفء ولمة رمضان التى كانت تشعر بها وهى صغيرة فى حياة أبيها وأمها، وكم يزداد شعورها بالقهر والألم وهى تشعر بدبيب خطوات شقيقها وأبنائه طوال اليوم وهم (نازلين طالعين) على السلالم دون أن يدق أحد بابها، إن زوجة أخيها تمنع أبناءها من السؤال عن عمتهم أو طرق بابها، إنها لم تنس الخلاف الذى كان بينها وبين حماتها والدتها وكأنها تنتقم من أمها فيها!! ورغم ذلك كان بين أبناء أخيها الستة واحد فقط حنونًا يسأل عنها ويجيب طلباتها من وراء أمه، لكنه سافر إلى الخليج للعمل ليضاعف شعورها بالوحدة والألم والمرض، ولم يعد يطرق بابها فى الأعياد والمناسبات،سوى جارة عجوز تسكن فى الدور الذى يعلوها، لقد ولدت مصابة بشلل الأطفال، فظلت والدتها مهمومة بها تخشى ألا تتزوج ابنتها وتبقى وحيدة فى هذه الحياة، فكان كل تركيزها أن تزوجها قبل موتها، ونجحت الأم أن تجد من تزوجها له، بعد حصول الابنة على شهادتها المتوسطة، وكان شابًا صغيرًا فى مثل عمرها، وتزوجته، لكنها لم تشعر يومًا بحبه لها أو اقتناعه بها فكان دائمًا يعايرها بعجزها وبضعفها، ويتعمد إهانتها والتقليل منها، وتحاول أن تتحمله بتعليمات من والدتها، إلى أن استيقظت فى يوم ولم تجد أساورها الذهب التى أحضرتها لها والدتها قبل الزواج، لقد سرقها زوجها وباعها وتزوج من أخرى، فربما كان هذا الذهب هو الإغراء التى قدمته له والدتها كى يتزوج من ابنتها المعاقة، ولكنه يطلقها وتعود لأمها التى أصيبت بجلطة دماغية من أثر الصدمة، وتتوفى بعد أسابيع قليلة من إصابته، ولا تنسى وهى على فراش المرض أن توصى عليها شقيقها الأكبر المتزوج ويعيش فى نفس البيت، ولم يعمل الابن بوصية أمه الراحلة فيهمل شقيقته ولا يسأل عنها بتحريض من زوجته التى كانت تكره والدتها، لتجد الابنة نفسها امرأة صغيرة وحيدة فى العشرين من العمر، وينجح أحد أقاربها فى تعيينها بأحد المصالح الحكومية، فظل عملها هو كل حياتها واهتمامها الوحيد الذى يهون عليها قسوة الزمن، ولكن مع الوقت تتدهور حالتها الصحية وتقصر فى أداء مهام عملها مما جعل مديرها ينصحها بالراحة وبتسوية معاشها، وتعود لتمكث فى البيت، وتظل وحيدة مريضة تحيط بها الكآبة من كل جانب لا تعرف الأيام من بعضها، ولا تشعر بالأعياد والمناسبات إلا من خلال التليفزيون، فمنذ سنوات لم يدخل عليها أحد بحلاوة المولد، ولا بياميش رمضان، حتى إنها يوم مولد النبى الماضى هفت نفسها لحلوى المولد التى تذكرها بمرحلة جميلة فى عمرها حين كان يحضر لها والدها عروسة المولد ولأخيها الحصان ولهم جميعًا الحلوى فأرسلت ابن الجيران يشترى لها علبة صغيرة بها أقراص السمسمية والحمصية التى تحبهما، وفى يوم يصل لأذنيها صرخات عالية تنطلق من نفس البيت، كما تسمع طرقات على بابها، فتشعر بالخوف والهلع وتفتح الباب وهى ترتجف لتجد جارتها العجوز أمامها تخبرها أن أخاها مات، وأن الصراخ صادر من شقته بالدور الثالث، وأنه توفى أثناء وجود زوجته وأبنائه فى المصيف بالإسكندرية، فحين عادوا من المصيف وطرقوا الباب لم يفتح لهم ولم يرد عليهم ولا على تليفوناتهَم فشعروا بالقلق عليه فاضطروا لكسر الباب فوجدوه ميتًا على سريره!!! تقول لجارتها وهى تبكي: طوال عمرى أخشى أن أموت وحيدة فى شقتى وأن تتعفن جثتى دون أن يشعر بى أحد، وأن يكون أخى أَول من يرانى ميتة حين تكتشفون غيابى وتكسرون بابي، لم أتوقع يومًا أن يموت وحيدًا وهو لديه ستة أبناء وزوجة، تقول جارتها العجوز: إنه ذنبك تبكى السيدة وهى تنهيها عن الحديث بهذه الطريقة عن شقيقها وتقول لها: لا شماتة فى الموت، وتطلب منها أن تساعدها فى الصعود لشقته كى تلقى عليه النظرة الأخيرة وتقبله. من القاهرة للزقازيق كان عمرها ثمانية عشر عامًا حين توفت أمها بعد وفاة والدها بأقل من عام لتتركها وحيدة فى شقة صغيرة فى مدينة السادس من أكتوبر، لقد اشترت الأم الشقة قبل وفاتها بثلاث سنوات وانتقلت من حي الضاهر الشعبى وشقة الدور الأرضى التى كانت تشعرها هى وأبنائها كأنهم يعيشون فى الشارع إلى مدينة أكتوبر. تعمدت الأم أن تسكن فى مكان أفضل حتى عندما يتقدم أحد لخطبة ابنتها لا تخجلان من مسكنهما شديد التواضع.... تزوج