تَرك أمل دنقل الحياة دون أن يكتب مذكراته، ليكتبها كل مقرّب منه، يُحكى عنه موقف هنا وآخر هناك، فتظل صورته فى الأذهان حية تتشكل دائمًا من المواقف والحكايات والظروف التى كَتب فيها قصائدة. وتُصبح الكتابة عنه شكلًا من أشكال التأريخ لمنطقة وسط البلد بمقاهيها وباراتها وأحيائها.. لكن الصورة الأبرز التى كانت تسبق أى حديث أو كتابة عن دنقل، هى ذلك الساخر، سليط اللسان، الميّال إلى التقليل من قيمة الأشياء.. حتى صدر مؤخرا كتاب الدكتور فهمى عبدالسلام «مذكرات الغرفة 8» عن دار المحروسة، ليقدّم الوجه الآخر لصاحب «أوراق الغرفة 8» و«لاتصالح»، فى إشارة واضحة إلى غرفة المستشفى التى لفظ فيها دنقل أنفاسه الأخيرة. يذكر فهمى عبد السلام فى مقدمة الكتاب أن رغبته فى الكتابة عن دنقل بلغت ذروتها بعد مشاركته فى ثورة يناير، ورؤيته تفاعل الشباب مع أشعار أمل الثورية، فقرّر منذ ذلك الحين كتابة بعض ذكرياته مع وعن أمل، على شكل حلقات ينشرها عبر حسابه الشخصى على فيسبوك. طبيب الأسنان ذو الميول الأدبية، يكتب النقد ويكتب للدراما، استفاد من رفقته لدنقل مدّة عشر سنوات، وقرّر جمع حكاياتهما فى كتاب، امتثالا لنصيحة هاملت لصديقه هوارشيو، التى يكتبها فى آخر وهو الذى لازم أمل قرابة 10 سنوات، مما شجعه على جمعها فى كتاب امتثالًا لنصيحة هاملت لصديقه هوارشيو، التى يستعين بها فى ختام الكتاب: «إذا كان قلبك قد احتوانى يومًا فلا تمت واروِ عنى». التلميح يغلب التصريح لكن المؤلّف اختار الكتابة عن ذكرياته مع دنقل بأسلوب التلميح لا التصريح. اختار وقائع بعينها للتعليق عليها، وأهمل أخرى، جهّل أسماء بعينها واستخدم أسماء مستعارة.. هدفه الحكاية فى ذاتها دون التشهير بأحد. وكثيرا ما يستشهد بقصائد أمل تعليقًا على بعض الأحداث، وكأنه يُلمّح إلى أسباب كتابة القصيدة. فى الكتاب، تُطالعك حكايات أمل دنقل مع يوسف إدريس ويوسف السباعى، وفيها تلخيص لعلاقة أمل بالسُلطة. يكتب عبد السلام: «إدريس كان يحبّ أمل دنقل ويسعى إليه» ويشير إلى حادثة مقهى ريش عندما أخرج إدريس ولاعته الديبون الذهبية وأشعل سيجارته وسيجارة أمل، فقال له أمل: ولّاعتك جميلة يا د. يوسف. فأهداها له. أما عن قصيدة دنقل العمودية فى رثاء يوسف السباعى، الذى يصفه الكاتب بأنه عصا السلطة الغليظة لحصار المثقفين، فيحكى المؤلف كيف لم ينس أمل للسباعى أنه عيّنه فى منظمة التضامن الأفروآسيوى وكانت هذه الوظيفة «منحة التفرغ» لدنقل، ولهذا كان وفاء دنقل للسباعي. رغم أن السباعى لم يسع أبعد من ذلك إلى إنصاف أمل دنقل، أو رفع حصار النشر عنه. أمّا قصيدة رثاء السباعى، فلم يضمها دنقل أيّا من دواوينه. يكتب مؤلف الكتاب: «حكم عليها بالإعدام وراهن على أن تتلاشى مع الزمن». علاقة شائكة بين أديبين وكانت علاقة أمل دنقل بنجيب محفوظ شائكة.. فقد كتب نجيب محفوظ فى جريدة الأهرام بعد اتفاقية فك الاشتباك: «ليست إسرائيل وحدها التى لديها صقور وحمائم، نحن أيضًا لدينا صقور وحمائم، لكن صقورنا ليسوا فى جبهات القتال.. صقورنا فى المقاهى». لمّا سأل فهمى عبد السلام ذات مرّة أمل دنقل: «من كان يقصد محفوظ؟»