على طاولته أُنشأت أول نقابة للموسيقيين مقهى لا يقدم "الشيشة" أو "الكوتشينة" أو "الطاولة" صاحب المقهى: الهدوء يميزنا شخصيات "ليالي الحلمية" مستوحاة من المقهى قُبض على مصطفى أمين منه..وجلس عليه "صدام حسين" انطلقت منه مظاهرة يوسف إدريس مقهى للحب أيضاً..دنقل والرويني..نجم وصافيناز..روزاليوسف ومحمد عبدالقدوس رحل عن عالمنا صباح اليوم السبت، مجدي عبد الملاك صاحب المقهي المشهور "ريش" الكائن بشارع طلعت حرب في وسط البلد، والمشهور ب "مجدي ريش" بعد معاناة كبيرة مع المرض، حيث نقل مؤخرا إلى المستشفي وتم حجزه فيه لمدة 10 أيام، ليتوفى صباح اليوم بغرفة العناية المركزة. نعاه الشاعر والناقد شعبان يوسف على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" قائلاً: "البقاء لله..مات مجدى عبد الملاك صاحب أعرق مقهى ثقافى فى العالم العربى، مات صاحب مقهى ريش الذى ضم إليه نجيب محفوظ، وابراهيم أصلان، وجميل عطية ابراهيم، وأمل دنقل، ونجيب سرور، ويحيي الطاهر عبدالله، وابراهيم منصور، وعبدالوهاب البياتى، ويوسف أبورية، وشوقى فهيم وغيرهم، مات من كان يستقبل الناس بترحاب ومودة كأنهم أهله ورفاقه!". يذكر أن مقهي ريش اشتهر بأنه مقهى المثقفين، حيث كان يفضله أشهر مثقفي مصر مثل نجيب محفوظ، وقد عاشر صاحب المقهي طيلة حياته باقة كبيرة من كبار الشعراء والأدباء المصريين. يقع المقهى بالقرب من ميدان طلعت حرب أسفل إحدى العمائر الأوروبية الطراز التي شُيدت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر منذ ما يتجاوز القرن، وعندما تزور مقهى "ريش" ستكتشف أنك أمام تحفة معمارية، وستبهرك الديكورات واللوحات التي تملأ المكان، وستقف طويلاً أمام اللافتة التي تعلو الباب الرئيسي، والتي تشير إلى أنه تأسس عام 1908م. وقبل انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918 قام "ميشيل بوليدس" بشراء المقهى من صاحبه الفرنسي، وكان ميشيل من أشهر التجار اليونانيين بالقاهرة، وكان يهوي الأدب والفن؛ لذلك أجرى توسعات جديدة داخل المقهى، وقام بشراء قطعة أرض أمامه، وأنشأ عليه مسرحًا "تياترو"، وأحاطه بحديقة أنشأ بها كشكًا للموسيقى تُعزف فيه الموسيقات العالمية والعسكرية في أوقات محددة. ومنذ ذلك الوقت أصبح لمقهى ريش بُعد ثقافي، وتحول من مجرد مقهى إلى مكان يتجمع فيه أبناء الطبقة الأرستقراطية والفنانون والمثقفون والأجانب. وفي الأربعينيات من القرن العشرين احتشد كل من يعمل في الموسيقى والغناء في المقهى لإيجاد حل لمشاكلهم المهنية، وكان على رأسهم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وكانت نتيجة هذا التجمع أن تم الاتفاق على إنشاء أول نقابة للموسيقيين بمصر بل وفي العالم العربي. يزين حوائط المقهى كثير من الصور الفوتوغرافية لرواد الأدب والفن بمصر؛ فهذه صور للعقاد وطه حسين ويحيى حقي ويحيى الطاهر عبد الله ونجيب سرور وصلاح جاهين، وصور أخرى لمحمد عبد