تقول الصلاة «حابى أبوالآلهة» الذى يجلب النماء لمصر ويهب المصريين الحياة ويشيع الفرح والطمأنينة فى النفوس: أنت عظيم خلقت نفسك بنفسك، ولا أحد يعرف سرك. هكذا كان يتعبد فى النيل «الإله» للنيل وإلهه حابى حتى يرضى عنهم لدرجة أنهم كانوا يلقون الجميلات حتى يثرن إخصابه وتزداد قوة فيضانه فيعطى الحياة للأرض وأخذت بريطانيا آثارا مكتشفة تحت نهر النيل لعرضها فى المتحف البريطانى منذ شهر مايو الماضى وحتى نوفمبر المقبل. إلا أن دار نشر THAMES HUDSON والمؤلفين فرانك جوديو وهو رئيس المعهد الأوروبى لعلم الآثار تحت الماء وأوريليان ماسون بيرجوف الذى عمل مسئولا عن المعرض، لم يريدا أن ينتهى الأمر عند انتهاء المعرض حيث يصدران فى 51 نوفمبر المقبل، كتابا تحت عنوان sunken Cities Egypts Lost Worlds أو المدن الغارقة: عوالم مصر المفقودة. الكتاب يرصد فى نحو 272 صفحة الحقبة التى غزا فيها الإسكندر الأكبر مصر ودولة البطالمة وحتى انتحار الملكة كليوباترا، وهى حقبة تشبه إلى حد كبير ما تواجهه مصر ودول الشرق الأوسط، من اضطراب للوضع الداخلى وانتهاز عدة جبهات وتحالفات للحالة فى فرض السيطرة والتحكم فى القرار السياسى والاقتصادى. ويتناول الكتاب الآثار الفرعونية القديمة التى غرقت قبل ألف عام تحت مياه النيل وتم اكتشافها فى أواخر القرن العشرين، وكانت عبارة عن ثروة هائلة من المبانى والآثار القديمة منها تمثالا حابى وأوزورويس غيرهما بما فى ذلك المعابد والمنشآت. وما لا يقل عن تسعة وستين حطام سفينة استقبلتها لندن للمرة الأولى. ويوضح الكتاب كيف أن الحضارتين القديمتين لمصر واليونان تفاعلتا فى أواخر الألف الأول قبل الميلاد، من خلال المراكز التجارية والدينية وصولا إلى الإسكندر الأكبر والقرون التى تلت ذلك، وعلاقات الملكة كليوباترا والتى عقدت نشاطا كبيرا بين الحضارتين. الكتاب يرصد كيف عاش الإغريق والمصريون جنبا إلى جنب مع بعضهما البعض فى هذه المدن الحيوية وتم تقاسم سياساتهما ومعتقداتهما الدينية واللغات؟ الكتاب يشمل 250 رسما توضيحيا تلون تلك الآثار والعلاقات يتحقق فرانك جوديو من مصير اثنين من المدن الضائعة وهما كانوبوس ومرقايون كما حاولا فى كتابهما أن يكتشفا من خلال تلك الآثار الغارقة العلاقات بين مصر واليونان والتى تعد من أقدم العلاقات بين بلدين فى العالم ويعود تاريخها إلى ما قبل الميلاد بنحو 300 عام، وأيضا السياسات الخارجية والتجارية لمصر القديمة وخاصة فى وجود هذا الكم من السفن الغارقة، وأيضا ما اكتشفت تحت النيل من مدن بأكملها تمتد إلى 500 قدم موزعة على عدة أميال. وتؤكد نتائج دارسة الكاتبين مدى أهمية الممارسات السياسية والخارجية والاقتصادية لمصر القديمة وطرق التجارة وتبادل الثقافات بين الحضارتين اليونانية والمصرية خلال النصف الأخير من الألفية الأولى قبل الميلاد، فى وجود أكثر من 69 سفينة أجنبية و700 من المراسى. الكتاب يتناول أيضا القطع الصغيرة التى وجدت كآثار