خلف كرسى كل مسئول يتلخص عمله اليومى فى رسم حروف اسمه الأولى على قرارات إنفاذ القانون، ألف عصابة تخصصت فى قتل هذا القانون وصبغ توقيعات المسئول وتذويبها فى كلمة «حبر على روق». عصابات حولت إدارات الدولة إلى ما يشبه المافيا، ومسئولى المحليات إلى فتوات لجمع الإتاوات، وحراس تنفيذ القانون إلى ما يشبه فرق الإطفاء السريع، يحلون حيث تندلع الحرائق ثم يمضون إلى حال سبيلهم، ليتركوا الضحايا يجمعون أشلاء خسائرهم وحدهم دون عزاء من أحد. استيقظ سكان مصر الجديدة ومدينة نصر وبعض المناطق الأخرى فى القاهرة والجيزة عقب مقتل «بيومى» على شوارع خالية من الكافيهات المزعجة، واستبشر الجميع خيرا، بصحوة الدولة هذه المرة بيدها الغليطة، رغم الحزن الذى خيم على كل بيت بسبب بشاعة الجريمة التى جرت- فى مفارقة قدرية- فى يوم لمة المصريين حول حدث مفرح هو تشجيع المنتخب فى نهائى بطولة الأمم الإفريقية، إلا أن البشرى تبددت بعد ساعات قليلة، حيث عاد كل شيء إلى وضعه، وعاد البلطجية إلى أماكنهم على أبواب تلك الكافيهات والمقاهى يخرجون ألسنتهم للجميع. هل كانت الدولة صادقة حقا فى تقليم أظافر تلك العصابات ووقفها عند حدها، وحصارها، ومنعها من إيذاء الناس إلى حد القتل؟ أم أن ما جرى لم يكن سوى مسرحية هزلية لإسكات شعب يجيد النسيان جيدا؟ لماذا لا تتحرك أجهزة الدولة إلا بعد وقوع الكارثة؟ رسائل عديدة وصلتنا من الكثيرين من سكان حى مصر الجديدة وخاصة منطقة الكوربة، بعد ما نشرناه الأسبوع الماضى عن كارثة كافيهات مصر الجديدة، كلها تفيض أنينا ومرارة وتشكو من تفاقم العبث والانفلات والفوضى والتخريب، وسط غياب كامل لأجهزة الدولة، الأمر الذى بات يثير العديد من علامات الاستفهام أهمها: من يقف وراء هؤلاء المخربين؟ ومن يوفر الحماية لهم؟ إن منطقة الكوربة ذات الطراز المعمارى الفريد الذى حافظ على نفسه طوال عقود، واحتفظ لنفسه بأصالته فى مواجهة زحف الكتل الأسمنتية وعمارات القبح وواجهات المحلات والمتاجر العصرية المشوهة لكل شيء من أجل المكسب، تشهد حاليا انتكاسة كبرى وهجمات تخريبية تكاد تلحقها بباقى أحياء القاهرة التى أصابها التشوه والعشوائية، حين يشن مجهولون لدينا معلومون لمسئولى الحى والمحافظة حملة هدم للكثير من الفيللات والقصور والمبانى التاريخية، وتسويتها بالأرض بوتيرة سريعة جدا، لإحلالها بمبان ذات طرز مشوهة غير متناسقة، قادمة من زمن الانفتاح والأبراج العشوائية المستفزة، لغرض واحد فقط هو تكديس الأموال والأرباح من تجارة الشقق، ليس هذا وحسب، فقد سمحت أيد عابثة لهؤلاء المجهولين- للمرة الأولى فى تاريخ هذه المنطقة الممتد لكثر من مائة عام- بزرع المحلات التجارية والمطاعم والكافيهات فى الأدوار الأرضية والأولى على بعد أمتار من قصر الرئاسة فى الاتحادية، وباقى قصور شارع العروبة المميز. وفى مدخل شارع رمسيس بمنطقة الكوربة، عند التقطاع مع شارع العروبة، جرى هدم فيللا قديمة واستبدالها بمبنى أشبه بعلب الكارتون القبيحة على شكل كرة معدنية تقذف