إذا كان البقاء للأقوى، فالخلود للأصدق. خاصة عندما يتعلق الأمر بالفن، فأى فنان صادق فى المنتج الذى يقدمه للناس، يجعل هذا المنتج باقيا للأبد، يتجدد الإعجاب به عقدا وراء عقد. فيرحل الفنان ويبقى عمله علامة فى وجدان الجمهور. هكذا كان الراحل «فؤاد المهندس» الذى كان يمتلئ صدقا فى كل مشهد يؤديه وفى كل جملة ينطق بها. «المهندس» الذى نحتفل فى السادس من هذا الشهر بذكرى ميلاده ال93، ونحيى فى السادس عشر الذكرى ال11 لوفاته. كانت له علاقة خاصة جدا بالسينما. وبالتحديد هناك عدد من الأبواب تمكننا من الدخول إلى عالم «فؤاد المهندس» السينمائى، هذه الأبواب توصلنا إليها من خلال حوارات أجريت معه ودراسات كتبت عنه، لنتوصل فى النهاية إلى التالى: 1 يكره السينما فى أكثر من حديث معه ومن ضمنهما حوار أجراه الصحفى «هشام لاشين» ونشر فى كتاب بعنوان «فؤاد المهندس»، نصف قرن.. من الضحك اللذيذ ضمن مطبوعات مهرجان القاهرة السينمائى الدولى عام 1999، أكد «المهندس» أنه لم يشعر أبدا بالشغف الذى يشعر به على خشبة المسرح مع السينما. والسبب أنه يتعامل مع آلات صماء.. لا يوجد جمهور وإحساس وحيوية، بل ويؤكد كذلك أنه وافق على العمل فى العديد من الأفلام كمجاملة لمخرجيها أو كى يحصل منها على نقود يصرفها على المسرح. ومما لا شك فيه أن إحساس «المهندس» هذا بالسينما هو ما جعله يتقبل الآراء الحادة التى كانت توجه لأفلامه من قبل النقاد. فقد كان يرفض التعليق عليها لأنه هو نفسه لم يكن راضيا عن السينما فى حياته الفنية. والذى كان يكره السينما هذا قدم فى مشواره الفنى 79 فيلما. نصفها تقريبا أفلام من بطولته، إذا كان بعضها قد أخفق فنيا فلا شك أن معظمها قد نجح تجاريا. والمؤكد أيضا أن «المهندس» كان يشارك فى ويقوم ببطولة من خمسة إلى تسعة أفلام فى العام الواحد وخاصة فى فترة الستينيات التى شهدت قمة نشاطه السينمائى. 2 لا يقيس الأدوار «فؤاد المهندس» من الممثلين القلائل الذين لم يعتبروا أنفسهم نجوما فى السينما، فبالرغم من قيامه بأدوار البطولة منذ عام 1964 عندما قدم ثلاثة أفلام من بطولته هى: «أنا وهو وهى»، «هارب من الزواج» و«اعترافات زوج». فإنه قام فى نفس الوقت بالظهور فى أدوار ثانية فى أفلام «زوجة من باريس» و«شباب وحب ومرح». ونفس الأمر تكرر عام 1967، عندما عرض له فى وقت واحد فيلمان أحدهما هو أحد أهم وأشهر وأنجح أدواره فى السينما «أخطر رجل فى العالم» وفى نفس الوقت عرض «معبودة الجماهير» الذى قام فيه بأداء دور ثان كصديق للبطل «عبد الحليم حافظ» وقد استطاع «أخطر رجل».. أن يتغلب فى النجاح الجماهيرى على فيلم العندليب. وبعد سنوات ينسحب «المهندس» من أدوار البطولة ليقدم أدوارا ثانية فى بعض أفلام تلميذه «عادل إمام» كان من أهمها «خلى بالك من جيرانك»، «زوج تحت الطلب» و«خمسة باب» وكذلك يساند «عمر الشريف» فى «أيوب» و«أحمد زكى» فى «البيه البواب». وعلى الرغم من تقديمه لعدد من الأدوار الثانية المهمة فإنه كان أحيانا يقدم أدوارا ثانية ليست بنفس القدر من الأهمية. ولم تترك نفس البصمة التى تركتها بعض هذه الأدوار. وكان هذا يعود غالبا إلى قدرة المخرج على توظيف إمكانيات «المهندس» التى برع فى استغلالها كل من «عز الدين ذو الفقار» و«فطين عبدالوهاب» والأخير كان قادرا بصورة أكبر على تسليط الضوء على الإمكانيات الكوميدية الجبارة لدى «المهندس» ليلمع وسط البطولات الجماعية أو حتى فى الأدوار الثانية والأدلة الكبرى على ذلك رائعتا «عائلة زيزى» و«صاحب الجلالة». فقد كان «المهندس» فى كلا الفيلمين هو البطل الحقيقى الذى يبدو كما لو كان يمثل دور البطولة الثانية. 