ولكن كأدوات معلوماتية عن ماهية تلك المدن الغارقة وثقافتها والحياة الرائعة التى كان الناس يعيشونها. ووفقا للمؤلفين فلا شيء يجسد خلط الحضارتين المصرية واليونانية أكثر من تمثال «أرسينوى» التى تزوجت أخاها بطليموس فى القرن الثالث قبل الميلاد حيث أصبحت شخصية معبودة، ورغم أن «أرسينوى» الثانية كانت من آلهة مصرية لكنها صورت فى ذلك التمثال كما النحت اليونانى مثل أفروديت، وهى منحوتة فى الصخور السوداء الصلبة، مع أكتاف عارية وجلباب شفاف يكشف جسدها المثير. ويسلط الكتاب الضوء على المزج بين الثقافات فى مدن دلتا النيل، ويقدم رؤى فريدة من نوعها عن فترة رائعة من التاريخ واجه خلالها المصريون والإغريق بعضهما البعض على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، عن طريق المدنيتين كانوبوس وهرقليون واللتى كانتا تعتبران بوابة مصر قبل بناء الإسكندرية، ولكنهما اختفيتا بسبب عوامل المناخ وغرقتا فى النيل. ويرى الكتاب أن الآثار الغارقة تشير إلى أن جميع التجار فى الدول المطلة على البحر المتوسط كانوا يتعاملون مع مصر وليس فقط الإغريق، وكان الفينيقيون والقبارصة والمشرقيون يقبلون تجارة الكتان والنبيذ، ورغم دخول الإسكندر الأكبر واليونانيين القدماء مصر إلا أن الثقافة اليونانية لم تحل محل الثقافة المصرية، حيث أيد البطالمة التقاليد الاجتماعية والدينية المتبعة على مر الزمان فى محاولة لضمان ولاء السكان، وقاموا ببناء معابد جديدة على الطراز المصرى لدعم المعتقدات الدينية التقليدية، وصورا أنفسهم كالفراعنة وهو ما توضحه العوالم المفقودة تحت النيل. يقول المؤلفان إن المصريين كانوا يفضلون اليونانيين ولذلك رحبوا بالإسكندر الأكبر عندما غزا مصر، وتم التوحد بين الحضارة المصرية واليونانية معا، حيث تداخلت الآلهة المصرية مع اليونانية فى إطار دينى واحد مثل سيرابيس وعلى الرغم من الجهود المبذولة لتهدئة المصريين، اعترض البطالمة تمرد محلى من الأسر المحلية المنافسة. الكتاب يستعرض الحقبة الخاصة بالبطالمة فى مصر وحتى انتحار الملكة كيلوباترا والتى سبقتها فترة ازدياد اعتماد روما على واردات الحبوب من مصر، وبالتالى كان الدافع الذى جعل الرومان يهتمون بشكل كبير بالحالة السياسية لمصر، وربما كانوا من العوامل التى أدت إلى استمرار هوجة من الثورات المصرية فى الوقت الذى سبق دخول الرومان إلى البلاد، خاصة بعد أن أدى الطموح السياسى لدى البعض وخاصة المعارضين الأقوياء إلى عدم استقرار الأوضاع الداخلية، ما قامت على إثره روما بإرسال قوات لتأمين البلاد باعتبارها مقاطعة من الإمبراطورية، وبدأت من هنا فترة الهيمنة الرومانية وخاصة فى عام 30 ق.م بعد هزيمة ماركوس أنطونيوس والملكة البطلمية كليوباترا السابعة من قبل أغسطس قيصر فى معركة أكتيوم البحرية واعتمد الرومان بشكل كبير على شحنات الحبوب القادمة من مصر، وقمعت الفيالق الرومانية التمرد والمتمردين، وشرعت فى تحصيل الضرائب الكبيرة.