تعانى العديد من البلدان الواقعة فى وسط وجنوب أمريكا اللاتينية فى الوقت الحالى من تهديدات خطيرة تؤثر على أمنها الداخلى والخارجى، على وجه الخصوص تواجه كل من هندوراس، وفنزويلا، وكولومبيا نفس التهديدات والتحديات، وهى أولًا الجريمة المنظمة، التى تشمل تجارة المخدرات والسلاح وتهريب البشر، وثانيًا الحرب على الإرهاب، وهما مشكلتان يعانى منهما كل أفراد المجتمع فى تلك الدول،مواطنين كانوا أو أجانب. تحظى كل دولة من تلك الدول بهياكل وتنظيمات سياسية مختلفة، وهو ما أثّر بدوره على تنظيم الأجهزة العسكرية والاستخباراتية وعملها، بل تعاملها مع هذه المشكلات. فبينما تعانى هندوراس من ليبراليى اليمين واليمين الوسطى ،تتجه فنزويلا إلى الاشتراكية، فيما يتصاعد التيار الليبرالى الاشتراكى فى كولومبيا. وبالطبع تؤثر التهديدات التى ذكرناها على الأوضاع السياسية فى البلاد فتؤدى إلى عدم استقرار وتخبط، كما أنها تؤثر على توجهات وسياسات صانعى القرارات وواضعى السياسات داخل كل بلد. ورُغم أن مصل هذه المشكلات وحلها على عاتق أجهزة الاستخبارات بشكل رئيسى، حيث إنها المنوط بها جمع المعلومات ومراقبة المطلوبين ورصد أى نشاط إجرامى أو إرهابى، فإن كل دولة من الثلاث تعاملت أجهزتها بشكل مختلف مع المشكلتين نفسيهما نظرًا لاختلاف السياسات والمناخ العام فى كل منها. 1 هندوراس تُعتبر هندوراس،أحد أفقر البلدان فى قارة أمريكا اللاتينية، فضلًا عن كونها حاليًا من الدول الأكثر عنفًا، حيث ازداد عدد الجرائم التى ترتكبها مؤسسات إجرامية منظمة مستخدمة فى ذلك عصابات الشوارع وفساد قوات الأمن. وعلى مدار ال 20 عامًا الماضية أصبحت هندوراس مركز عبور استراتيجى لتهريب البشر وتصدير المخدرات والأسلحة للولايات المتحدةالأمريكية وبلدان أخرى. وازداد الوضع سوءًا منذ حدوث الانقلاب الذى أطاح بالرئيس «مانويل زيلايا» عام2009، فقد أدى نقص القدرات، وعدم الشفافية وانتشار الفساد إلى شلل السُّلطة القضائية وبالتالى إعاقتها عن العمل على تحقيق المصلحة العليا للدولة. وتعتمد الدولة على الجيش فى محاربة الجريمة المنظمة والإرهاب، خصوصًا أن جهاز الشرطة فى هندوراس معروف بأنه أحد الأنظمة الشرطية الأكثر فسادًا فى جميع أنحاء أمريكا اللاتينية. وتعتبر عصابة «شارع 18» أكبر منظمة إجرامية هناك والأكثر عنفًا، وهى عصابة متعددة الجنسيات والأعراق بدأت كعصابة شوارع في لوس أنجلوس، لتصبح أكبر عصابة إجرامية فى لوس أنجلوس وتنشط حاليًا فى المكسيك. أمّا عصابة «إم إس - 13» مارا سالفاتروتشاف (MS-13) فهى عصابة إجرامية دولية نشأت في لوس أنجلوس، كاليفورنيا فى عام 1980. وتنتشر «إم إس - 13» فى أجزاء أخرى من الولاياتالمتحدة وكندا والمكسيكوأمريكا الوسطى، وينتمى معظم أبناء العصابة عرقيّا إلى السلفادور. ويرجع الغرض الرئيسى من تشكيل هذه العصابة هو حماية مهاجرى السلفادور من العصابات الأخرى التى