العرب عبارة عن عصابات منظمة، ليس ممكنًا الوثوق بهم، وقرار تقسيم فلسطين لسنة 1947، كان صادمًا لليهود، ومن المستحيل إجراء تسوية على أساسه، والعدوان الثلاثى على مصر «الذى سماه حملة فلسطين» كان ردًا على خرق عبدالناصر المعاهدات الدولية، وعبدالناصر هو «هتلر مصر»، عكس السادات «الرجل المتفهم»، أما الملك حسين فهو نموذج «مستنير»، وقد بدأت ألتقى به منذ عام 1974، غير أن العلاقات معه «أقدم من ذلك». تلك أبرز آراء شيمون بيريز، الرئيس الإسرائيلى الذى مات قبل أسبوعين، والذى يقال على نطاق واسع إنه رجل سلام، ونموذج للحمائم فى دولة الاحتلال. الآراء تكشف عنها مذكراته التى نشرها تحت عنوان «المعركة من أجل السلام» وأطلق عليها قادة الكيان «المذكرات المدمرة» نظرًا لاحتوائها على أدق التفاصيل عن تأسيس إسرائيل «أى نكبة فلسطين». وتبدأ المذكرات بسرد آراء «بيريز» فى عرب فلسطين، الذى يقول إنهم «محض عصابات همجية يريدون تدمير الوطن الرائع الذى كنا نسعى لإقامته، ومن الغباء أن نتخيل أن حوارًا يمكن أن يقام معهم، فالخيار الوحيد المتاح أمامنا هو أن «ندافع عن أنفسنا» منهم. والحقيقة أن قرار الأممالمتحدة 181 لعام 1947 بشأن تقسيم فلسطين هو قرار صادم لليهود، إذ أعطاهم جزءًا صغيرًا من «أرض الميعاد». واللافت أن هذه الآراء المتطرفة لا تثير غرابة بالنسبة لرجل مثل «بيريز»، بل إنها تتسق مع نشأته التى التزمت بالتعاليم التلمودية المتشددة إلى درجة أنه فرض على جنود جيش الاحتلال مراعاة الطقوس اليهودية، وقد تقدم باقتراحه فى هذا الشأن إلى «بن جوريون» الزعيم الصهيونى الكبير. المذكرات لاتعد غريبة بالنظر إلى أن «بيريز» تولى منذ نهاية الأربعينيات مسئولية تأسيس جيش الاحتلال، وهو الأب الروحى لمفاعل «ديمونة» الذى استغل علاقاته مع باريس من أجل امتلاكه ليضمن أن يكون للاحتلال «مخلب» يهدد به العرب دائمًا. وبالنسبة لحرب 1948 يقول بيريز: إنها الحرب التى انتصرت فيها القلة على الكثرة.. وقد انتصرنا على الجيوش العربية برغم قلة تسليحنا وعددنا، وهذه بالطبع معجزة الشعب اليهودي. كلام لا يخلو بالطبع من النعرة الاستعلائية لشعب يرى أنه «مختار من الله»، و«متفوق»، ولعل هذا الوهم هو الذى دفع «بيريز» إلى عدم ذكر الهزيمة المذلة التى تجرعها «الشعب المختار» فى حرب السادس من أكتوبر.. إنه الاجتزاء المخل، والمذكرات التى تقفز فوق الحقائق دعمًا للأساطير الصهيونية. وبعد تعيين بيريز مديرًا عامًا بوزارة الحرب الإسرائيلية، ألغى نظام شراء الأسلحة من فرنسا على وجه الخصوص عبر وسطاء، حتى لا تلتزم دولة الاحتلال بسداد %10 عمولة، وأصبح يتواصل بصفة شخصية مع رئيس الوزراء الفرنسى «بول رينو» وهو الأمر الذى أسفر عن بناء المفاعل النووي. رئيس إسرائيل الأسبق يقدم رؤيته بشأن العدوان الثلاثى على مصر، قائلاً: كان قرار عبدالناصر تأميم القناة انتهاكًا صارخًا لالتزامات مصر التعاقدية بشأن حرية الملاحة فى القناة، وكان ناصر يريد تحقيق سيطرة مصرية إقليمية على المعبر المائى، وهو الأمر الذى شكل عدوانًا غير مباشر على إسرائيل. ومضى «بيريز» فى وصف الزعيم الراحل قائلاً: كان ناصر «هتلر» مصر، لذلك كان ضروريًا وقف خطره.. وبعد يوم من إعلان تأميم القناة دعاه وزير الدفاع الفرنسى «بورج مونورى» لمقابلته، حيث تناقشنا فى تفاصيل «ردع ناصر». وسأل الوزير الفرنسى السياسى الإسرائيلى عن الفترة التى يحتاجها الجيش الإسرائيلى للوصول إلى قناة السويس فأجابه: «نحو أسبوعين»، ولم يكن السؤال غريبًا فوزير الحرب الإسرائيلى موشى ديان كان اقترح سنة 1955 احتلال سيناء، ووضع خطة العدوان ومن ثم لم يكن العدوان فقط نتيجة التأميم فالنية كانت مبيتة، هذا رغم أن بيريز لم يعترف بذلك