يخلط بعض الناس عمدا أو دون قصد بين «الإيمان» وهو حالة وجدانية و«التدين» كممارسة شكلية ظاهرية، ترك كثير من المسلمين الجوهر وركزوا على المظهر فتحول تدينهم هوسا، وصار اتباعهم شططا، وانهارت أخلاقهم، فظهر «المتدين الفاسد» و«رجل الدين العنتيل» وأصبحت الرشوة «رحلة حج»، ومع تزايد الإقبال على سوق الفتوى حصل رجال الدين على قداسة ليست من حقهم، وبفتاواهم غدت حياة الناس جحيما. بات المصريون مولعين بطلب الفتوى، يسألون عن كل كبيرة وصغيرة فى العبادات والمعاملات وحتى فى أدق الأسرار الشخصية، أدخلوا رجال الدين غرف نومهم، أسقطوا عن أنفسهم كل ما يوارى سوآتهم، كشفوا أمامهم جميع عوراتهم، فتحوا لهم خزائن أسرارهم، حتى إن أحدهم ألف كتابا عنوانه «500 فتوى شرعية فى العلاقات الزوجية» 500 سؤال وجهها المصريون لرجال الدين تدور كلها فى تفاصيل ما يحدث فى علاقة السرير، وصف تفصيلى حى لكل حركة وسكنة بين الرجل وزوجته أطلع عليه رجال الدين، رغم أن الإجابة عن كل الأسئلة كانت واحدة «يحق للزوجين التمتع ببعضهما البعض بكل الطرق والوسائل عدا أمرين: الوطء فى الدبر والوطء وقت الحيض والنفاس». حصر وتصنيف الفتاوى لدى دار الإفتاء المصرية إدارة تقوم على حصر وتصنيف الفتاوى، حسب المنطقة الجغرافية والسن وغيرها، بين يدى هذه الإدارة أسرار المجتمع المصرى كافة، الأسئلة المتعلقة بزنى المحارم تكثر فى مناطق العشوائيات ك«الدويقة» و«منشية ناصر» وغيرهما، الإقبال على الفتاوى المتصلة بشئون الأقباط مرتفع فى محافظات الصعيد وبصفة خاصة فى المنيا وأسيوط، رفض القائمون عليها إطلاعنا على تفاصيل هذه الإحصائيات عندما طلبناها منهم، قالوا إنها غير متاحة للنشر، وأنهم يكتفون بإرسال الملاحظات والتوجيهات لأجهزة الدولة ومؤسساتها بما تبوح به هذه الإحصائيات. يحتاج القائمون على التصدى للفتوى لإعداد نفسى خاص، يضبط إيقاعهم عند التعامل مع الناس، تمنحهم المؤسسة قدرا من التدريب يؤهلهم للقيام بالمهمة، لكن الأهم من وجهة نظرنا أن يتم تأهيلهم مجتمعيا وثقافيا حتى لا يفسدوا وحدة المجتمع أو يحدثوا شرخا فى نسيجه الوطنى. ألغام تهدد الوحدة الوطنية لاحظ القائمون على دار الإفتاء تزايد الأسئلة المتعلقة بقضايا المعاملات مع المسيحيين، فأدركوا حجم المشكلة، قرروا إصدار كتيب يضم إجابات عن أكثر الأسئلة تكرارا، قد لا يكون مهما هنا التركيز على إجابات الدار بقدر أهمية التدقيق فى نوعية الأسئلة المطروحة، فهى تعكس أن خللا ما قد عكر صفو العلاقة بين المصريين، ونتج عنه الكثير من الحوادث الطائفية. ما ذكره الكتاب الذى يحمل توقيع فضيلة المفتى الدكتور شوقى علام خطير، وما سكت عنه أخطر، فهو ينقسم إلى خمسة عشر فصلا للرد على أسئلة المواطنين التى أرسلوها سواء عبر البريد العادى أو من خلال موقع الدار على الإنترنت أو على صفحتها الرسمية على موقع التواصل «فيس بوك». فى فصله الأول يرد المفتى على سؤال يقول «يزعم كثير من الناس أن الدعوة للتعايش هى دعوة لتذويب الأمة للقضاء على هويتها، فما مفهوم التعايش وهل يتوافق مع أحكام الإسلام؟ وما موقف المسلم المعاصر من التعامل مع غير المسلمين، ويمضى فى سرد الأدلة الشرعية والتاريخية على حتمية التعايش السلمى والمشاركة فى المطعم والمشرب مع غير المسلم فى المجتمع». ضرب العلاقة بين المسلمين والأقباط إجمالا دون تفصيل يجيب هذا الفصل عن مجموعة من الأسئلة ينبغى الوقوف عندها كثيرا، فهى تتعلق بصميم العلاقة فى المجتمع ويعتبر مجرد التفكير فيها دليلا على أن سموم التنظيمات الدينية قد تسربت إلى عقول شرائح واسعة من المواطنين، أول هذه التساؤلات يتعلق بإباحة تناول أكل المسيحيين ومجالستهم والتزاور معهم، وثانيها يتعلق بجواز الزواج من مسيحية على أن تبقى على دينها، وثالثها يتصل بالمشاركة فى تشييع جنازة غير المسلم. تبادل الهدايا من الصديق المسيحى كان موضوعا لسؤال، فيما كان إبرام عقود الإيجار والشراكة والبيع والشراء موضوعا لسؤال آخر، بينما سأل ثالث عن جواز إخراج الصدقة والزكاة للفقراء من الجيران إذا كانوا من غير المسلمين، وراح آخر يستعلم عن مدى شرعية دخول أى من غير المسلمين للمسجد لأى سبب خلاف الصلاة. الاعتداء على الكنائس واستهدافها بالهدم والتفجير، وحكم ذلك فى الإسلام هو موضوع الفصل الثانى من الكتاب وفيه يقول السائل إذا كان البعض يدعى أنه لا يوجد عهد ذمة بين المسيحيين والمسلمين، فما حكم هدم هذه الكنائس أو الاعتداء عليها؟