، «كان يقصدنى أنا» ردّ عليه أمل. وأكمل بأن السبب فى ذلك أنه قال فى حديث صحفى «أنا لا يشرّفنى أن أصافح نجيب محفوظ!».. وسرعان ما يسأل عبدالسلام عن هذا الموقف العجيب، فيجيب أمل «هذا الرجل، نجيب محفوظ، له شهرة دولية تحميه من السلطة، لماذا إذن يُهادن ويُصرّح بأنه مع فك الاشتباك بين القوات المصرية والإسرائيلية!». يذكر الكاتب تلك الليلة من شتاء 79 التى أخبره فيها أمل دنقل بأنه مُصاب بمرض السرطان فى خصيته.. تنهّد أمل دنقل فى مرارة وردد «هى مصيبة ونزلت عليا». وينتقل عبدالسلام ليروى ما قاله «مصطفى الدالى» أحد الأسماء المستعارة موجهًا حديثه لأمل: لماذا لا تموت؟ جاءك السرطان وما زلت حيًا؟ لكن أمل لم يحتدّ عليه مبررًا ذلك بأنه «يستطيع أن يُجالس من يكنّون له الكراهية». القاهرة تجبر دنقل على تعلم الحذر أَجبرت طبيعة القاهرة القاسية أمل على تعلّم الحذر. لا يفرّط فى حقه حتى لو كان بضع قطرات من خمر. كان دائم الشك فى البارمانات، يطلب دوبلًا من البراندى 84 فى «ريش»، ويؤكد على طلبه «دوبلًا بلا نقصان». وإذا شك فى نقص كأسه طلب «الطوط» وهو المعيار القانونى لكمية كأس واحدة فى عُرف البارات.. ويصرّ أمل أن يضع بضع قطرات إضافية يسمونها «دموع الطوط» وتدور المساومات من أجل بضع قطرات من الشراب. استخدم أمل السخرية فى الدفاع عن نفسه. ومن ضحاياه فى السخرية، كاتب صحفى شهير آنذاك ومن المقرّبين للسادات. فعندما مات يحيى الطاهر عبدالله، اجتمع أصدقاؤه لنشر نعى له فى إحدى الجرائد اليومية، فخرج ذلك الصحفى فى عموده اليومى بجريدة الجمهورية يُطالب وزير الداخلية بالقبض على كل من وردت أسماؤهم فى النعى المنشور باعتبارهم «خلية شيوعية». فقرّر أمل دنقل أن يلعب لعبته، ويطلق لحيله الماكرة العنان. اتّصل أمل بذلك الصحفى متقمّصا «شخصية مسئول ليبى بارز» مُكلّف بطلب الصحفى المصرى لكتابة كتاب عن ثورة الفاتح العظيم ودور القذافى فى القضاء على الرجعية العربية. وحبك الدور بتقليد اللكنة الليبية فى الحديث. وصدّق الصحفى «المقلب»، ولم يساوره أى شك بشأنه. دنقل كان بطلا وضحية لحكايات النميمة وكان أمل دنقل بطلا وضحيّة لكثير من حكايات النميمة مع روّاد مقهى ريش، أو «صقور ريش» على حد تعبير الكاتب. من بينها ما ورد إلى دنقل عن حديث نجيب سرور بسوء عن خطيبته «عبلة الروينى». فما كان من دنقل أوّل ما قابل سرور على باب المقهى أن بادره بتعنيف شديد، فرد سرور بأن طرح أمل أرضا. يورد المؤلف هذه الحكاية دليلا على غيرة سرور من دنقل. على ذات المقهى، بطل حكايات أمل دنقل، استقبل خبر مقتل السادات. ولم يكن يقوى على إخفاء سعادته الكامنة، لكن ما إن وقف أحدهم صائحا وراقصا، زجره أمل فى حدّة وحسم، وانقضّ عليه لومًا وتقريعًا. أجاد أمل التعامل مع المواقف المفاجئة، بخفّة حيله.. يتذكّر المؤلف ذلك وهو يسرد واقعة فى إحدى ليالى فبراير، أثناء سيرهما، هو وأمل دنقل فى الحميدية، واشترى صحيفة الجمهورية، وهمّ بحلّ الكلمات المتقاطعة، ولمّا لم يجد قلما أشعل عود ثقاب ليستخدم الجزء المتفحم منه بديلًا عن القلم. هكذا يمضى الكتاب، بين تفاصيل دقيقة، بعضها هامشى، وأخرى نتعرّف عليها للمرّة الأولى.. يقول المؤلف «إن أمل دنقل امتلك صلابة مدهشة أمام الموت. كما كانت له رؤيته الخاصة عن الحياة والموت والأديان. ففى أحد الأيام فى الغرفة 8، كان فهمى عبدالسلام وصديقه محسن أنور فى زيارة لأمل دنقل فى المستشفى، فأشفق محسن على أمل لحالته السيئة وطلب منه أن يصلي، ففاجأه أمل: «لو صلّيت الآن ألن يكون تدينًا انتهازيًا؟».