تبدو من الخارج مدينة، تغمرها المحلات والمولات، فلا يوجد بها ما يعبر عن طبيعتها الزراعية، حيث تقلصت مساحة الأراضى بها وانحصرت فى زوايا ضيقة بالداخل. اشتهرت بصناعة العربات الكارو الصاج التى تجرها الدواب، كما تصدرها إلى جميع المحافظات التى تنشط بها حرفة الزراعة، مما منحها شهرة واسعة فى مصر. فصارت العربات الكارو هى العلامة المميزة البارزة هناك. «روزاليوسف» زارت الورش المتخصصة فى صناعة العربات الكارو، التى اشتهرت بها قرية «القلج»، إحدى قرى مركز الخانكة التابعة لمحافظة القليوبية، لتعرف كيف بدأت صناعتها؟ وماذا عن وضعها الآن بعد تقلص مساحة الأراضى الزراعية بالقرية؟ اسمها القديم «قلقشندة» اشتهرت «القلج» بزراعة النخيل، حيث كان بها ما يقرب من ربع النخيل بمصر، لكن قلت مساحته الآن بسبب الزحف العمرانى، عُرفت قديما باسم «قلقشندة» وإليها ينتمى الفقيه المسلم «الليث بن سعد»، اتسعت المساحة العمرانية فى القرية منذ ظهور المياه الجوفية، لذا أنشأت الحكومة الترع والمصارف بها، من هنا بدأ نزوح أهالى المحافظات القريبة منها للعمل بحرفة الزراعة، بسبب توافر الأراضى الخصبة والمياه الوفيرة، وحظيت «القلج» بشهرة واسعة فى زراعة النخيل والخضروات والفاكهة. مع مرور السنين، بدأت الأراضى الزراعية تختفى تدريجيًا لتحل محلها المنازل والعمارات، كما تقلصت نسبة إنتاج المحاصيل بها، بعدما كانت تشارك فيها بنصيب كبير، وصارت «القلج» تتمتع بكافة خدمات العاصمة لتصبح مدينة صغيرة تحت مسمى قرية، أنجبت القرية شخصيات تولت مناصب قيادية فى الدولة منها «محمد الرزاز»، وزير المالية الأسبق، كان أشهر الوزراء فى عهد الرئيس الأسبق «محمد حسنى مبارك»، كان أول من يطبق ضريبة المبيعات فى مطلع التسعينيات ورسم «الأيلولة»، تفوق فى دراسة الحقوق وذهب فى منحة دراسية للخارج وعاد للعمل أستاذاً للاقتصاد والمالية العامة فى جامعة القاهرة، ثم تولى منصب وزير المالية بين 11 نوفمبر 1986 و11 يناير 1996، وبعد خروجه من الوزارة عاد للتدريس فى جامعة القاهرة وتوفى يوم 28 يناير 2011. وأنجبت أيضًا «مجاهد حمد» مفتى الجمهورية الأسبق، وكثر بها المثقفون والعلماء ذوو الدرجات العلمية الرفيعة، بالإضافة إلى ظهور الكثير من رجال الصحافة البارزين منهم الكاتب الصحفى «رضوان الزياتى»، عضو مجلس النواب عن دائرة الخانكة والخصوص والعبور. تتميز «القلج» بالترابط الاجتماعى منذ القدم، فتكوينها السكانى يتألف من عائلات وتنسب كل عائلة إلى اسم شخص أو مهنة، ومنها: «شكشك وعمارة والمليجى وجادو والزيات والسروجى، وزريق وخليفة وعوض وخليل والليثى وعيداروس وشحاتة وأبو سالم وأبو الخير والشافعى والحادى وهيكل وعاصم»، جميعهم يفضلون زواج الأقارب. المهنة تنقرض يجلس أمام ورشته التى ورثها عن والده. الأجواء هادئة، حيث لا عمال ولا زبائن.. لا يزال يمعن النظر فى عربته الكارو الصاج، التى صنعها منذ 5 أشهر وعرضها للبيع لكن بلا جدوى، فالأيام متشابهة والأحداث واحدة، يستيقظ فى ال10 صباحًا يفتح ورشته ظهرًا ويخرج عربته، ويظل جالسًا حتى السابعة مساءً، ثم يعود إلى منزله كما خرج منه. «سيد علام»، ورث الورشة عن والده، وهى ثانى ورشة فى «القلج» لصناعة «الكارو»، يقول: «فى التسعينيات كانت المهنة بخير وظلت الأمور على ما يُرام حتى عام 1998، لأن الزراعة كانت كثيرة والبلد مليئة بالعمل والفلاحين»، مؤكدًا أن تقلص مساحة الأراضى الزراعية هو السبب فى تراجع الصناعة إضافة إلى ظهور ورش لصناعة الكارو فى الصعيد والمحافظات التى تعتمد على الزراعة: «كان بالقلج فى البداية 4 ورش فقط، ورشة الحاج عزت وعزت البقلى، وثابت علام، وعزت إمام، وورشة رجب». كما أن عدم خضوع المهنة للتطوير كان سببًا أيضًا فى تراجع سوقها: «العمل بها موحّد، والتطوير بها صعب، ففى زفتى وضعوا لها «موتور» ولم تنجح، وكل من يعمل بها الآن غرضه الحصول على المال وليس تطوير المهنة