الوهاب وسيد درويش وأم كلثوم ومحمد الكحلاوي وغيرهم، بالإضافة إلى صور تاريخية لأشهر المباني والعمائر بمنطقة وسط القاهرة أو قاهرة إسماعيل باشا. في حوار صحفي ، يتحدث الراحل مجدي عبد الملاك ميخائيل -مدير مقهى ريش، وأول مالك مصري للمقهى عن تقاليد المكان فيقول: إن لمقهى ريش أسلوبه الخاص، فنحن لا نقدم الشيشة "النارجيلة" للزبائن، ولا نسمح بالألعاب التي تقدم في بقية المقاهي؛ كالكوتشينة "ألعاب الورق" والطاولة، وهذا يرجع إلى طبيعة الزبائن؛ فهم عادة من المفكرين وأبناء الجالية الأجنبية بمصر، وخاصة المراسلين الأجانب والسائحين. يواصل: مقهى ريش هو الوحيد بمصر الذي يمكنك أن تَصفِيه بالمقهى الثقافي، ولا يوجد مثيل له في مصر بنفس الطابع؛ وذلك لأن رواده من المثقفين الذين يمضون أوقاتا طويلة داخله، سواء في القراءة أو إقامة الندوات والصالونات الثقافية، فنحن نقدم لهم إلى جانب المشروبات بعض الأطعمة الخفيفة وأطباق الحلوى، بالإضافة إلى "الخمور" التي عادة ما يُقبل عليها الزبائن من الأوروبيين!، كما نوفر لهم شيئًا مهمًا قلما يجدونه في أي مقهى آخر؛ ألا وهو الهدوء. وعن ذكرياته مع المثقفين المصريين يقول مجدي: كان المثقفون المصريون في كل يوم جمعة يتجمعون من الساعة السادسة مساءً إلى الثامنة والنصف، الجميع يتحلق حول ندوة نجيب محفوظ التي استمر في القائها إلى منتصف الستينيات، استطاع المقهى على مدار تاريخه ومعاصرته للعديد من الأحداث أن يلعب دورًا هامًا وبأشكال عدة، وأن يكون القاعدة التي تنطلق منها الحركات الوطنية. ففي عام 1919م كان المقهى مكانًا تكتب فيه المنشورات والمطبوعات أثناء الثورة، هذا ما تؤكده "المطبعة" التي تم العثور عليها منذ سنوات داخل بادروم المقهى. وعلى نفس المقهى جلس الزعيم جمال عبد الناصر يحتسي القهوة، ويعد لدوره في ثورة يوليو، كما كانت جزءًا من حياة شاب عراقي جاء يدرس بالقاهرة وهو الرئيس "صدام حسين"، وكان يرأس المكان الذي يتجمع فيه اللاجئون السياسيون مثل الشاعر العراقي "عبد الوهاب البياتي" و"قحطان الشعبي" و"عبد الفتاح إسماعيل" رئيس جمهورية اليمن الشعبية السابق. وفي عام 1973 تجمع المثقفون به وأصدروا بياناً وأرسلوه إلى توفيق الحكيم لنشره بجريدة الأهرام، يعربون فيه عن عدم رضاهم عن حالة اللاسلم واللاحرب، وقبض منه على مصطفى أمين، كما كان قبلة كل من صلاح جاهين والأبنودى وأمل دنقل وعبد الوهاب المسيرى، وفيه غنت أم كلثوم وسيد درويش وصالح عبد الغنى، ولا يزال يستقبل الكثير من الكتاب والمثقفين كالكاتب علاء الأسوانى والمخرج محمد خان وداوود عبد السيد والكاتبة نوال السعداوى وغيرهم من قادة الحركة الفكرية والثقافية. مثلما كان "ريش" مقرا للثوار قديما وخرجت منه مظاهرات وكتبت فيه بيانات ومنشوارات، لعب حديثا دورا مماثلا فى ثورة يناير وما تلاها من موجات ثورية حيث شكل ملاذا للثوار ومقرا لاجتماعاتهم. وقد بلغ الحب والتقدير للمقهى أن