أضواءها الصارخة ليل نهار فى عيون السيارات المارة على طريق مطار القاهرة بشارع العروبة، من أجل عيون شركة عقارات إماراتية احتلت الفيللا وقامت بهدمها وإعادة البناء على الأرض فى وقت قياسى دون أن يتحرك أحد. وعلى بعد خطوات، وتحديدا فى موقع الفيللا رقم 19 بشارع رمسيس أيضا جرت وقائع جريمة أخرى، حيث تم هدم الفيللا العتيقة واستبدالها بعمارة حديثة مرتفعة ومتجاوزة الحد الأقصى للارتفاعات فى هذه المنطقة، على مساحة أكثر من 2000 متر مربع، وجرى تصميمها بحيث يمكن تأجير الدور الأرضى والأول بالكامل فى صورة محلات تجارية، وقبل أن ينتهى صاحب العقار من بنائه، جرى تأجير الدورين بالفعل لصالح «بودى شوب» وكافتيريا ومطعم وكافيه شهير. وقد تفجرت خطوط الاتصال بمسئولى الحى للشكوى مما يجرى على الأرض ويحطم خصوصية تلك المنطقة للمرة الأولى فى تاريخها ويحولها من محمية معمارية للجمال والهدوء والأصالة، إلى عشوائية للتسوق والتسكع والزحام والقبح، وربما جريمة قتل جديدة أشبه بجريمة الأسبوع قبل الماضى فى كافيه «كيف» بشارع النزهة، أسوة بباقى مناطق مصر الجديدة والقاهرة عامة بالمخالفة للقانون، الأمر الذى أزعج سكان المنطقة، لكن أحدا لم يجب. صاحب الكافيه الجديد فى العمارة رقم 19 بشارع رمسيس لم يتورع عن وضع إعلان كبير على واجهة العمارة التى كادت أن تكتمل، معلنا قرب الافتتاح، متحديا كل التصريحات الرسمية عن حصار الكافيهات وغلقها وعدم الترخيص لكافيهات جديدة خاصة فى المناطق الراقية. لم يستطع أى مسئول الإجابة عن سؤالنا: كيف تمنحون ترخيصا بهدم فيللا تاريخية وبناء عمارة ثم منح صاحبها حق تأجير كافيهات، رغم شروط التنظيم التى تمنع هدم الفيللات فى منطقة الكوربة، وقرار محافظ القاهرة الصادر فى عام 1992 بمنع الترخيص لكافيهات نهائيا؟ رحنا نحقق بأنفسنا عن سر هذه الجريمة الجديدة، بحق الخصوصية المعمارية للمنطقة أولا وبحق السكان ثانيا بزرع كافيهات ومحلات فى منطقة لم تشهد هذا النوع من النشاط من قبل، وحصلت «روزاليوسف» على صورة من ترخيص البناء الممنوح من حى مصر الجديدة لصالح المدعو نشأت فايز ميخائيل صاحب العقار، برقم 62 لسنة 2015، وتبين وفقا لما جاء فى قرار الترخيص أنه صدر بموجب حكم قضائى من مجلس الدولة خلال فترة حكم الإخوان، فى الدعوى رقم 2537 لسنة 2013 بأحقية المدعى فى إنشاء محلات تحت العقار فى نطاق حى الكوربة بمصر الجديدة، وهو حكم شديد الغرابة، خاصة إذا علمنا أن صاحب العقار حصل على ترخيص سابق فى 2010 إلا أنه فشل فى تنفيذه، بسبب مخالفة الرسوم الكروكية المقدمة لاشتراطات البناء فى المنطقة، ومخالفة إنشاء المحلات والكافيهات لقرارات محافظة القاهرة. قال مسئول بالحى إن الأمر خرج من أيديهم لأن صاحب العقار حصل على حكم قضائى واجب النفاذ، خاصة أنه جرى تأييده بالاستئناف رقم 6131 لسنة 18 قضائية، وأن هذا يسرى على جميع فيللات وعقارات المنطقة، ما يعنى صراحة أن الكوربة بكامل فيللاتها وقصورها التاريخية أصبحت مهددة بالزوال، بعد بدء