الدراما الدينية والتاريخية.. موضوع لا يتوقف الجميع عن الحديث عنه فى كل مرة يحل علينا شهر رمضان الكريم بموسمه الدرامى الساخن، ولا يتوانى أهل «الفن» من المنتجين والمؤلفين والممثلين عن إما اللوذ بالصمت وغض الطرف عنه تارة، أو اختلاق الأسباب والمعاذير والشكاية المستمرة والعمل بالمثل القائل «على قد لحافك مد رجليك»! ورغم أن الحديث عن تاريخ مصر بشتى أطيافه الفرعونية والإسلامية والقبطية، أو الكلام الذى من قبيل أن «التاريخ مرآة للشعوب» أو أن «أمة بلا تاريخ تستحق أن تنسى»، أصبح الآن يلوح لآذاننا على أنه ضربًا من ضروب الابتذال والمزايدة، إلا أن مجرد ذكر غياب الأعمال التاريخية والدينية منذ اختفائها تمامًا لأكثر من عقد تقريبًا وحتى الآن، لا يعكس شيئًا إلا رغبة حقيقية لدى المشاهد فى وجودها بصورة مستمرة، لا أن يشاهد أعمالاً قديمة سئمها وعرفها، هذا إن عُرضت عليه أصلاً فى أوقات الذروة. إن عدد الأعمال الدرامية التى شاهدها المصريون خلال رمضان هذا العام بلغت 26 مسلسلاً ما بين دراما اجتماعية أو أكشن أو كوميدى ،فضلاً عن ال«توليفة» المعهودة ل«محمد رمضان»، لا يوجد بينها عملً دينى أو تاريخى واحد سوى مسلسل كارتونى شديد السذاجة يدعى «رجال حول الرسول» ،وهو الجزء الثانى بعد الذى عرض العام الماضى، ولم يحقق نسب مشاهدة تذكر. وعلى صعيد الدراما العربية، لم نر سوى مسلسلين تاريخيين-دينيين فقط، الأول إنتاج سورى شاهدنا نحن_ المصريين_ مثله فى التسعينيات من قبل، وهو مسلسل «هارون الرشيد» بطولة «قصى خولى» و«عابد فهد»، والآخر مسلسل «المهلب بن أبى صفرة» الذى يحكى سيرة أحد قادة دولة بنى أمية والذراع اليمنى ل «الحجاج بن يوسف الثقفى»! ولما كان هذا البلاء قد دفع بعض المشاهدين المصريين إلى التباكى على تراثهم الدرامى ربما أكثر مما حصل منذ زمن بعد رؤيتهم للدراما السورية وهى تتفوق فى هذا النوع من المسلسلات، فقد تهافتوا إلى جمهورية «يوتيوب» لمشاهدة الأعمال القديمة سواء أكانت تليفزيونية أو سينمائية وسواء أكانت مصرية أو عربية أو حتى إيرانية وتركية، فالفارق «الوطنى» لديهم ينتفى طالما أنهم سيشاهدون شخصيات-قرأوا عنها أم لم يقرأوا-تظل محببة إلى قلوبهم ويتمنون رؤيتها فى سياق درامى. فنرى أن مسلسلات مثل «عمر» و «القعقاع بن عمرو التميمى» و«الحجاج» و «رجل الأقدار» و«إمام الدعاة» و «عمر بن عبد العزيز» و«يوسف الصديق» وأفلام مثل «الرسالة» و«فجر الإسلام» و«صلاح الدين الأيوبى» لا تزال حتى الآن رائجة، بل إن «مالك العقاد» نجل المخضرم الراحل «مصطفى العقاد»، أعلن مؤخرًا أنه سيطرح نسخة فائقة الجودة بتقنية «4K»، من «الرسالة» فى عيد الفطر داخل دول الخليج، بعد صراع مرير مع الرقابة. ويعتب بعضُ من الممثلين والكتاب على شركات الإنتاج الخاصة، عزوفها عن صناعة العمل التاريخى والدينى وتخوفها من خوض «مغامرة» كتلك، فضلاً عن سوق الإعلانات التى تتحكم فى العمل الدرامى وتسويقه، وعدم تشجيع القنوات التليفزيونية على الإنتاج وتحفير المؤلفين، وأيضًا مزاج المشاهد