فى مذكراته. العدوان استهدف آنذاك، وقف قرار التأميم وتدمير القوات المسلحة المصرية وإسقاط نظام عبدالناصر، وكان كل من بن جوريون وديان من أشد المتحمسين له. ويتجاهل بيريز فى مذكراته الحديث عن المقاومة الشعبية فى بورسعيد، ويتجنب أيضًا كيفية إدارة الزعيم عبدالناصر للمعركة سياسيًا، حتى صدر قرار وقف العدوان، بما رسخ قرار التأميم وخرج عبدالناصر من الموقف أكثر قوة وقد أصبحت زعامته الإقليمية أوسع وأقوى. وانتعشت العلاقات الإسرائيلية الفرنسية فى عهد ديجول الذى يقول عنه «بيريز»: كان معجبًا بالشعب اليهودى، غير أن العلاقات وصلت مستويات غير مسبوقة فى عهد فرانسوا ميتران الذى التقى به بيريز فى اجتماع للأحزاب الاشتراكية الأوروبية. وحينها أعرب السياسى الصهيونى لفرانسوا الذى كان يمهد للترشح للرئاسة الفرنسية عن مخاوفه من المفاعل النووى العراقى فقال له: لو أصبحت رئيسًا لفرنسا، فعليك أن تعلم أن هذا المشروع لن يرى النور. وتوطدت صداقة بيريز وميتران، وأخذ الأول يقوم من وقت إلى آخر بزيارة الثانى فى بيته الريفى فى جبال البيرنيز، حيث يتبادلان الحديث فى موضوعات عديدة تتضمن الإنجيل والتوراة والتاريخ القديم والحديث. زار بيريز ميتران أواخر صيف 1993 بعد التوصل إلى صيغة اتفاق أوسلو. وبعد أن شرح لميتران ما تم الاتفاق عليه كال الأخير المديح دون تحفظ للاتفاقية، الأمر الذى جعل بيريز يحمر خجلا يا له من عمق فكري! يا لها من شجاعة سياسية، ومضى ميتران مضيفا أنه يعتبر الاتفاق واحدا من ثلاثة أو أربعة أهم أحداث فى القرن العشرين، كما تعهد بتأييد فرنسا وشركائها الأوروبيين لجهود إسرائيل فى إقامة سوق مشتركة شرق أوسطية مزدهرة على غرار السوق الأوروبية. ويصف بيريز الولاياتالمتحدة بأنها أكرم دولة فى العالم. ويخص بيريز بالمديح جيمى كارتر الذى لولاه لما تم توقيع اتفاقيتى كامب ديفيد، وهو يعبر عن امتنان إسرائيل الشديد للمساعدة الحاسمة التى قدمتها إدارة ريجان فيما بين نهاية عام 1984 وبداية عام 1985 من أجل تأمين هجرة يهود الحبشة واللاجئين إلى السودان. وتضمنت المساعدة - ضمن أشياء أخرى - إرسال طائرات نقل أمريكية عملاقة لنقل هؤلاء اليهود إلى إسرائيل. ويتحدث بيريز عن حرب يونيو 1967 زاعما أن إغلاق مصر مضيق تيران كان سببا مباشرا للحرب وأن الانتصار الإسرائيلى فى هذه الحرب كان أعظم من الانتصار فيما يسميه «حملة سيناء» لعام 1956، أما عن حرب أكتوبر 1973 فيذكر أنها أخذت الإسرائيليين على حين غرة، ولم يكونوا مستعدين لها وأحدثت شرخا فى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، مكتفيا بهذه العبارات المقتضبة. ويروى بيريز فى حديث عن غزو إسرائيل لبنان عام 1982 أن محاولة اغتيال السفير الإسرائيلى فى لندن بتاريخ 3 يونيو فجرت شرارة الحرب، وكانت الحكومة الإسرائيلية تنوى القيام بعملية حربية منذ أشهر عديدة سابقة. وكان هناك اتجاهان فى مجلس الوزراء الإسرائيلى، الأول الاتجاه المحدود الذى يطالب بغزو إسرائيل منطقة فى جنوبلبنان عمقها أربعون كيلومترا، وذلك ل «تطهيرها» من الوجود الفلسطينى وتأمين شمال إسرائيل، والثانى اتجاه ما سمى بالخطة الكبيرة الذى يطالب بالوصول إلى بيروت، وهو الذى تم تنفيذه فعلا. ويتحدث بيريز عما سماه «بحث إسرائيل الطويل عن السلام» ذاكرا أنه بعد ثورة يوليو 1952 - ومن دون أن يحدد أى تاريخ - حاول بن جوريون عبر وساطة الرئيس اليوغسلافى تيتو تأمين لقاء مع الرئيس عبدالناصر فى جزيرة برويونى، ولكن الأخير رفض ذلك، وفى خريف 1977 تمكن الملك الحسن الثانى من تأمين لقاءين فى المغرب بين موشى ديان وحسن التهامى صديق السادات وأحد أقرب أعوانه ولم يكن التهامى دقيقا فى فهم ما عرضه عليه ديان لأن الأخير