أخوها الأكبر من سيدة نرويجية تكبره بثلاثين عامًا التقى بها أثناء عمله بإحدى القرى السياحية بالغردقة وترك مصر وسافر معها النرويج ونادرًا لو اتصل بأمه،كما تزوجت أختها من معلم لغة فرنسية زميلها بالمدرسة التى تعمل بها، أما هي فالثالثة فى ترتيب أخواتها وما زالت طالبة بالسنة الأولى بكلية الآداب حين توفت أمها. كانت وفاة الدتها كابوسًا قاسىًا مرر حياتها وقلبها رأسًا على عقب. ينصح الأقارب الأخت ألا تترك أختها وحيدة وأن تأخذها لتعيش معها، ولكنها تدرك جيدًا أن زوجها سيئ الطباع سيضيق بشقيقتها الصغيرة ولن يتحمل وجودها معهما بشكل دائم وخاصة أنه لا توجد غرفة منفصلة تبت فيها أختها، ويعرض خالها الذى يعيش فى مدينة الزقازيق أن يصطحب ابنة شقيقته لتعيش فى بيته، لكن شقيقتها تعده أنها لن تتركها وستكون تحت رؤيتها وأمام عينيها. وتذهب هى وطفلها لتبيت مع أختها فى الأيام الأولى التى تلت وفاة والدتها. ولم يمض أسبوع إلا ويصر زوجها على عودتها لبيتها، وتعود الأخت لبيتها وتترك شقيقتها وحيدة، لتجد الفتاة الصغيرة نفسها لأول مرة تواجه غياب أمها بمفردها وأن طيف أمها المتواجد فى كل مكان فى البيت يميتها كل لحظة ألف مرة. تظل تقبل أشياءها وهى تصرخ إلا أن تتعب وتلقى بنفسها على الأرض جسدًا أنهكه الحزن والفراق وهى بمفردها لا يشعر بها أحد، إنها لم تذهب لكليتها منذ وفاة والدتها، فقدماها لا يحملانها، وشقيقتها تكتفى بالاطمئنان عليها بالتليفون فقط وتنصحها كما ينصحها الغرباء بضرورة الذهاب للجامعة والتغلب على الأحزان!! وتغادر الفتاة المستشفى للبيت مرة أخرى،وكانت الجارة تقوم برعايتها، وتحضر لها الطعام ولكنها لم يكن لديها وقت لتتابعها أو تتحدث معها، وتمضى الأيام ولم تستطع الفتاة التأقلم مع وفاة والدتها، فتهرب من وحدتها بالحديث مع صديقاتها لساعات طويلة. إن كل شىء صار يفوق طاقتها بعد وفاة والدتها، إن الدنيا ضاقت بها ولا تجد مهربًا. حتى شقيقتها لم تعد تسأل عنها أو تزورها، رغم أنها تأتى بانتظام لزيارة حماتها التى تسكن قريبة منها، إن شعورها بالقهر والمرارة والوحدة يزداد يومًا بعد يوم. وصارت تقطع وقتها وتخفف من معاناتها بالتحدث على النت والتسلية مع أحد الشباب الذى كان يرغب في التعرف عليها من خلال الفيس بوك وكانت ترفض ذلك فى حياة والدتها، وتحت ضغط الظروف وقسوة الوحدة ووحشتها تستسلم للتواصل معه، فكان يعاملها برفق ورقة، يهتم بشئونها ويسمعها أجمل الكلمات، ويثنى على ذوقها وجمالها، وقد تعلقت به وأحبته وصارت تمضى طوال الليل وهى تتحدث معه، تحكى معه وتشكو له وتبوح بآلامها وأحزانها، وبعد عدة أسابيع من الحديث المتواصل يطلب أن يراها، وتفرح وترحب بلقائه رغم ارتباكها، فترتدى أجمل ما عندها وتذهب لمقابلته وقلبها يدق خوفًا وحبًا وأملًا فى أن تراه ويتحقق حلمها فى أن تتخلص من الوحدة والخوف وعدم الشعور بالأمان، وتتزوجه وتنتقل للحياة معه. وتراه، لم يكن كما توقعته، فهو يختلف تمامًا عن صورته التى يضعها على الفيس بوك فيبدو أكبر سنًا وأقل جاذبية، فربما يكبرها بخمسة عشر عامًا أو أكثر، يعترف لها أنه متزوج وأن لديه ثلاثة أبناء وأنه على استعداد أن يتزوجها عرفيًا، وأن ينفق عليها ويحضر لها كل طلباتها تتهمه بالكذب والخداع وتتركه وهى تطلب منه أن ينهى علاقتهما وألا يحدثها مرة أخرى. وتعود إلى البيت وتحتضن صورة والدتها وهى تبكي. ولكن والدتها تشعر بها، وتفكر معها وتحسم الأمر، لقد شاهدتها فى منامها، تسمع صوتها يناديها بينما الشخص الذى يريد أن يتزوجها عرفيًا تنظر الأم بغضب فيبتعد، وحين تقترب منها تجد أمها أمامها تقف بجوار خالها وتبتسم لها بينما يعطيها خالها بعض الحلوى، تستيقظ من النوم وهى تشعر ببعض الارتياح وتقرر أن تسافر لخالها بالشرقية وتقص عليه الرؤيا، فيعرض عليها أن تعيش معه هو وأبناؤه،كما أن زوجته أيضًا تلح عليها أن تأتى وتكون بين بناتها ولا تعيش وحيدة، وتؤكد لها أن هذا هو تفسير رؤيتها، وتترك الفتاة القاهرة هاربة من وحدتها لتعيش مع خالها بين أبنائه كما تنتقل من كلية الآداب جامعة القاهرة إلى جامعة الزقازيق، وكأنها تعمل بوصية أمها،