الذى سأم نمطية المادة الدرامية و«التدخل الزائد» فى شكل ومضمون الأعمال الدينية من مؤسسة الأزهر، والذى بالتأكيد لن يفوت على الكيان الذى يعرف الآن ب«لجنة الدراما» أو ما يطلق عليه البعض «الغول الأخلاقى». سألنا الكاتب الصحفى «يسرى الفخرانى»، رئيس قناة « DMC دراما» عن هذا الأمر، إذ قال إن «الأعمال الدينية والتاريخية متوقفة بالفعل فى مصر منذ فترة، ويعزو ذلك إلى أسباب هامة على رأسها تكاليف الإنتاج والتصوير، ناهيك عن عدم وجود أى نص ملائم للوقت الذى نعيشه الآن». وأضاف: «ورغم ذلك، انتبهت القناة لهذا الأمر مبكرًا، وعكفنا منذ فترة على تحضير وإعداد عمل دينى هو الأول من نوعه فى تاريخ الدراما الدينية المصرية على الإطلاق، فقد انتظرنا طويلاً الزاوية التى سيخرج بها هذا العمل.. هو عمل جديد يتحدث عن فترة معينة من تاريخ مصر وهو مشروع ضخم للغاية لا يزال فى أطواره الأولى ويضم مجموعة كبيرة جدا من نجوم مصر، وسنبدأ العمل فيه بعد انتهاء شهر رمضان على أن يعرض للجمهور رمضان المقبل». أما القطاع العريض من أهل الفن فيلقون بالمسئولية الرئيسية لغياب المسلسلات التاريخية والدينية على عاتق الدولة وتقاعس شركات إنتاج القطاع العام مثل قطاع الإنتاج باتحاد الإذاعة والتليفزيون وشركة القاهرة للصوتيات والمرئيات ومدينة الإنتاج الإعلامى وجهاز السينما، فى حين يحتج البعض بأن تلك المسلسلات «حكر» على طغمة قليلة من الممثلين الذين يتحدثون فصحى جيدة، مثل الراحل «نور الشريف» و«حسن يوسف» و «محمد رياض» و«أشرف عبدالغفور»، والمؤلفين على شاكلة «عبدالسلام أمين» و«بهاء الدين إبراهيم». يرى المخرج الكبير «مصطفى الشال» وهو ذو باعُ طويل فى إخراج الأعمال الدينية-التاريخية على رأسها رباعية «حسن يوسف» الشهيرة: «إمام الدعاة»، و«الإمام النسائى»، و«ابن ماجة القزوينى»، و«العارف بالله عبدالحليم محمود»، أن مسألة تكاليف الإنتاج الباهظة هى التى قتلت المسلسلات التاريخية الدينية، لكنه اتفق مع الفريق القائل إن المحطات التليفزيونية لا تميل لشراء هذا النوع بحجة أنه ليس هناك جمهور له. ويوضح «الشال» قائلاً: «القنوات التليفزيونية أغلب جمهورها من الشباب الذى لا يفضل مشاهدة الممثلين وهم يتحدثون الفصحى، ومنذ 2010 بالتحديد حينما بدأت الدولة فى العزوف عن إنتاج الأعمال التاريخية والدينية، مات هذا النوع لدينا تقريبًا وظهر فى دول عربية أخرى مثل سوريا ولبنان، الدولة هنا لديها مشاغل أخرى غير إنتاج المسلسلات، لكننا متفائلون أنها ستقوم بدورها المعهود فى هذا الصدد مستقبلاً». السيناريست «محمد السيد عيد» والذى شغل من قبل عضو مجلس إدارة هيئة قصور الثقافة وقدم أكثر من 78 مسلسلاً إذاعيًا وتليفزيونيًا أغلبها تاريخية ودينية، وله مسلسل تاريخى اشترته شركة «صوت القاهرة» وهو مسلسل «طلعت حرب»، لم ير النور حتى الآن، يلقى بالمسئولية الكاملة فى غياب الدراما الدينية والتاريخية على الدولة، مشيرًا إلى أن هذا الأمر امتد أيضًا إلى الإذاعة، وأن الدولة لم تعد تنتج أى أعمال من هذا