أو تعلمها، كما أن ارتفاع أسعار البنزين والمواصلات صعّب المهمة، فأصبح الزبائن يلجأون لشرائها من محافظتهم بدلًا من السفر للقلج، حيث تتخطى تكلفة الذهاب فقط 1000 جنيه». قديمًا كان يتخطى عدد الصنايعية فى الورشة الواحدة 15 «صنايعي»، وكانوا ينتجون 5 عربات خلال 3 أيام: «وكان يأتى الزبائن من كافة المحافظات حتى أسوان، والآن لم يعد لنا زبائن، وكل 4 شهور ننتج عربة، كما أن مكسبها اتضرب، والشىء الذى يجعلنى مستمرا فيها رغبتى فى الحفاظ على اسم والدى، وأعمل بلحام الشبابيك والأبواب الحديد كى أحسن مصدر دخلى وأنفق على أسرتى». يؤكد الرجل الأربعينى أن صناعة «الكارو» تدهورت كليًا منذ 15 عاما، والصنايعية تركوها، منهم من يعمل على «توك توك» ومنهم الأرزقى على باب الله: «المهنة فى طريقها للانقراض، وأصحاب الورش لم يهتموا أن يورثوها لأبنائهم لأنها ليس لها مستقبل، ولم يعد هناك لأحد رغبة فى تعلمها، وأغلب الورش أغلقت نشاطها وبعدما كان عدد الورش كبيرا انحصروا الآن فى 6 ورش فقط». تبدأ صناعة «الكارو» بشراء خامات الحديد من سوق «السبتية» أما «الكاوتش» فيكون جاهزًا. يبدأ العمل على ماكينة «اللحام»، أما «الديسك» لتقطيع الحديد عليه: «للعربية مقاسان فقط، متر والمتر وعشرين، وبعد أن ألحم أجزاء العربية أقوم بدهنها ثم أكتب اسم القلج عليها واسم والدى ورقم الهاتف»، مشيرًا إلى أن جودة الصناعة قلت بسبب ارتفاع أسعار الخامات، وفى مقابل ذلك قلّ المكسب: «قديمًا كانت أسعار الخامات فى المتناول وكان مكسب العربة 50 جنيهًا وكان مبلغا كبيرا ذا قيمة حينها، أما الآن فثمن العربة 4 آلاف جنيه ونصف والمكسب لا يتعدى 200 جنيه». تحتاج المهنة إلى مجهود بدنى كبير، حيث إن تصنيع العربة الواحدة يستغرق 3 أيام: «أكثر مرحلة تأخذ منا وقتا، مرحلة التجميع، وبعد ذلك الأمور سهلة لأننا حافظين المقاسات»، كنا نعمل من ال 8 صباحًا حتى ال 11 مساءً والعمل الكثير كان يشجعنا على البقاء لمدة أطول، والعربة تعيش 10 سنوات ثم تلجأ للصيانة، عربات زمان كانت 25 سنة وأكثر، أما الآن فالبلى يتأثر بسرعة وبعدما كان سعره ب 10 جنيهات، صار ب 50 جنيهًا». يتذكر «سيد» أنهم كانوا يمتلكون قديمًا مخازن للعربات، فكانوا يصنعون كميات كبيرة ويضعونها فى المخزن بسبب التوافد الدائم عليهم: «فى أوقات يظهر زبون يأتى إلى الورشة باسمها ليشترى، وأتمنى أن تعود المهنة مثل زمان لكن الزراعة على وشك الانقراض من القلج، ومهنتنا مرتبطة بالزراعة، كما أن ظهور التروسيكل عقد الأمور لأن الفلاحين يحملون فيه محاصيلهم الزراعية ويستخدمونه فى كل شيء، واستغنوا عن الحمار، فطعامه اليومى يتخطى ال70 جنيهًا». الحدادة واللحام بدائل عربات كارو متراصة أمام ورشة كبيرة، يبدو أنها كانت من أكبر ورش صناعة «الكارو» فى القلج. يقف بداخلها الشاب «أحمد سمير» الذى ورث المهنة عن والده. لديه 25 عامًا، وحصل على دبلوم صنايع، يؤكد أنه تعلم صناعة العربات «الكارو» على يد والده «سمير خضر»: «مضى 10 أعوام على فتح الورشة، قديمًا كانت المهنة تسير على أكمل وجه لكن الآن حالها وقف من قبل الثورة وبعدها تدهور أكثر». مشيرًا إلى أن الصنايعية تركوا الورشة ورحلوا منذ عام 2011، وصار هو ووالده يعملان بمفردهما: «تدهور حال الفلاح هو السبب فى كل شىء لأن زراعته لم تعد تجنى ربحا كافيا، ويضطر إلى شراء العربة فى المواسم فقط إذا باع من محصوله أو باع عجل»، لجأ صنايعية «الكارو» إلى شراء الخامات الخفيفة، كى يصبح سعرها فى متناول يد جميع الزبائن: «إذا صنعنا بخامات ثقيلة لن يشترى منا أحد، كما أن خامتها نادرة فى السوق، ونعمل فى الحدادة واللحام لنضمن أن يكون لنا دخل مادى خلال الشهر، أفتح الورشة منذ ال10 صباحًا وأغلقها ال 7 مساءً، وأعمل ساعة واحدة فى اليوم، وأنتج عربة كل 3 أسابيع، لكن فى الماضى كنا ننتج 4 عربات فى اليوم وكان بالورشة 7 صنايعية يعملون على قدمٍ وساق».