3 يمسك بالخيط الرفيع أن تكون كوميديانا قادرا على إضحاك الناس. لا يعنى بالضرورة أن تكون ممثلا جيدا، وأشهر الكوميديانات فى مصر وربما فى العالم كانوا دائما غير قادرين على الإمساك بالخيط الرفيع الذى يمكنهم من الوصول إلى الأداء الدرامى الجاد عند الحاجة، دون أن يكون هذا الأداء مزيفا ومبتذلا وغير صادق. والغريب أن هناك عادة سيئة فى الأفلام المصرية وهو ظهور مشهد جاد مع اقتراب نهاية الفيلم الكوميدى، يظهر فيه البطل وقد أخذ يلقى بما يشبه خطبة أو موعظة. وكان دائما ما يقع أبطال الكوميديا فى مأزق عند أداء هذا المشهد، فأداؤهم يكون فى الغالب غير مقنع ويتسبب ذلك فى إحداث نوع من الإعياء للفيلم. أما «فؤاد المهندس» والذى سار على هدى أستاذه ومثله الأعلى «نجيب الريحانى» الذى كان من أقدر الفنانين فى مصر على أداء كلا النوعين الدرامى والكوميدى بنفس البراعة. فقد تعلم «المهندس» درسا مهما جعله يسيطر على الخيط الرفيع بين الاثنين مثل «الريحانى»، فمن الصعب الضحك على الأداء الجاد «للمهندس» فى بعض مشاهد أفلامه، خاصة أنه لا يبالغ فى هذا الأداء، ويأتى دائما بسيطا غير مفتعل. هذه المشاهد التى لا تنسى مثلا، فى أفلام «عز الدين ذو الفقار» فنجده فى «الشموع السوداء»، و«نهر الحب» أو «بين الأطلال» هو الصديق المخلص خفيف الظل، فى حين أن خفة الظل هذه لا تمنعه من الأداء الباكى أحيانا إذا احتاج الأمر وفى الأفلام الثلاثة قدم مشاهد باكية لا تنسى. أما فى سنواته الأخيرة فى العمل السينمائى فكان الأداء الجاد والنظرة المليئة بالشجن يظهران ببراعة فى أفلام «أيوب»، «البيه البواب»، و«خمسة باب». 4 «جان» من نوع خاص فى الفترة التى كان يقوم فيها «فؤاد المهندس» ببطولة الأفلام السينمائية، كانت السينما تمتلئ ب«الجانات» من أمثال «عمر الشريف»، «أحمد مظهر»، «رشدى أباظة»، «أحمد رمزى»، «عبدالحليم حافظ» وحتى «صالح سليم». إلا أن «المهندس» يعتبر الفنان الكوميدى الوحيد الذى قدم نفسه ك«جان» من نوع خاص. فهذا الكوميديان - وعلى غير عادة الكوميديانات - هو الذى استطاع أن يذيب قلوب العذارى وتجرى وراءه الجميلات، وعلى رأسهن واحدة من أجمل جميلات السينما المصرية «شويكار». هذه الشجاعة والثقة التى تحسب للمهندس فى تقديم نفسه كبطل قادر على أن يكون فتى أحلام لا مثيل له، نلاحظها عندما نجد أن كل من وقعن فى غرامه على شاشة السينما كن فائقات الجمال سواء كن نجمات يشاركنه البطولة أو حتى ممثلات دور ثان أو ثالث. وكان دائما يتعامل معهن «المهندس» من منطلق السخرية والتعالى، فبالرغم من قصر قامته ووزنه الزائد ونظارته الكبيرة وشاربه وهذا الفراغ فى أسنانه، فإنه دائما ما يشعرهن بأنهن أقل منه شأنا وأكثر منه غراما. وحول هذا الأمر يقول الكاتب الكبير «محمود السعدنى» فى كتابه «المضحكون»، الصادر عن دار الهلال عام 1994 تحت عنوان «الذكى» واصفا «المهندس»: «ليس من بين المضحكين من هو أذكى من «فؤاد المهندس».. وذكاؤه هو الذى جعله يحط كالصقر على طبق المهلبية الشهير ب«شويكار» ويواصل قائلا: «وهو بالرغم من هذا القفص الصدرى المطبق، والوجه المفعص، وهو بالرغم من ساقيه المعوجتين، وأوراكه التى تشبه أوراك معزة حاوى مفلس، هو بالرغم من هذا سيصبح فتى أحلام طبق المهلبية.. هذه البنت السنيورة الغندورة التى هى فتاة أحلام كل الرجال».. ويؤكد «السعدنى» على أن ذكاء «نجيب الريحانى» ومن بعده «فؤاد المهندس» هو الذى جعلهما يرتبطان بالحسناوات وهو ما يرضى غرور الرجال، خصوصا أن معظم الرجال يحسون بالنقص، ويحلمون بأن تقع النساء الجميلات فى غرامهم، وتبقى الأحلام مجرد أحلام طبعا، ولكنها تتحقق على مسرح «الريحانى» وبعد وفاته على مسرح «فؤاد المهندس». 