حيتان الأراضى وتجار العقارات فى هدم الفيللات وبناء العمارات الشاهقة كما يجرى حاليا فى هذه الواقعة. أصبحنا الآن فى مواجهة موقف شديد الهزلية ونعيش مشهدا بالغ السخرية.. حى مصر الجديدة يغلق الكافيهات بحملة عنف وتكسير استعراضية شبه متفق عليها مع أصحاب الكافيهات نهارا، ونفس الحى يمنح تراخيص فتح الكافيهات باليد الأخرى ليلا. إن ما يزيد تلك السخرية ألما أن نعرف أن فيللا شارع رمسيس التى جرى هدمها واستبدالها بعمارة بالغة الارتفاع تؤهل المنطقة لموجة صخب وضجيج وربما جريمة قتل أسوة بقتيل كافيه النزهة، تقع على بعد خطوات من الفيللا رقم 9 فى شارع رمسيس أيضا، وهى الفيللا التى تحتفظ بقصة من عهد الفساد فى زمن حسنى مبارك ورجاله جدير بنا أن نتذكرها. وضع وزير الإسكان الأسبق إبراهيم سليمان عينه على هذه الفيللا المعروفة بفيللا النقراشى باشا، واستيقظ سكان المنقطة على أعمال هدم للفيللا التاريخية، لتنطلق صرخات الشكاوى وحملات الصحافة ضد ما يجرى من تخريب للتاريخ فى منطقة الكوربة، ويتبين أن بطل هذه الجريمة هو وزير الإسكان، وبالفعل لم يستطع سليمان الذى سوى الفيللا بالأرض أن يقف أمام هذه العاصفة وأعلن أن الفيللا كانت آيلة للسقوط وأنه يعتزم إعادة بناء فيللا على طراز معمارى شبيه وأن يلتزم بشروط المنطقة فى البناء والأسلوب المعمارى، وهو ما حدث بالفعل بعد طوفان الغضب الذى أحرج الحكومة كلها، رغم سطوة رجال مبارك فى فعل أى شيء. إنه لمن دواعى السخرية أن ما عجز عنه رموز السطوة فى عهد مبارك، ينجح فيه سمسار مجهول بمساعدة مسئولى الحى الذين تراخوا فى الطعن على الحكم، كما ساعد عليه حكم غريب صدر فى عهد حكم الجماعة الإرهابية التى اخترقت أجهزة الدولة فى ذلك العام الأسود لرئاسة محمد مرسى. لا تشبه قصة عمارة ميخائيل قصة فيللا النقراشى، بقدر ما تشبه عمارة الفاسدين الكائنة على الجانب الآخر من شارع العروبة خلف فندق المريديان وقصر البارون، والتى بناها رجل الأعمال وجدى كرارة فى شارع عمر بن الخطاب، لتكون أول خرق لاشتراطات البناء والتعلية فى هذا الحى، والتى منحها كلها لرجل مبارك، بدءا من نجله علاء الذى جرى منحه الدورين الأخيرين بالكامل بعد بنائهما على كل المساحة وإلغاء البروز والبالكونات، لإحكام غلقهما وتأمينهما، وجرى منح باقى الأدوار والشقق لكل من اللواء عمر سليمان وصفوت الشريف وابنه إبراهيم سليمان، وكان مفهوما أن السماح بتلك المخالفة الفريدة من نوعها فى ذلك الوقت ثمن دفعه كرارة لتأمين حصوله على مئات الأفدنة من أراضى الدولة فى القاهرة الجديدة بتوقيع وزير الإسكان إبراهيم سليمان فضلا عن إطلاق يده فى هدم عدد من الفيللات التاريخية بعيدا عن مربع الكوربة وإنشاء سلسلة من العمارات الفاخرة لأصحاب الحظوة والثروة والنفوذ وحصد مئات الملايين من الأرباح بمشاركة صديقه سليمان. فهل يعود زمن الفساد و«عماراته» من جديد أكثر سطوة وبجاحة وبلطجة؟ هذا ما يحدث الآن فى الكوربة ومصر الجديدة قبل أن تجف دماء محمود بيومى قتيل الكافيهات.