، وترد دار الإفتاء بعدم جواز ذلك مطلقا، مستندة إلى الوقائع التاريخية المختلفة سواء فى عهد عمر بن الخطاب أو غيره من الخلفاء الراشدين. التنظيمات الدينية تعكر صفو المجتمع اتصالا بالفصل السابق يأتى موضوع الفصل الثالث وهو حكم بناء الكنائس فى مصر، وهو سؤال تبرره عشرات الفتاوى الصادرة عن قيادات ورموز التنظيمات الدينية كالإخوان وغيرها والتى تمنع بناء كنائس جديدة فى أرض المسلمين، علاوة على عدم جواز ترميم القائم منها، وترد الدار على ذلك مستندة إلى فتوى سابقة أصدرها الدكتور نصر فريد واصل مفتى الديار الأسبق وأجاز فيها بناء الكنائس، ويمضى الكتاب فى استعراض وتفنيد أسباب الفتاوى والآراء الفقهية الواردة فى بعض كتب التراث والتى تحرم بناء الكنائس وبيان سبب كل رأى منها على حدة. قرأت فى بعض المصادر الإسلامية أن الجهاد فرض واجب إلى يوم القيامة، كما أنه لا إكراه فى الدين، فما معنى الجهاد؟، وهل يجب على المسلمين شن الحرب ضد غير المسلمين فى أى مكان وذبحهم؟.. ورد هذا السؤال فى مطلع الفصل الرابع من الكتاب وهو يعكس قدرا كبيرا من الضبابية فى رؤية السائل وعدم امتلاك أدنى قدر من المعرفة، وعلى قدر السذاجة سؤال جاءت الإجابة بسيطة، ومفادها أن الأصل فى علاقة المسلم بغير المسلم هو السلم لا الحرب، كما تضمنت الأدلة الشرعية والنصوص الدينية المؤكدة على ذلك. صورة مشوشة عن الأنا والآخر أحد أوجه الخطورة على الوحدة الوطنية يتمثل فى سؤال ورد فى الفصل الخامس وتقول صاحبته «سألتنى زميلتى المسيحية كيف تقولون أن الإسلام أفضل دين بينما عانى المسيحيون تحت حكم الإسلام قديما وتعرضوا للمذابح والنهب والقتل، وفرضت عليهم الجزية؟، وخطورة السؤال لا تكمن فى مجرد طرحه ولكن فى كونه مبنيا على صورة مشوشة عن حقيقة ما جرى، علاوة على الطريقة التى يتم طرح السؤال بها ليتحول النقاش إلى سجال بين طرفين لا يعرف أحدهما عن نفسه أو الآخر شيئا. هل تتعارض الوحدة الوطنية مع الشريعة الإسلامية، وما حكم الصدام مع المجتمع؟ هكذا كان السؤال الذى راح فضيلة المفتى فى معرض الإجابة عنه يوضح أن الصدام سببه انحراف فكرى لدى الفرد يمنعه من الاندماج والتعاون والبحث عن النقاط المشتركة بدلا من التنقيب عن أوجه الخلاف. لنا زملاء أقباط فى العمل، فهل يجوز أن أعود مريضهم، أو أن أهنئهم بأعيادهم، وهل يجوز أن أتخذهم أصدقاء من دون المسلمين؟.. سؤال لا يقل فى خطورته عن سؤال آخر يقول صاحبه: أنا سليل أسرة مسيحية وأسلمت وقد أصبح عيد الميلاد مناسبة اجتماعية علاوة على كونه مناسبة دينية، إذ تلتقى فيه الأسرة وتتبادل الهدايا ولا أعرف موقف الدين من هذا الأمر، حتى إننى بت أخاف مجرد رفع السماعة للاتصال بأسرتى والتهنئة بالعيد. سؤال آخر هو موضوع الفصل الأخير من الكتاب ويدور حول مدى إمكانية ظهور المرأة المحجبة بدون حجابها أمام صديقتها غير المسلمة، وردا على الأخير قالت الدار أنه يجوز للمرأة المسلمة أن تتعامل مع صديقتها المسيحية فى هذا الشأن كما تتعامل مع صديقتها المسلمة تماما. مطلوب تحرك فورى من الدولة ما تضمنه الكتاب على خطورته لم يكن إلا رصدا لأكثر الأسئلة الواردة إلى دار الإفتاء تكرارا، وهو أمر لا يمكن رؤيته بمعزل عن فتاوى التكفير التى تظهر فى الفضائيات بشكل متكرر، وآخرها على لسان عبدالله رشدى، ومن قبله الدكتور سالم عبدالجليل وغيرهما. إذا كنا نتحدث عن تطلعنا ل«دولة مدنية حديثة» فإن المؤشرات السابقة تدلنا على أن الواقع يسير فى اتجاه معاكس وأن التنظيمات المتطرفة نجحت فى أن تجرنا خطوات للخلف، فمتى تتدخل المؤسسات الدينية والسياسية فى هذا الملف ولا تتركه عرضة لعبث التنظيمات الدينية وعشاق الأضواء قبل أن يتراجع سقف طموحنا لمجرد الحديث عن «دولة»؟