كانت تتألف فى الغالب من المكسيكيين والأمريكيين من أصل إفريقى، إلا أن نطاق وحشية فظائعها قد امتد وتوسّع فى معظم القارة الأمريكية،حتى إن أجهزة الاستخبارات فى أمريكا اللاتينية رصدت لقاءات جمعت بين تنظيم القاعدة و«مارا سالفاتروتشا» لمساعدة أعضاء القاعدة فى التسلل إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهو ما أكده كل من وزير الأمن الهندوراسى «أوسكار الفاريز» ورئيس السلفادور عام 2005. ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يتلاقى فيها الإرهاب مع الجريمة فى أمريكا اللاتينية..فأينما التقت المصالح اجتمع الطرفان والخاسر دائمًا هو الدولة والشعب. وللوهلة الأولى، يبدو أن الإرهاب ليس جزءًا من المشكلات والتهديدات التى تواجه هندوراس،لكن المؤكد أن العنف الداخلى الذى ترتكبه عصابات الشوارع يُعتبر إرهابًا داخليّا، حيث إن هذه العصابات تمتلك جدول أعمال يدعم الجريمة المنظمة ويشجع على ارتكاب العنف ضد أهداف محددة وأخرى غير محددة سواء لأسباب سياسية أو غير سياسية، وهو ما يجعلها غير بعيدة عن مخططات الإرهاب وأهدافه. ولمعالجة الفساد داخل الجهاز الشرطى، أنشأت هندوراس فى عام 2016 لجنة تطهير الشرطة، وذلك بعدما تم الكشف عن مشاركة أفراد من ضباط الشرطة رفيعى المستوى فى مقتل المسئول عن مكافحة المخدرات فى البلاد، مما أدى إلى بدء حملة فصل للمئات من كبار المسئولين وآلاف من ضباط الشرطة. ومن جهة أخرى، يُعتبر جهاز الاستخبارات الهندوراسى جزءًا لا يتجزأ من الجيش، لذلك يطلب منهم بشكل روتينى تقديم معلومات عن أنشطة العائلات الإجرامية وتحركات عصابات الشوارع ،فبدءًا من عام 2009 تم تسليح وتسييس جهاز الاستخبارات، فبذلك واصلت الدولة إضفاء الطابع العسكرى على معركتها ضد الجريمة المنظمة والإرهاب، بالإضافة إلى إعطاء الجيش سُلطات الشرطة بما يتضمن سُلطة الاعتقال. وفى عام 2013،قامت هندوراس بإنشاء ونشر وحدة من صفوة الشرطة العسكرية بهدف التعامل بشكل مباشر مع مثل هذه التهديدات والحفاظ على أمن البلاد الداخلى. 2 فنزويلا أمّا فنزويلا، فتُعتبر دولة عبور رئيسية لشحنات المخدرات التى تغادر كولومبيا إلى الولاياتالمتحدة وأوروبا، حيث يعمل ضعف سيادة القانون، والفساد الداخلى على استقطاب الكيانات الأجنبية، خصوصًا الكولومبيين،من أجل السيطرة على تجارة المخدرات المربحة. والأخطر فى فنزويلا هو وجود أدلة قوية تؤكد أن هناك عناصر من قوات الأمن ،بما فى ذلك أجهزة الاستخبارات نفسها تتدخل فى تجارة المخدرات منذ عام 2005ومن بينها «كارتل دى لوس سولس» وهى شبكة غير رسمية مكونة من مسئولى الشرطة والجيش الذين يستغلون نفوذهم للحصول على أرباح كبيرة من تجارة المخدرات. وعلى عكس هندوراس، فإن تهديدات الجريمة المنظمة والإرهاب تعمل على تمزيق أنسجة النظام الاجتماعى والرقابة السياسية فى فنزويلا، بالإضافة إلى أن هناك بعض المدن الفنزويلية