من لم يعرف «ريش» فاته الكثير .. أقول لنفسى وأنا أستعيد ذكريات «ريش» المقهى.. الجامعة، والمركز الثقافى الثورى.. فحكاية مقهى ريش حكاية طويلة وفريدة، وحكايتى معه بدأت فى 1964.. عرفت طريقى إليه، لما عرفت أن نجيب محفوظ يعقد ندوته الأسبوعية هناك.. وكنت طالبا جديدا فى كلية الفنون الجميلة فى الزمالك ومحررا تحت التمرين فى مجلة «صباح الخير».. وكنت من محبى الأدب والفن. وزاملت جيل الستينيات وقدمت بعض وجوهه، فى أحاديث وتحقيقات صحفية ومتابعات، وجمعتنى صداقة قوية بكثير من هذه الوجوه، يحيى الطاهر عبدالله والدسوقى فهمى وجمال الغيطانى ومجيد طوبيا وجميل عطية إبراهيم، وإبراهيم أصلان ومحمد إبراهيم مبروك، وكلهم كانوا من رواد ندوة نجيب محفوظ، ومريديه وتلاميذه، لكنهم كانوا يهتفون فى الصحف بلا تردد أنهم «جيل بلا أساتذة»! وكنا كصحفيين شبان مثلهم، ننشر هتافهم هذا، ونحن نعرف أنهم يحاولون تجاوز منجز نجيب محفوظ فى الرواية ويوسف إدريس فى القصة القصيرة، على أمل أن يتجاوزوا «الأساتذة» والحقيقة أنهم حاولوا.. لكن من يمكن أن ينسى ما قدمه للأدب العربى محفوظ أو إدريس؟! ومن يمكن أن يذكر ما يوازى هذين العملاقين أو يفوقه، من أعمال جيل الستينيات؟! • «جيل ريش»! وأسميهم «جيل ريش» لأن المقهى الشهير لم يكن مجرد مكان فى وسط البلد يلتقى فيه المثقفون والأدباء والشعراء والنقاد والصحفيون والرسامون وحتى الممثلون الجدد وقتها، محمد صبحى وأحمد زكى ومحيى إسماعيل. كان مقهى ريش مركزا للثقافة والإبداع والحوار وورشة لتعلم الفنون والآداب وملتقى للحوار والجدل السياسى والفكرى والفنى والشخصى.. والصراخ وأحيانا الخناقات والتقاتل والصراعات، خاصة بين الشعراء. كان هذا المقهى ولايزال تاريخا ممتدا منذ مطلع القرن العشرين وحتى الآن، فهنا كانت المطبعة السرية لمنشورات ثورة 1919 وهنا كان زعماء الثورة يلتقون فى سرية تامة. وهنا كان الضباط الذين دبروا وقادوا ثورة 1952 يلتقون ويتناقشون ويخططون مع جمال عبدالناصر. وهنا انطلقت مظاهرة بقيادة يوسف إدريس ضد اتفاقية كامب ديفيد التى وقعها السادات وقرر السادات إغلاق «ريش» التى كان فى شبابه يحضر فيه اجتماعات سرية للضباط الأحرار بقيادة جمال عبدالناصر.. وحدث بعد ذلك أن قرر السادات سحب الجنسية المصرية من يوسف إدريس! هنا جلست ذات ليلة فى ضيافة يوسف إدريس وسمحت لنفسى وقتها أن أسأله سؤالا جريئا: ما هى المناطق التي، على الرغم من شجاعتك وجسارتك فى الاقتحام فى القصة والرواية، خفت من ولوجها والخوض فيها؟! ولأن حديثنا ليس للنشر وصداقتنا صداقة جيلين مختلفين يحتاج كل منهما للآخر، كشف لى الأديب والمسرحى والكاتب الصحفى الفذ الذى لايتكرر، سرا أذيعه الآن وبعد أكثر من ربع قرن، هو أنه خاف من تناول مسائل زنى المحارم، رغم أنه عايش قصصا تستحق أن تكتب، وأيضا خاف التعرض لفساد رجال الدين، فى الأزهر وخارجه! «لم أجد لدى الشجاعة الكافية».. قالها بشجاعة يحسد عليها وهو الكاتب الكبير الشهير. هنا تعرفت على نجيب محفوظ عميد الرواية العربية، ويوسف إدريس عميد القصة القصيرة العربية، ومن رواد ثورة الشعر الحر، عرفت صلاح عبدالصبور وعبدالوهاب البياتى. وجمعتنى صداقة بالشعراء نجيب سرور وأمل دنقل.. والنقاد فاروق عبدالقادر وعبدالرحمن أبو عوف.. هنا كانت تتجمع هيئة تحرير مجلة جديدة وعجيبة تعبر عن هذا الجيل.. جيل ما بعد هزيمة 1967.. إبراهيم منصور وصنع الله إبراهيم وجميل عطية إبراهيم ومعهم أحمد مرسى وإدوارد الخراط وأطلقوا عليها «جاليرى 68».. هنا كان يأتى يحيى الطاهر عبدالله شاعر القصة القصيرة الذى لايتكرر.. يوما بعد يوم، ليقرأ لنا قصة جديدة كتبها.. لايقرأ من ورقة، لكن (من دماغه)!.. فقد كان يحفظ قصصه عن ظهر قلب ويرويها كما يروى «الأدباتي» المواويل، لكن من غير ربابة!.. وكانت تجمعنا هنا جلسات مع أصدقاء مثل فرج فودة، الذى أصبح فيما بعد ذلك بسنوات، المفكر الليبرالى الذى قتله التكفيريون لخلاف فى الرأى. كما حاولوا