5 كوميديان متنوع «فؤاد المهندس» من أكثر الممثلين الكوميديين الذين قدموا تنوعا فى الأداء ما بين ال«فارس» - (FARCE) التى تعتمد على حركات الجسم والصوت وهدفها فقط الإضحاك دون تفكير. وكوميديا ال(SARCASM) المعتمدة على التهكم من الآخرين، من أحوال أو أفكار بعينها. أيضا هو من القلائل القادرين على الإقناع عند أدائهم لأى نوع من الشخصيات - طبعا فى إطار كوميدى أيضا - فهو الرجل الأرستقراطى وهو الموظف البسيط. هو الثرى الناجح وهو الفقير المعدم. لقد كانت تناسبه جميع أنواع الملابس المهندمة والبالية ويقنعك بأنه ممتلئ شبعا أو على وشك الموت جوعا. القدرة على الإقناع كانت أحد المفاتيح المهمة عند «فؤاد المهندس» وكانت من أهم العوامل المساعدة لموهبته ويتجلى ذلك فى الأفلام التى كان يقوم فيها بدورين إما طيب أو شرير مثل «أخطر رجل فى العالم»، «عودة أخطر رجل فى العالم» و«العتبة جزاز» أو العجوز المخضرم والشاب الساذج مثل «فيفا زلاطا». أيضا استطاع «المهندس»، وعلى غير عادة الكوميديانات، فى فترة تألقه فى الستينيات. أن يقدم جميع أنواع الكوميديا، من كوميديا سياسية مثل «أرض النفاق» أحد أهم أفلامه والذى أخرجه «فطين عبدالوهاب» عن رواية ل«يوسف السباعى» وسيناريو «سعد الدين وهبة»، كوميديا بوليسية مثل الأفلام التى قدمت قصص مطاردات وما يشبه حكايات العسكر والحرامية فى أفلام «العتبة جزاز»، «أخطر رجل فى العالم» و«شنبو فى المصيدة»، كوميديا الجريمة التى ظهرت فى «سفاح النساء»، الكوميديا العاطفية ويمكن أيضا تسميتها الكوميديا العاطفية الزوجية والتى حقق فيها مع «شويكار» سلسلة من الأفلام التى لا تنسى عن زوجين يواجهان فى كل فيلم أزمة معينة، وكانت الأفكار دائما مبتكرة مثل «اعترافات زوج» التى تحاسب فيه الزوجة زوجها على حلمه بفتاة حسناء، «إجازة غرام» عن مهندس بالسد العالى يأتى إلى منزله لقضاء إجازة مع زوجته الطبيبة المشغولة بعملها طوال الوقت مما يدفعه لخيانتها، «الراجل ده حيجننى» حول زوج مسالم تسأم زوجته من سلوكه السلبى فتتركه ليلتقيا بعد عشرين عاما فيتجدد حبهما و«مراتى مجنونة مجنونة مجنونة» حول زوجة غيورة وزوج عصبى تؤدى طباعهما تلك فى حدوث طلاق بينهما لثلاث مرات، فيتزوج الزوج من ابنة رجل ثرى لتقرر الزوجة الأولى الزواج من الأب الثرى لتنغص على زوجها السابق حياته الجديدة. هذا التنوع الشديد هو ما كان يضمن دائما النجاح الجماهيرى للمهندس. فالتنوع والأفكار الطازجة كانت دائما تغلف أفلامه، حتى وإن وقعت أحيانا هذه الأفلام فى أيدى مخرجين غير قادرين على استغلالها أو الاستفادة من إمكانيات بطلها. ولعل هذا هو ما أدى إلى حدوث إخفاق فنى على عكس بعض الأفلام الأخرى التى كان يمسك بزمامها مخرجون موهوبون فيبدعون فى صناعتها وتألق بطلها. فى النهاية سواء كان المخرج جيدا أو سيئا فالذى بقى من تراث «فؤاد المهندس» السينمائى مازال حيا وتتجدد فيه الحياة عاما وراء الآخر ويعاد اكتشاف جواهر «مستر» فؤاد ليتمتع بالحضور الدائم ولا يموت أبدا.