أظهرت السينما المصرية عمدة القرية فى دور الرجل المستبد الآمر الناهى الذى يتحكم فى كل شيء وفى مصائر البشر أحيانا، وهو ما شاهدناه فى فيلم «الزوجة الثانية»، عندما يقرر «عتمان» عمدة القرية الثرى الزواج من «فاطمة» التى تخدم بمنزله رغم أنها متزوجة، لكنه لم يفكر فى شيء سوى إنجاب طفل يرث من بعده العمودية، وبالفعل يُطلق «فاطمة» من زوجها بمساعدة شيخ القرية ويتزوجها، وربما كانت هذه الصورة انعكاسًا لما يحدث فى الواقع فى مرحلة تاريخية معينة. قدم الفنان حسن حسنى دور «عمدة القرية» بشكل كوميدى فى فيلم محامى خلع مع الفنان هانى رمزى، وكان صاحب الإيفيه الأشهر «دى حاجة لو عرفتوها تبقوا عمد» عندما سأله أهل القرية عن معنى كلمة «الأندروير». خلال الفترة ما بين الفيلمين ولاحقا عليهما اختلفت الحياة ولم يعد العمدة بالقوة التى كان عليها من قبل، وإن كان كل منهم يمثل ذراع السلطة وصوتها فى قريته، يؤدى بعض المهام المتنوعة لكنها الآن مختلفة كثيرًا عن ذى قبل، وقد كان للتطور التكنولوجى وارتفاع نسبة التعليم دور كبير فى ذلك. «جمال»: فى الخناقات كل غرزة بمبلغ وإيصالات الأمانة شرط عدم التعرض يجلس «جمال عبدالرحمن» داخل مكتبه بالمنزل، منهمكًا فى إنهاء الأوراق، يفتح الباب على مصراعيه يستقبل كل الوافدين من أهالى القرية ويستمع إلى شكواهم، مرت 3 أعوام على تقلده منصب العمودية الذى شغله بعدما كان مديرًا عامًا فى مديرية الطب البيطرى، الحاج جمال عمدة قرية «بهادة» التابعة لمركز القناطر الخيرية، حاصل على بكالوريوس زراعة، ورث منصب العمودية عن والده وجده، لذا كان ملمًا بكافة المهام التى كانت فى انتظاره. «حفظ الأمن»، أولى المهام المسندة لأى عمدة، وفق «جمال» ويتم التعيين من قبل وزارة الداخلية، يقول: «المكتب الذى أجلس فيه يُسمى تليفون وخاص بالخفر والسلاح، أستقبل فيه الناس لحل مشاكلهم، أصلح بين العائلات فى الخناقات والنزاعات، وأقوم بعمل مجالس عرفية وأعاون رجال الشرطة فى الحصول على أى معلومات عن جريمة أو أى فرد مطلوب جنائيًا، والشباب المطلوبين للتجنيد، ومتابعة المنشآت الخدمية وفى وقت الامتحانات أمر على اللجان وأتابع أعمال الجمعية الزراعية». لدى الحاج جمال خفيران، أحدهما إدارى والآخر للحراسة، وللعمدة دور بارز فى أى انتخابات، يحث الناس على المشاركة: «أقوم بعمل اجتماعات دورية للحث على الالتزام بالأسعار، ونظافة القرية، والخروج لدور العبادة، وأتابع الغرامات المفروضة على الفلاحين الذين يزرعون الأرز وأتعرف أكثر على مشاكل الناس من خلال أعوانى والقريبين منى، لدينا جمعية أيتام وجمعية زراعية أتابع الخدمات بها من خلال مكتب البريد، وحصل مشاكل صرف المعاشات». «الخلافات العائلية» أبرز المهام الصعبة التى يواجهها «جمال»، حيث يتم استدعاء الطرفين فى حضور المُحكمين وندير الجلسة: «نسمع كل طرف بمفرده ثم نناظرهما داخل غرفة التحكيم، إذا أصيب طرف بجرح تكون كل غرزة بمبلغ وفى حالة السب والإهانة يوقع الطرفان على إيصالات أمانة على بياض لضمان عدم تكرار المشكلة، والغرامة لابد من تسديدها خلال 40 يوما ونراعى الظروف الاجتماعية حينما نفرضها، وهناك من يفضلون الصلح عن دفع الغرامات، وإذا تكرر الخلاف نقدم الصلح للمحكمة للتعامل». يبلغ «جمال» من العمر 63 عامًا، ولديه 3 أولاد الأول ضابط شرطة والثانى حاصل على بكالوريوس تجارة والثالث يدرس فى كلية الهندسة، كما تعمل زوجته موظفة بوزارة الصحة، كما أنه ينتمى لعائلة «عمرو موسى» الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، مشيرًا إلى أنه لم يفكر فى منصب العمودية وفوجئ بترشيح من قبل عائلته: «بعد 3 أشهر من تولى المنصب أخذت دورة العمد الأساسية». انفردت قرية «بهادة» بسمات مختلفة عن قرى القناطر