التى اجتاحتها جرائم الشوارع والعصابات التى أدت إلى ترويع السكان عامة وخَلق حالة من عدم الاستقرار وبيئة غير آمنة وعدائية، فعن طريق التخويف والقتل تسعى تلك العصابات إلى السيطرة على هياكل السُّلطة السياسية المحلية. ومن جهة أخرى، يظهر فى فنزويلا عنصر آخر للإرهاب المحلى كالأعمال التى تقوم بها المعارضة السياسية ضد النخب الحاكمة والحكومة، فعلى مدار العَقد الماضى تم قتل المئات من الأشخاص، وتدمير ممتلكات، وتهديد الأمن الداخلى، حيث تُعتبر معدلات القتل العمد فى فنزويلا من أعلى النسب على ظهر هذا الكوكب. وتخلق هذه الأشكال من الإرهاب الداخلى مشاكل كبيرة داخل جهاز الشرطة، مما دفع الحكومة الفيدرالية إلى اتخاذ إجراءات استثنائية، على رأسها استخدام قوات عسكرية للحفاظ على النظام، حيث يعد جهاز الاستخبارات الفنزويلى العامل الرئيسى للعمليات العسكرية وشبه العسكرية. يُعتبر جهاز المخابرات الوطنية الفنزويلى (SEBIN) أول وكالة استخباراتية فى البلاد أنشئت فى البداية كقوة أمنية داخلية، حيث تقدم تقاريرها إلى نائب رئيس فنزويلا.ولطالما تمت مقارنة «SEBIN» بالموساد الإسرائيلى فيما يخص التكتكيات وفاعلية التشغيل، إلا أن جهاز الاستخبارات الفنزويلى تورط بعض أعضائه فى قضايا فساد مؤخرًا. ورغم ذلك، فإن «SEBIN» تقوم بمهمتها الأساسية المتمثلة فى توفير الأمن للدولة. فقد استخدمت «SEBIN» كقاعدة عمليات لنظيرتها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) فى أنشطتها ضد الحكومة الكوبية بعد الثورة، حيث عملت عن قرب مع «CIA»، مما تسبب فى اتهامها بالقيام بأعمال قذرة متضمنة التعذيب وقتل المعارضين السياسيين. وبالتالى يتضح أن المخابرات الفنزويلية تعتبر أداة سياسية فعالة للتعامل مع الجريمة المنظمة والإرهاب الداخلى، وقد نجحت بالفعل فى إنشاء واحد من أهم برامج المراقبة وأكثرها فاعلية فى العالم. حتى تُكمل تلك المهمة أنشأت فنزويلا أكثر أنظمة المراقبة شمولا فى العالم، حيث أذاع عملاء سابقون وخبراء أمنيون فى «SEBIN» علنًا أن الحكومة الفنزويلية لم تبخل بأى جهد لإقامة نظام مراقبة محلى باستخدام تكنولوجيا إيطالية وروسية.يتم استخدام المعلومات التى يتم الحصول عليها وجمعها من قبل «SEBIN» فى بناء قاعدة بيانات عملاقة بداخلها تنشئ ملفات تعريفية «للشخصيات ذات الأهمية» من اجل اتخاذ إجراء فورى أو لاستكمال المراقبة. وتؤكد التقارير الأمنية أن فنزويلا لم تدخر وسعًا فى إنشاء هذا البرنامج بالاستعانة بالتكنولوجيا الروسية والإيطالية. ويحتفظ جهاز «SEBIN» قاعدة البيانات الكبرى تلك التى تضم معلومات تخص كبار المسئولين والسياسيين. ويعتبر برنامج المراقبة والتتبع الفنزويلى فعالًا للغاية فى التعامل مع عصابات الجريمة المنظمة التى تستخدم وسائل الاتصالات الحديثة والتكنولوجيا المعتمدة على أجهزة الكمبيوتر. نخلص من ذلك أن «SEBIN» هو جهاز استخبارات وذراع عسكرية وسياسية للحكومة الفيدرالية، حيث تم تزويده بالأسلحة التى تمكنه من محاربة الجريمة المنظمة والأنشطة الإرهابية التى تهدد أمن البلاد. 