لم يلتزم بأن تقدم إسرائيل أية «تنازلات»، بينما فهم التهامى أن إسرائيل استجابت للمطالب المصرية، وكان ديان مدركا سوء فهم التهامى، باختصار تمكن الأول من خداع الثانى، ويرى بيريز أن «شدة حماس التهامى وحذاقة ديان هما اللتان وضعتا أسس السلام المصرى - الإسرائيلى». وتحدث بيريز باختصار عن زيارة السادات القدس وتوقيع اتفاقيتى كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرى - الإسرائيلى، قائلا: لو ربط السادات السلام مع إسرائيل بالسلام مع الأطراف العربية الأخرى لما تحقق شيء من المعاهدة. ويرى أن النص فى الإطار العام لاتفاقية كامب دافيد على الحكم الذاتى الفلسطينى كان يهدف إلى تمكين السادات من تبرير السلام المنفرد، فالسادات يعتبر عالميا وبحق واحدا من أهم رجال الدولة العرب فى القرن الماضي. فيما يتعلق بسعى إسرائيل ل «السلام» مع الأردن يروى بيريز أنه قابل الملك حسين للمرة الأولى فى صيف 1974 «عندما كان وزيرا للدفاع» مع إسحاق رابين وييجال ألون رئيس الوزراء ووزير الخارجية على التوالى، وكان مع الملك رئيس وزرائه وزير الدفاع، وتلا هذا الاجتماع اجتماعات عديدة أخرى، وخلال الاجتماع الأول عرض بيريز مشروعا يتضمن وضع الضفة والقطاع تحت إدارة إسرائيلية - أردنية مشتركة، وجعلها منزوعة السلاح كليا مع عدم بسط السيادة الأردنية أو الإسرائيلية عليها. وأن يشكل كل من إسرائيل والأردن والكيان الفلسطينى وحدة اقتصادية فيما بينها تسمح بحرية انتقال الأشخاص والبضائع والأفكار مع تأمين حرية العبادة فى الأماكن المقدسة، ويذكر أن موقف الملك لم يكن سلبيا ووعد بدراسة المشروع مضيفا أن العامل الأساسى وراء تقديمه هو معارضة إسرائيل إقامة دولة فلسطينية. وفى أبريل 1987 تم اجتماع فى لندن بين الحسين وبيريز الذى كان آنذاك وزيرا للخارجية فى الحكومة الائتلافية وتم الاتفاق على عقد مؤتمر دولى من دون صلاحيات وغير قادر على فرض مبادئ أو حلول وعلى أن يقوم الأمين العام للأمم المتحدة بدعوة الدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن والأطراف المعنية مباشرة بالصراع العربى - الصهيونى إلى هذا المؤتمر. ويتم تمثيل الفلسطينيين عبر وفد أردنى - فلسطينى مشترك شريطة ألا يكون الفلسطينيون أعضاء فى منظمة التحرير الفلسطينية. لكن رئيس الوزراء الإسرائيلى آنذاك إسحاق شامير أجهض المشروع، إذ أعلم الأمريكيين بأنه لم تتم استشارته، الأمر الذى دفعهم إلى رفض تبنيه. ويتحدث بيريز عن التغيرات الدولية والإقليمية التى سبقت انعقاد مؤتمر مدريد فى نهاية أكتوبر 1991 ملخصا إياها بانهيار الاتحاد السوفيتى وانحسار أهمية كتلة دول عدم الانحياز وتفاقم الخلافات العربية نتيجة حرب الخليج الثانية، وأن هذه التغيرات أضعفت الجانب العربى، ويرى أن المفاوضات المتعددة الأطراف ضمن إطار صيغة مدريد تشكل تمهيدا لإقامة شرق أوسط جديد. وتحت عنوان «فجر جديد للسلام» يتحدث بيريز عن الاتصالات السرية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية فى مدينة أوسلو فى النرويج التى بدأت فى أوائل صيف 1993 وانتهت بتوقيع اتفاق أوسلو رسميا فى 13 سبتمبر 1993، وأن كلا من الرئيس مبارك ووزير خارجيته عمرو موسى ومدير مكتبه أسامة الباز كان مطلعا على هذه الاتصالات، وكان أهم سبب دفع إسرائيل إلى التفاوض مباشرة مع المنظمة هو اكتشافها - خلافا لتوقعاتها - تشدد الوفد الفلسطينى المفاوض فى واشنطن برئاسة حيدر عبدالشافى وأن هذا الوفد أصر على أن تكون القدس العربية ضمن نطاق سلطة الحكم الذاتى، وعلى تعهد إسرائيل بتجميد المستعمرات خلال المرحلة الانتقالية من كتاب الشرق الأوسط الجديد، هذا بينما لم يصر وفد المنظمة فى أوسلو برئاسة أبى العلاء على هذين المطلبين.