صدرت العديد من الدواوين والكتب التي تحكي قصة المقهى ودوره السياسي والثقافي، فهذا نجيب سرور يصدر ديوانًا بعنوان "بروتوكولات ريش"، بينما يؤلف الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم قصيدته الشهيرة عن المقهى، تلك القصيدة التي طالما تغني بها الشيخ إمام عيسى في فترة السبعينيات. وكان مقهى ريش ملتقى للكثير من قصص الحب التي انتهت بالزواج، فقد تم زواج روزاليوسف من الفنان محمد عبد القدوس بعد مشاركتهما في أحد الأعمال المسرحية على مسرح ريش 1918م، أما عبلة الرويني، تلك الصحفية التي كانت تبحث عن الشاعر أمل دنقل لتجري معه بعض الحوارات، فقد قابلته على مقهى ريش، ثم كان الحب والزواج، كما أن الشاعر أحمد فؤاد نجم فقابل هو الآخر الكاتبة صافيناز كاظم على المقهى، وكان الحب الذي انتهى بالزواج. كان لزلزال 1992 أثره الواضح على عمارة المقهى؛ فقد تم إغلاقه منذ ذلك الوقت إلى أن تم افتتاحه عام 2000م، بعدما أجريت له أعمال ترميمات واسعة تكلفت نحو مليوني جنيه، أشرف عليها مصطفى عبد القادر أحد أشهر المرممين، الذي أُسند إليه ترميم أبو الهول مؤخرًا. وعن ريش يقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي: المقهى كان مكانا سريا يجتمع فيه دعاة الثورة، ويؤكد ذلك انه في عام 1992 ضرب زلزال القاهرة أصاب المقهي بشروخ، وعندما بدأت عملية الترميم اكتشف دهليز صغير يؤدي إلي مخزن قديم وجدت به براميل كحول فارغة وماكينة طباعة يدوية تدل على أن المنشورات كانت تطبع في المقهى، ومنها أيضا قرر الجهاز السري للثورة أن يغتال أحد أعدائها في 15 ديسمبر 1919 وهو صاحب الدولة يوسف وهبه باشا، كما خرجت من ريش مظاهرة بقيادة يوسف إدريس، وإبراهيم منصور احتجاجا علي معاهدة كامب ديفيد الذي وقعها أنور السادات مع إسرائيل. ويؤكد عم "محمد حسين صادق" الذي يعمل في المقهي منذ عام 1942م، في أحد الحوارات الصحفية، أن شخصيات مسلسل "ليالي الحلمية" من زبائن حقيقة لريش فشخصية "سليم البدري" الذي جسدها "يحيي الفخراني" مقتبس من شخصية حقيقية هي "محمد عفيفي باشا"، كما أن رواية "الكرنك" التي كتبها نجيب محفوظ كانت عن ما تعرض له المثقفون وطلبة الجامعة من اعتقالات في قهوة ريش. وعن مقهى ريش، كتب الفاجومي أحمد فؤاد نجم قصيدة ساخرة بعنوان "التّحالف"يقول فيها: يعيش المثقّف على مقهى ريش .. يعيش يعيش يعيش.. محفلط مظفلط كتير الكلام .. عديم الممارسة عدو الزّحام.. وكام اصطلاح .. يفبرك حلول المشاكل قوام.. يعيش المثقّف .. يعيش يعيش يعيش. يذكر أن مقهى ريش أيضًا شهد ميلاد مجلة "الكاتب" والتي ترأسها د. طه حسين، وفي شهادة للشاعر السوداني الراحل محمد الفيتوري يقول: إن ريش كان يمثل عاصمة ثقافية التقيت فيه عند قدومي للقاهرة بكامل الشناوي، وعبد الرحمن الخميسي، ونجيب محفوظ ولطفي الخولي، وكان ريش يمثل إطارًا يجمع كل التيارات دون تمييز، ولهذا اتفق الجميع على عشقهم لأجواء المكان.