الخيرية، تبلغ نسبة التعليم بها 99%، كما تهتم بعمل حملات توعية إذا صدر قرار جديد من الدولة: «نقوم بتوزيع منشورات على الأهالى، ونذيع فى مكبرات الجوامع ونضع ملصقات على الجدران لنضمن وصول التعليمات للجميع، أو فى حالة وجود أدوية لتحصين المواشى»، يبلغ عدد سكان القرية 20 ألف نسمة، وحصلت على لقب «القرية النموذجية» على مستوى المحافظة أكثر من مرة. عمدة قرية «محمد صلاح»: طلاق الواتس آب بقى موضة 12 عامًا مضت على تقلده منصب العمودية، كانت فى بدايتها هادئة، ولم يكن منشغلًا بشيء سوى مشاكل واحتياجات أهالى قريته، لم تحتفظ سنواته بذلك الهدوء كثيرًا، فالآن باتت قريته من أشهر القرى على مستوى العالم، وأصبح على تواصل دائم مع وسائل الإعلام، وحظى بمكانة فريدة، فهو عمدة قرية «محمد صلاح»، لاعب نادى «ليفربول»، «نجريج» هى إحدى قرى مركز «بسيون» التابعة لمحافظة الغربية، لم يكن «صلاح» أولى أعلامها فقد سبقه الشيخ «محمد عياد الطنطاوى» بحوالى 100 عام وكان أول معلم للغة العربية فى «سانت بطرسبورج» بروسيا الاتحادية، وأنشئ قسم يحمل اسمه بها. المهندس «ماهر شتية»، العمدة الثامن من أفراد عائلته لقرية «نجريج»، حصل على بكالوريوس زراعة، وكان مديرًا عامًا فى مركز بسيون، يقول: «تفرغت من وظيفتى حتى أعمل عمدة، لكن راتبى ظل كما هو لأن العمودية عمل تطوعى، لا أحصل على أموال منه سوى بدل الضيافة وهو مبلغ زهيد يبلغ 700 جنيه، فى حين أن الضيافة الواحدة تتخطى 1000 جنيه، خلال الضيافة أستقبل من لديهم مشكلات». لدى «ماهر» 25 خفيرًا، وهذا عدد غير كافٍ نظرًا لاتساع مساحة القرية، مؤكدًا الدولة بدأت تعير اهتمامًا لوظيفة الخفير حيث اختلفت معايير اختياره الآن عن الماضى، ويشترط حصوله على مؤهل متوسط: «يمرون فى القرية تحسبًا لحدوث أى مشاكل، وخاصة الأماكن الحيوية مثل المستشفيات والمدارس»، مشيرًا إلى أن مشاكل الريف ارتبطت جميعها بالميراث، وشغلت الخلافات الزوجية مؤخرًا مساحة كبيرة: «قديمًا لم يكن هناك طلاق، والآن انتشر بشكل كبير، وكل مشكلة لها معايير خاصة، وشروط يلتزم بها الطرفان وقرارات تأخذها اللجنة العرفية فهناك مشكلة وصلت لقتل تم حلها بسهولة، ومشكلة وراثية استغرقت منا سنوات لحلها، وبعد الصلح لابد أن يذهب كل طرف عند الآخر فى منزله ويشرب كوب شاى». يوضح الرجل الخمسينى أن المنازعات يتم حلها عن طريق «قعدة عرفية» تتألف من 5 أفراد، إضافة إلى شيخ القرية التى حدث بها المشكلة: «القرية مقسمة إلى 4 شياخات، يعاونون العمدة ويتم اختيارهم من وزارة الداخلية»، مؤكدًا أنهم يواجهون مشاكل فى تجاوب المتخاصمين: «قديمًا كان هناك كبير للعائلة كلمته تمشى على الجميع، اليوم البيت المصرى اختلف، الزوجة والابن والأب والبنت ليهم رأى». كان يتمنى «ماهر» أن يكون عمدة فى زمن والده، حيث لا وجود لوسائل التواصل الاجتماعى: «المشاكل تضاعفت بسبب التكنولوجيا، وهناك حالات طلاق كثيرة على الواتس آب وكأنها موضة، وصفحات وهمية على الفيس بوك يوجهون فيها إهانات لبعضهم، ونتصل بمباحث الإنترنت لحل المشكلة، قديمًا كان قرار العمدة ينفذ بلا استئناف الآن الناس تعترض وكل هذا يرهقنا فى العمل». «محيى»: تكلفة الجلسة العرفية تتجاوز ال600 جنيه مكث 5 سنوات فى منصبه، لم يكن متحمسًا لتجديد فترة إقامته، لكن الظروف التى مرت بها البلاد خلال ثورة يناير، أجبرته على الاستمرار بصفته قائمًا بأعمال العمدة، لحين فتح باب الترشح مرة أخرى، «محيى السعدنى»، العمدة المؤقت لقرية «كفر حانوت بحرى» التابعة لمركز «زفتى» بمحافظة الغربية، يعمل موظفًا بوزارة المالية، لديه 44 عامًا، حاصل على ليسانس حقوق، يؤكد أن صعوبة المنصب وكثرة مشاكله جعلته يكتفى بدورة واحدة فقط، ويعود لوظيفته من جديد. يتلخص دوره