وليد الخشاب رسالة الدكتورة جيادره سابا تتناول موضوعًا مهمًا: وهو إعادة قراءة التاريخ الثقافى العربى لفهم المسكوت عنه فى هذا التاريخ ولتحليل الفرضيات والانحيازات التى حكمت لحظة كتابته. المثال المحدّد الذى تتناوله الرسالة إشكالى لأنه يتعلّق بسيّد قطب، الذى تختلف حوله الآراء والتقييمات بحيث يبدو وكأنه شخصان: ناقدو سيّد قطب ومنتقدوه – وأنا منهم - يبرزون دوره فى تيّار اليمين المتطرّف الدينى وقيامه – كعضو بارز فى حزب جماعة الإخوان المسلمين - بالتنظير لمُحاربة المجتمع والدولة، مما اعتبره النظام الناصرى ضلوعًا فى التآمر لقلب نظام الحكم، عوقب عليه بالإعدام. أما المتعاطفون مع سيّد قطب ومع اليمين المتطرّف الدينى يعتبرونه مُنظّرًا يُدافع عن فكرة طوباوية لإنشاء مجتمع يرونه إسلاميًا، يُحافظ على خصوصية ثقافية لا تتأثّر بالغرب، ويقصرون مشروعهم السياسى على ما يتصوّرون أنه الصيغة الإسلامية الوحيدة التى تتمتّع بالشرعية والتى يخطّطون لفرضها على المجتمع بقوّة السلاح. من منطلق الموضوعية العلمية أوافق الباحثة على المبدأ العام لأطروحتها، وهو أن سيّد قطب (ومُجمل التيّار الذى ينتمى له فى الثقافة العربية) قد تمّ تهميشه أو إلغاؤه من التاريخ الثقافى الرسمى أو المعتمد، حيث إن هذا التاريخ قد تمّت بلورة روايته فى الخمسينيات والستينيات فى ظل الدولة الناصرية، فقد تمّ السكوت عن التيار المعادى للمشروع القومى الناصرى، أى تيّار اليمين المتطرّف المتمثّل فى الإخوان وحلفائهم، وأبرز وجوهه سيد قطب. فلا نعثر إلا على شذرات تُشير لكتاباته فى النقد الأدبى أو لمسئولياته الإدارية فى الصحافة الأدبية، ونجد هذه الإشارات غالبًا فى كتابات تاريخية أو سياسية تُوجز نبذة عن سيرة سيد قطب قبل أن تركّز على تنظيره لمعاداة المجتمع ودعوته لاستخدام العنف لترجمة أيديولوجيّته على أرض الواقع. بينما تبرز كتابات تاريخ الثقافة دور المثقفين القوميين واليساريين لأنّ كتّاب تاريخ الثقافة آنذاك كانوا ينتمون لهذين التيارين – وإن كان من الإنصاف أن نقرّ بالنصيب الهائل من الإنتاج الفكرى الذى ساهم به الكتّاب ومؤرخو الثقافة المنتمين للتيارات القومية وللتيارات اليسارية فى الخمسينيات والستينيات، مثل محمد مندور وعبدالعظيم أنيس ومحمود أمين العالم. فى إطار حركة المجتمع المتواصلة نحو التحديث، برزت عدّة تيّارات تقدم نقدًا للثقافة السائدة فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. وتقتضينا الأمانة العلمية أن نقرّ بأن تيّارات نقد الثقافة نقدًا جذريًا لم تكن كلها ثورية/تقدمية وعلمانية. بل كانت تضم تيارات مُحافظة، ومن بينها تيار يمين متطرف (وهو التيار الذى يسميه البعض من باب «الذوق» «تيارًا إسلاميًا»). كان هذا التيار يمثّل فى دائرة الثقافة سعى اليمين المتطرّف لإشعال ما يُسمى بثورة يمينية. فى الثلاثينيات والأربعينيات نفسها، فى أوروبا، كانت الأحزاب الفاشية الأوروبية تدعو لقلب المجتمع قلبًا جذريًا ضد مفاهيم الديمقراطية والليبرالية وكانت تُسمى هذا القلب (أو الانقلاب) «ثورة» وأحيانًا توضّح الفكرة فتستخدم تعبير الثورة القومية الاشتراكية (وهو