قتل نجيب محفوظ. ولاننسى أن «ريش» كان موضوع ومكان أحداث رواية نجيب محفوظ «الكرنك» التى أصبحت فيلما شهيرا أخرجه على بدرخان وقامت ببطولته زوجته، وقتها، جميلة الجميلات سعاد حسنى.. وقدمت خلاله أهم دور لعبته فى حياتها على الشاشة، من وجهة نظرها، كما أفصحت لى.. وعلى ذكر السينما، هنا كان لقائى بحشد من «جيل ريش» المجدد للسينما، الناقد سامى السلامونى.. والمخرجون محمد راضى ومدكور ثابت وداود عبدالسيد وخيرى بشارة.. وبداياتهم الأولى. • بروتوكولات حكماء ريش هنا كان نجيب سرور يكتب قصائده الممنوعة ويهتف بها وسطنا. وكان يعانى من الأدعياء وعملاء الأمن الذين تسببوا فى مطاردته ونفيه لفترة، خارج الوطن.. ومن هذه المعاناة جاء ديوانه «بروتوكولات حكماء ريش» الساخر من الأدعياء وفيه يقول: نحن الحكماء المجتمعين بمقهى ريش.. من شعراء وقصاصين ورسامين.. ومن النقاد «سحالى الجبانات».. حملة مفاتيح الجنة.. وهواة البحث عن الشهرة.. وبأى ثمن.. والخبراء فى كل صنوف «الأزمات».. مع تسكين الزاى.. كالميكانيزم! نحن الحكماء المجتمعين بمقهى ريش.. قررنا ماهو آت: * البروتوكول الأول: لا تقرأ شيئًا.. كن حمّال حطب.. وأحمل طن كتب.. ضعه بجانب قنينة بيره.. أو فوق المقعد.. واشرب.. وانتظر الفرسان.. سوف يجىء الواحد منهم تلو الآخر.. يحمل طن كتب! .. وكان نجيب سرور يروى لى عن خيانة أقرب الناس له ببلاغات أمنية ضده، وصلت فيما بعد حد إدخاله مستشفى المجانين! ذات عصارى كان هنا أيضا الشاعر صلاح عبدالصبور، يجلس وحيدا حزينا.. لايرغب فى أن يجالسه أحد، منفردا بنفسه بعد أزمة اتهامه وهو رئيس هيئة الكتاب، بالتطبيع وتسهيل اشتراك إسرائيل فى معرض الكتاب.. استقال وطلب العمل فى بلاد بعيدة «منفى اختياري» فى الهند. ولما عاد، مات صلاح عبد الصبور، فى جلسة فى بيت أحد المثقفين وسط من اتهموه وخونوه. هنا كان يجلس أحمد فؤاد نجم وهو صاحب أشهر قصيدة عن «ريش»: «يعيش المثقّف على مقهى ريش .. يعيش يعيش يعيش.. محفلط مظفلط كتير الكلام.. عديم الممارسة عدو الزّحام. يعيش المثقّف .. يعيش يعيش يعيش». وهنا كان آخر لقاء لى مع (نجيب محفوظ الدراما التليفزيونية) أسامة أنور عكاشة.. ومعروف أنه استمد ملامح بعض شخصيات مسلسلاته التليفزيونية الشهيرة «ليالى الحلمية» وغيرها.. من شخصيات حقيقية من رواد وزبائن مقهى «ريش». • ريش مركز الثورات «ريش» عرفه رجال ثورة 1919 كما عرفه زعيم ثورة 1952 جمال عبدالناصر.. كما عرفه شباب مظاهرات 1968 ضد الهزيمة وفساد جهاز المخابرات وعرفه شباب ثورة السبعينيات ضد أنور السادات، المطالبين باسترداد أرض سيناءالمحتلة.. وعرفه شباب ثورة يناير ضد عفن وفساد وعمالة نظام حسنى مبارك، وثورة 30 يونيو ضد غباء وتكويش الإخوان. عرفته أم كلثوم وكانت تغنى فيه فى بداياتها الأولى، كما عرفته روزاليوسف وكانت تقدم عروضا مسرحية وتعرفت على المنولوجست محمد عبدالقدوس وتزوجا بعد تعارفهما على مقهى ومسرح «ريش»! وكان «ريش» مقرا لندوات للعقاد وبعدها ندوات توفيق الحكيم وكان من رواد المقهى زكى نجيب محمود وكامل الشناوى ومأمون الشناوى وعبدالرحمن الخميسى وعبدالرحمن الشرقاوى وكامل زهيرى وفتحى غانم وعباس الأسوانى وصلاح جاهين وجورج البهجورى ومحمد الفيتورى وأحمد عبدالمعطى حجازى. والآن وبعد رحيل مالكه الذى أعاد افتتاحه وأعاد له الحياة واكتشف تاريخه الثورى مجدى عبدالملاك، يجب أن تتولى الدولة ممثلة فى وزارات الثقافة والآثار ومحافظة القاهرة، حماية هذا التاريخ والحفاظ على «ريش» من الوقوع فى براثن أعداء التاريخ.. ومن لايطالب بالحفاظ على «ريش» فهو عدو للثقافة والوطنية والثورة والفن والسياحة والتاريخ المصرى الحديث. • كان هذا المقهى ولايزال تاريخا ممتدا منذ مطلع القرن العشرين وحتى الآن، فهنا كانت المطبعة السرية لمنشورات ثورة 1919 وهنا كان زعماء الثورة يلتقون فى سرية تامة. وهنا كان الضباط الذين دبروا وقادوا ثورة 1952 يلتقون ويتناقشون ويخططون مع جمال عبدالناصر.