3 كولومبيا بعد مرور أكثر من نصف قرن على الحرب الأهلية وارتفاع وسقوط أباطرة تهريب المخدرات،استطاعت كولومبيا أن تمشى قُدُمًَا بخطوات واسعة نحو تحسين وضعها الأمنى خلال السنوات الأخيرة،لكن كولومبيا لا تختلف عن جارتيها،هندوراس وفنزويلا، حيث إنها أيضًا تعانى من الجريمة المنظمة والإرهاب الداخلى التى تثيرها العصابات المتمردة. يتكون عالم الجريمة فى كولومبيا من مزيج غريب من منظمات إجرامية قديمة التى تتبنى أيديولوجيات سياسية جنبًا إلى جنب مع الكيانات الإجرامية الحديثة التى أعلنت الحرب على الحكومة الفيدرالية. أمّا الأنشطة الإجرامية الشائعة فى المنطقة بأكملها فيتضمن المخدرات والسلاح وغسيل الأموال والإتجار بالبشر وعمليات الابتزاز إلى جانب عمليات التعدين غير المشروعة.وتؤول مهام مكافحة تلك التهديدات إلى «وكالة الاستخبارات الكولومبية» التى يمكن أن ينقسم تاريخها إلى ما قبل 2011 وما بعدها. فقد كانت «دائرة الأمن الإدارية» (DAS) تعتبر جهاز الأمن الكولومبى المسئول أيضًا عن الحدود والهجرة إلى أن تم حله فى 31 أكتوبر عام 2011 كجزء من إصلاح تنفيذى ليتم استبداله ب«الإدارة الوطنية للاستخبارات» (DNI). فى البداية كان الهدف من «DAS» هو التعامل مع مشاكل الأمن الداخلى للدولة، حيث كانت تعتبر أكبر وكالة خدمات سرية مدنية فى كولومبيا، حيث كانت ميزانيتها السنوية تصل إلى أكثرمن 100 مليون دولار بالإضافة إلى 5 آلاف عميل. عملت «DAS» على توفير معلومات استراتيجية لصانعى القرار، بالإضافة إلى مهام أخرى من بينها توفير خدمات التحقيق للشرطة القضائية، كما تعتبر الجهاز الرئيسى المسئول عن مكافحة التجسس، سواء كانت التهديدات داخلية أو خارجية، ومراقبة الهجرة بالتعاون مع الولاياتالمتحدة إذ عملت «DAS» مع «وكالة مكافحة المخدرات». بينما فى أواخر عام 2011 أعلن الرئيس الكولومبى «خوان مانويل سانتوس» أنه سيتم استبدال «DAS» بوكالة جديدة «ANIC»، حيث كان الهدف الوحيد منها هو جمع المعلومات عن التهديدات المحلية والأجنبية، وصممت ألا يتم التفاعل بينها وبين الجيش سوى فى الحالات النادرة عندما يكون هناك تهديد مباشر للأمن القومى. تتميز كولومبيا عن معظم البلدان المحيطة بها بكونها لم تعان من حكومات عسكرية طويلة أو من انقطاع فترات الديموقراطية، فإن الافتقار إلى هذه السلسلة من الفترات الانتقالية يمكن الحكومة من إبقاء قبضتها على وكالاتها الاستخباراتية والبيانات التى تم تجميعها وتحليلها. هذا كما نجحت الحكومة فى الحفاظ على إبقاء تركيز المجتمع الاستخباراتى على القضايا الاستخباراتية المطلوبة من قِبَل الحكومة، مما قلل فرصة أن تبدأ هذه الأجهزة فى الانحراف عن مسارها والانجراف نحو الفساد والاستغلال والابتزاز.