فى حل مشاكل القرية مثل الصرف الصحى، وأيضًا مساعدة الفقراء، يقول: «أخاطب المسئولين وأعضاء مجلس الشعب لعرض عليهم احتياجات القرية ومشاكلها»، مشيرًا إلى أن هناك أعمالًا ليس له الحق فى تنفيذها مثل التوقيع على الأوراق الخاصة بالقرية، يتولى هذه المهمة شيخ البلد أو عمدة القرية المجاورة إليهم: «غرفة السلاح مازالت موجودة حتى تعيين العمدة الجديد، والآن عادت الانتخابات بعد غياب 4 سنوات، وأخويا من ضمن المرشحين للمنصب». لم يعد الاهتمام بمنصب العمدة مثل الماضى، وفق «محيى» بسبب ارتفاع نسبة التعليم، لكن هناك فئات تفضل الجلسات العرفية نظرًا لارتفاع تكاليف المحاماة والتى لا يقدر الكثير على تحملها: «المشاكل الخاصة بالمحليات والتعديات على الأراضى الزراعية، نبلغ بها الجمعية الزراعية ونضع حراسة على الأرض لمنع التعدى، ويتم تحرير محضر ثم إزالة لحماية الرقعة الزراعية الموجودة فى الحيز العمرانى للقرية». «الجلسات العرفية» كانت بمثابة عبء كبير على الرجل الأربعينى، فلا يمر أسبوع دون عقد جلستين فأكثر فى منزله: «يتخطى عدد الحضور 50 فردا، ولابد أن يأخذوا واجبهم فى المنزل، والجلسة الواحدة تتخطى 600 جنيه فى حين أن مكافأة الضيافة التى يحصل عليها العمدة 700 جنيه، ويضيف: «لدينا مشكلة فى عدد الخفر، كان لدينا 2 فقط ثم صدر قرار بأن نرفع عددهم وصاروا 4، وهناك كثيرون يريدون الالتحاق لكن باب التعيين مغلق». «رجب»: الظروف الاجتماعية والمعيشية صعبت مهمتنا.. و30 خفيرًا مش كفاية الثانية ظهرًا، هدوء شديد يغطى المناخ العام، يقطعه صوت السيارات التى تمر بين الحين والآخر، فى الساحة المؤدية للمنزل تقف سيارة ملاكى، تنم عن وجود أشخاص بالداخل، بدا الطابق الأرضى المخصص للخفر مجهولًا للوهلة الأولى، فبعد طرق الباب مرات متتالية لم يظهر أحد، يبدو أنهم انتهوا من تناول الشاى والنرجيلة وأخذوا قيلولة، فى ناحية أخرى من المنزل، يوجد سلم يؤدى للطابق الثانى، حيث يقطن العمدة وعائلته، كان يجلس مع ابنته «فاطمة» فى ذلك الوقت، ثم يستأنف عمله مرة أخرى. «رجب نصار» عمدة قرية «أجهور الصغرى»، التابعة لمركز القناطر الخيرية، تقلد منصبه منذ عام 2006، تخرج فى قسم اللغة العبرية بكلية الآداب جامعة عين شمس، كما أجرى دبلومة دراسات عليا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، كان يطمح للعمل فى مجال الصحافة لكنه لم يجد الفرصة، يقول: «عملت رئيسًا للوحدة المحلية بالقناطر، كان عمى عمدة للقرية وقدم أكثر من شخص للمنصب ووقع الاختيار عليّ». لدى «رجب» 65 عامًا، لديه بنتان درستا فى كلية الإعلام وولد فى كلية الحقوق، مؤكدًا أن الفارق الظروف الاجتماعية والمعيشية جعلت مهام العمدة مختلفة عن الماضى: «زمان كان هناك خير ولم تكن المشاكل كثيرة مثل الآن، كان مستوى أهل القرية أقل لكنهم كانوا متمسكين بالعادات والتقاليد»، مؤكدًا أن مشاكل الميراث والأحوال الشخصية يختص بها شيخ أو عالم إسلامى للإفتاء وتأخذ وقتًا، لكن المنازعات تكون سهلة: «الجشع انتشر بين الناس وهذا ضاعف مشاكل الميراث، وهناك قلة توزعه بما يُرضى الله، أما المشاكل الزوجية فنلجأ فيها إلى الصلح وإذا كانت الحياة مستحيلة بين الطرفين نتبع إجراءات الطلاق». يبلغ عدد الخفر بالقرية 30، يحرسون المنشآت الحكوية، فضلًا عن وجود 6 من مشايخ البلد يعاونون العمدة فى معرفة مشاكل المواطنين: «عدد الخفراء لابد أن يتعدى 30، لأن العمدة ومعاونيه يكونون بديلًا عن وجود نقطة شرطة بالقرية»، اشتهرت «أجهور الصغرى» بالهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا، وهناك عائلات كثيرة سافرت واستقرت بالخارج وتركوا القرية منذ سنوات: «يسافرون للبحث عن وظائف حتى أصبح السفر ثقافة أهل القرية لأن نسبتهم كبيرة».