عبر تاريخها الممتد لما يزيد على أحد عشر عقدًا من الزمان، قادت جامعة القاهرة حركة التنوير فى المجتمع، وكان أساتذتها حاضرين فى كل القضايا الجدلية والتطورات الفكرية التى شهدتها مصر. لن نتحدث الآن عن الدور الغائب للجامعة، فقد يكون ذلك قول حق يراد به باطل، ولكننا قصدنا رئيس الجامعة الدكتور محمد عثمان الخشت، وهو أستاذ للفلسفة الإسلامية قبل أن يصبح رئيسا للجامعة، قصدناه سائلين عن إجابات حول الظواهر الفكرية والدينية التى بات المجتمع المصرى يعج بها. تحدثنا إلى الدكتور الخشت حول قضايا التطرف والإلحاد والدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى فوجدناه يدعو ليس إلى تجديد الخطاب الدينى فحسب، وإنما لثورة دينية شاملة تتضمن تأسيس خطاب دينى جديد كليا، بل وتأسيس علوم شرعية مختلفة عن تلك التى كانت سائدة فى عصور تاريخية سابقة. ونفى الخشت ما يُردده البعض حول وجود حركة إلحاد بالجامعات، مؤكدًا أن الأمر لم يصل حد الظاهرة التى تتطلب وقفة جادة للمواجهة من قبل إدارة الجامعة. أصبح تجديد الخطاب الدينى ضرورة ملحة فى ضوء تزايد معدلات التطرف والإلحاد، فمن أين يبدأ تجديد الخطاب الدينى من وجهة نظركم؟ - أنا لا أدعو إلى تجديد الخطاب الدينى، لكنى أدعو إلى خطاب دينى جديد، وتطوير العقل ركيزة أساسية فى ذلك لأن العقل سابق على الخطاب الذى يمثل عملا إنسانيا فى النهاية، والخطاب الدينى لا يعنى المساس بالقرآن الكريم والسُنة الصحيحة فهما مقدسان؛ لذا أدعو لتطوير العقل الدينى لأنه الشرط لتكوين خطاب دينى جديد. كل محاولات التجديد التى حدثت عبر التاريخ كانت نتائجها مُرة، فالواقع لم يتغير وبالتالى كلها محاولات للتجديد وهى جهود مشكورة لكنها لا تصنع عصرًا جديدًا، فالإمام أبو حامد الغزالى قال إننا بحاجة إلى إحياء علوم الدين، لكنى أرى أننا بحاجة إلى علوم دين جديدة، مثلما أصبح لدينا علم اجتماع جديد وعلم نفس جديد، وأنثربولوجيا جديدة. ماذا تقصد بعلوم دين جديدة؟ - لا بد أن يكون هناك علوم للدين تتلاءم مع التطور العلمى، فعلوم الدين القديمة نتاج بشرى مقيد بظروف عصره، وإذا بعث الشافعى أو أبو حنيفة أو مالك أو الليث بن سعد لأتوا بفقهٍ جديد، وخطاب دينى جديد، ولم يكتفوا بالحديث عن تجديد للخطاب الدينى، وهنا لا أقلل من جهود علمائنا العظام فلولاهم ما كنا نحن. المسألة تتعلق بأن العلوم القديمة مثل البناء الأثرى العظيم، كالأهرامات والمعابد، يمكنك ترميمها للاحتفاظ بها، لكن ليس للسكن بها، فهى لا تلائمنى للعيش بها، ولذلك لا بد من علوم جديدة للدين تعتمد على العلوم الإنسانية والاجتماعية الجديدة بالعودة إلى الأصول النقية للدين. كيف يمكن تأسيس هذه العلوم من وجهة نظرك؟ - عن طريق تغيير طرق التفكير دينيًا، أى أن تغيير طرق التفكير القائمة على التواكل إلى طرق التفكير الآخذة بالأسباب، فالشخص الذى لا يبذل جهدًا ولا يبحث عن عمل أو الذى ينتظر أن يأتيه الرزق فى منزله أو ينتظر فرج الله فهذا الشخص لا يفكر تفكيرا دينيًا سليما، فهذه الطريقة مبنية على التواكل وانتظار الفرج وانتظار المخلص الخارجى لينقذ هذا الشخص، أما طريقة التفكير الجديدة تستند إلى العودة إلى النص الأصلى القرآن والسُنة الصحيحة. وما دور الجامعة فى ذلك؟ - بدأنا فى مشروع تطوير العقل المصرى، فهو مظلة أوسع نعمل من خلالها على تغيير طرق تفكير الناس، فهناك تاجر يعتمد على بيع تجارة ذات خامة سيئة وأسعار عالية، من أجل مكسب سريع، لكنه يخسر على المدى القريب عمله وأمواله، بينما هناك تاجر يعتمد على بيع الخامات الجيدة بمكسب كبير، لكنه يكسب على المدى البعيد ويحافظ على أمانته ومصداقية عمله، ومن هذا المنطلق نعمل على تغيير طرق التفكير للعقل المصرى. ما العقبات التى تقف أمام تطبيق الخطاب الدينى الجديد؟ عقل أفراد المجتمع لا يزال يعمل وفق الطرق التقليدية الموروثة، ونحن نحاول الدعوة لتغيير طرق التفكير. ولماذا تأخرنا فى النجاح فى هذا الأمر؟ لأن الحل ليس فى تغيير الأفكار، لكن فى طرق التفكير، ومن ضمن العقبات مناهج التعليم، وكذلك الطرق التقليدية للتفكير الحالى. وماذا عن تفسيرات السنة ومطالبكم بتأسيس علم حديث جديد؟ - العلوم الحالية هى جهود عظيمة لعلماء عظام، تصلح لعصورهم لأنهم يفهمون كتاب الله وسنة الرسول فى ضوء ثقافتهم وظروفهم الاجتماعية وما وصل إليهم من علوم، وإذا قلنا أن هذه هى الطريقة الوحيدة فى الفهم يبقى أنت عملت مشكلة كبيرة ضد إيمانك، لأن القرآن صالح لكل زمان، فلو جمدته عند فهم عصر معين.. هل يبقى صالحًا؟ هل كل آيات القرآن قطعية الدلالة؟ - هناك آيات قطعية الدلالة وأخرى ظنية، فهناك لفظ يحتمل أكثر من معنى لأنه قرآن يلائم كل العصور، فتعددية المعنى التى يطرحها القرآن تطرحها السنة، لأن القرآن جاء ليلائم عصورًا متعددة والفتوى الواحدة لا تصلح لكل زمان ومكان، فالفتوى على حسب المستفيد، والإمام الشافعى تغير فقهه بين المدينة والعراق ومصر، لأنه يراعى ظروف العصر الاجتماعية والسياسية، واختلاف أحوال الناس. هل الإسلام يكرس للتبعية؟ - فكرة الاتباع فى الإسلام مرفوضة، والقرآن يدعو إلى إعمال العقل ولو لم نعمل العقل ما آمن المسلمون الأوائل، ولذلك على كل مسلم أن يذهب إلى القرآن والسنة الصحيحة مسلحًا بعلوم العصر. وهناك عقل مغلق يتعامل مع النصوص بطريقة الاتباع والحفظ والنقل وفى نفس الوقت يتم استغلاله سياسيًا على مستوى العالم، لذلك بداية التغيير من العقل وتغيير طريقة التفكير. وكيف يتم تطوير العقل الجمعى من خلال الجامعة؟ - من خلال تغيير طرق تفكير الطلاب وبالتالى ينشرون أفكارهم لذويهم، وتبدأ عدوى التفكير الجديد فى الانتشار، ويكون ذلك من خلال المناهج والمحاضرات، والأسبوع المقبل نعلن عن انطلاق مقرر التفكير النقدى وريادة الأعمال فى جامعة القاهرة، وبالتالى نعمل على محورين هنا أعضاء هيئة التدريس والطلاب. لماذا اكتفت النخبة وتحديدا أساتذة الفلسفة بالعمل الأكاديمى وانعزلت عن الشارع؟ - ليس صحيحًا، فرئيس جامعة القاهرة أستاذ فلسفة، وخطته لتطوير جامعة القاهرة قائمة على تحويل العلوم النظرية لعلوم تطبيقية، وبشكل عام طبيعة الفلسفة تأملية نظرية، لكن ليس جميع الفلاسفة منعزلين عن العالم والواقع، بل بالعكس معظم الأفكار التى حركت وشكلت العالم عبر التاريخ أفكار فلسفية. وماذا عن الأساتذة الذين يكتفون بالعمل الأكاديمى؟ - كأستاذ فلسفة درست العديد من العلوم المختلفة مثل العلوم الشرعية، وعلوم الفلسفة وتاريخ الأفكار، وتاريخ العلم، ودرست التاريخ والاجتماع وعلم النفس، أما الأساتذة الأكاديميون فلهم الحرية فيما يختارون، فهناك من يفضل تقديم مشروعه للحياة من خلال المؤلفات النظرية، وهناك من يفضل تقديم مشروعه للحياة من خلال إنجازاته على أرض الواقع، وهناك من يمزج بين المشروع النظرى ومحاولة تطبيقه على أرض الواقع. قدمت مشروعًا نظريًا تم تأليفه على مدار 36 عامًا، عكفت عليه وتم تقديمه فى أكثر من 40 كتابًا مؤلفًا، وأكثر من 25 كتابًا محققًا، فأنا أحاول تحقيقه على أرض الواقع. وكيف نجعل أعضاء هيئة التدريس يخطون الخطوات نفسها؟ - نحن فى جامعة القاهرة نقدم دورات تدريبية لأعضاء هيئة التدريس على التفكير النقدى وريادة الأعمال من خلال المركز المعنى بالدورات التدريبية لهم بالجامعة. هل اختلف الإسلام من عصر النبوة عن الموجود الآن؟ - الإسلام الأول هو الإسلام المنسى، أحكم عليه بأنه إسلام عظيم لأن نتائجه على الأرض كانت عظيمة، استطاع أن يحكم العالم فى هذا الوقت، ونشر العدالة، وحقق الرفاهية، كما استطاع الانتصار على امبراطوريات كبرى، الفارسية والرومانية، إذًا نتائجه كانت عظيمة. وماذا عن الإسلام الذى نعيشه الآن؟ - التفكك والتشرذم والصراع الداخلى، ودول منتهكة، وحقوق مستباحة، إذًا العلة فى المسلمين وليس الإسلام، والإسلام لا يعمل وحده فى الواقع، وإنما يعمل من خلال المسلمين، فإذا فهم المسلمون الإسلام بشكل صحيح، يظهر لنا الإسلام الصحيح، والعكس صحيح. الإسلام المنسى كى نفهمه لا بد أن يكون الريسيفر سليمًا، لدينا محطة البث سليمة، ولكن محطة الاستقبال بها مشكلة، فالمسلم حاليا يفكر بطريقة غير علمية وبالتالى عندما يستقبل من محطة البث «الإسلام المنسى» يستقبل غلط ويترجم غلط ويصدر صورة مشوشة، وبالتالى نحتاج ضبط عقلية المسلمين بتغيير طريقة تفكيرهم إلى الطريقة العلمية. هل أدى انتشار التصورات المغلوطة لارتفاع فى نسبة الإلحاد بين الطلاب؟ - لا نستطيع أن نقول إن فكر الإلحاد انتشر، فهذا يحتاج إلى بيانات وإحصائيات ودراسات تفيد بذلك أو توضحه، فأنا لا آخذ بالتفكير المرسل، لا يوجد إلحاد فى الجامعات، ولا يمكن أن يكون هناك بعض الأفراد ملحدون فنصدر من خلالهم حكمًا عامًا. هل من الممكن أن نجد مبادرة لمجابهة تفكير الإلحاد؟ - الأمر لا يحتاج لهذا، ولا أجد أن هناك حركة إلحادية ولا أظن ذلك، وأنا بطبيعتى أتواصل مع الطلاب ولم يظهر حتى الآن هذا الأمر. هل تنجح الدولة فى تغيير طرق التفكير؟ - ستنجح، وهذا سيتم عقب تغيير طرق التعليم ما قبل الجامعى والجامعى، ونحن نحتاج وقتًا لذلك. إذا وجدت طالبًا ملحدًا فى الجامعة.. كيف سيتم التعامل معه؟ - لم يقابلنى طالب ملحد فى الجامعة، وإذا حدث فهو ابنى فى المقام الأول سأحتضنه وأتقرب منه لمعرفة الأسباب وحل الأمر، فعلينا احتضان أبنائنا جميعًا.