النوع على الإطلاق، فيما عدا إذاعة القرآن الكريم فقط. ويشدد «عيد» على أن «المسلسلات الدينية لا تقبل عليها القنوات الخاصة لأنها لا تجلب إعلانات ويصعب تسويقها، لذلك لن ينتج القطاع الخاص هذه الأعمال أبدًا، ناهيك عن أن النجوم الموجودين على الساحة فى الوقت الراهن يبتعدون عن الدراما الدينية والتاريخية، لأنه لم يعد لدينا نجوم أمثال نور الشريف الذى كان يعرف قيمة هذه المسلسلات ولا يتردد فى القيام ببطولتها». ويضيف قائلاً: «كان يجب على إذاعة بحجم صوت العرب أن تعكف كما اعتادت قديمًا على إنتاج مسلسلات إذاعية دينية وتاريخية، فهى لا تتطلب أى تكاليف على الإطلاق، للأسف الشديد لا يوجد هذا العام سوى مسلسل دينى أو تاريخى أنتجته الدولة وهو مسلسل إذاعى يتحدث عن الإمام الليث بن سعد». ومع ذلك، وعلى افتراض أن هناك نية حقيقية لدى الدولة فى إنتاج المسلسلات الدينية والتاريخية، فلا تزال عراقيل وعوائق كثيرة أمام تلك المسلسلات حتى تلقى نجاحها المعهود، على رأسها مزاج الجمهور الذى تحدث عنه «الشال»، فكيف يستقطب مسلسل يتحدث عن سيرة الإمام «على بن أبى طالب» أو أحد المحدثين المتقدمين كالإمام «الزهرى» مثلا «جمهور «محمد رمضان»؟! وعلى افتراض أن هذا العمل لن يتعرض ل «التدخل» الأزهرى، الذى يمنع ظهور الأنبياء والرسول والعشرة المبشرين بالجنة بزعم الحفاظ على مكانتهم الدينية، وكأن الفن والتمثيل مسبة وطامة، وأن رأى الأزهر أصبح قرآنًا منزلاً وليس مسألة اجتهاد، ناهيك عن «الاستحالة الدرامية السردية» لتقديم عمل فنى أو تاريخى لا تظهر فيه الشخصية التى يتحدث عنها هذا العمل، ولنا فى محنة «مصطفى العقاد» الشهيرة مع فيلم «الرسالة» والأزهر عبرة، أيضًا هناك مشكلة حساسية المادة المكتوبة والتى ستعرض على الجمهور ونزاهة المؤلف فى انتقاء الروايات التاريخية «الصحيحة» والشخصيات التى ستظهر فى العمل، فلا يتكرر مثلما حدث مع مسلسل «الحسن والحسين» من كذب وتدليس على المشاهد قبل التاريخ، وإظهار مسألة اختلف عليها المسلمون منذ قرون وحتى الآن مثل فتنة مقتل «عثمان بن عفان» وبغى «معاوية بن أبى سفيان» وظلمه وعائلته للإمام «على» وآل بيته لأكثر من 80 عامًا، على أنها من أفعال اليهود! .. وهذا ما أنكره أغلب محدثى «أهل السنة» المتقدمين منهم قبل المتأخرين. يؤكد «الشال» أن المحاذير الرقابية ورأى الأزهر فى هذه المسائل تشكل عائقًا كبيرًا لدى صناع الدراما والسينما، إذ قال: «بالفعل كنت أعمل على مشروع مع الكاتب الراحل «بهاء الدين إبراهيم» يتحدث عن فتنة مقتل عثمان، لكن المحاذير الرقابية والأزهر حالوا دون ظهور هذا العمل للنور، ربما لأن جزءًا كبيرًا من الذين خرجوا على عثمان وقتلوا كانوا من مصر، فكانت هناك تخوفات شديدة من حدوث ضجة كبيرة بين المشاهدين المصريين إذا عرض هذا المسلسل عليهم، لذلك أرى أنه من الأفضل عند صناعة أى عمل فنى أو تاريخى عدم التعرض لمسائل قد تشعل نار الفتنة والتركيز أكثر على القيمة وروح الإسلام، خصوصًا فى الوقت الذى تحاول فيه مصر تحقيق الاستقرار».