الاسم الرسمى للنازية). فى العالم العربى، لا سيما فى مصر، كان مثقفو اليمين المتطرّف –مثل سيد قطب- يقدّمون نقدًا جذريًا للمجتمع بوصفه مُنحلّاً أخلاقيًا بسبب التغريب وبوصفه مشوّه الهوية لابتعاده عن أصالته وخصوصيّته الثقافية التى يحصرونها فى فهمهم للإسلام (وهو فهم ينطلق من قصر الإسلام على الفكر الحنبلى الوهّابى). وكان هذا النقد الثقافى جناحًا من أجنحة الدعاية لليمين المتطرف فى المجتمع، يُماثل الخطاب الثقافى للفاشية فى أوروبا ويحمل تأثيرًا قويًا للفاشية «المستوردة» رغم ادّعاء اليمين المتطرّف الدينى أنه يسعى لإعادة الخصوصية الثقافية الإسلامية لموقع الصدارة فى المجتمع، على نحو ما يظهر فى كتاب سيد قطب: معالم فى الطريق. أما أن نكتفى برصد وجود نقد جذرى للثقافة العربية فى الثلاثينيات والأربعينيات لدى التيارات القومية واليسارية واليمينية المتطرفة، فهذا موقف فكرى يوحى بأن هذه التيارات تتساوى فى أخلاقيّتها ومشروعيّتها وتتشابه فى مشروعاتها لمجرّد أن لديها تصورات جذرية عن سُبل تحديث المجتمع، حتى وإن بدا على السطح اتفاقها فى نقد «السطحية» وغياب الخصوصية الثقافية. فالمشروع الذى يمثّله سيد قطب هو مشروع يمينى متطرف - أى فاش - يهدف إلى صب المجتمع فى قالب معين بالعنف وإلى محو كل ما عداه من تيارات، وهذا ما أثبتته ممارسات الإخوان العنيفة عندما أطلقت لهم الدولة العنان فى الأربعينيات ومطلع الخمسينيات وعندما تولوا الحكم فى 2012. بالمنطق نفسه، فتصوّر سيد قطب بوصفه مجرّد مثقّف مُحافظ، مثله مثل على أحمد باكثير أو عبدالحميد جودة السحار (الذى انتهى به الحال فى خانة اليمين الدينى المنخرط فى تنظيمات الدولة الناصرية/الساداتية)، هو تصوّر استشراقى، لأنه يساوى بين كل «الشرقيين» الذين يُسمّون أنفسهم أنصارًا «للإسلام الحق»، دون تمييز بين المثقّف المُحافظ اليمينى والمثقّف الفاشى. مع أن المثقف الغربى فى سياق ثقافته يعى تمامًا الفارق السياسى والأخلاقى بين المُحافظ والفاشى، أى بين اليمين واليمين المتطرّف، ويتقبل الأول بينما يرفض الثانى. هناك وجه آخر لفخّ الاستشراق يقع فيه المستعربون الغربيون والمثقفون العرب الليبراليون على السواء، وهو تمثّل نموذج واحد محدود «للآخر» والتعامل مع هذا الآخر بأريحية وقبول، لنفى تهمة الاستشراق عن المستعرب الغربى أو عن الليبرالى العربى. الفخ هنا هو قصر نموذج «الآخر» الذى ينبغى الاحتفاء به على من يرفع لافتة «الإسلامى»، دون اعتبار لأن التيار الذى يُسمى نفسه «إسلاميًا» لا يمثّل جميع المسلمين، وإنما يُمثّل فقط اليمين المتطرّف الإسلامى. يحتفى كثير من المُستعربين من مسلمى الغرب بسيد قطب باعتباره ممثلًا لثقافة أصيلة مُغايرة للثقافة الغربية ورافضة لهيمنتها، ويُماهون بين خطاب قطب وفكرة الثقافة الإسلامية، لمجرد «سوء التفاهم» الناشئ عن ادّعاء قطب أن ما يكتبه هو صوت الإسلام الأصيل، ودون وعى بأن كتابات قطب هى كتابات فاشية تُشبه كتابات الفاشيين الغربيين (لأن فرضيتهم المضمرة هى أن قطب يمثّل الآخر المغاير جذريًا للغرب، وبالتالى لا يمكن تصوّره كحامل لأيديولوجية غربية المنشأ مثل الفاشية).