لسنوات طويلة لم يكن للفكر السلفى المتشدد ظهور قوى فى مصر، ولكن منذ السبعينيات شقت هذه الأفكار طريقها نحو الشارع، وتمكن حاملوها من فرضها فى بعض المناطق وخصوصًا الساحلية منها، وعلى الرغم من أن الأزهر وهو المؤسسة الأقدم والأعرق، يقدم خطابا وسطيا، فإن خطاب السلفيين هو الأكثر رواجا بين العامة، لأسباب لخصها المتخصصون فى أن الآلة الإعلامية تتيح لمثل هؤلاء أن يطلوا على العوام ويتحدثوا معهم وجهًا لوجه على مدار الساعة، ويقدموا آراءهم وحدها على أنها الحقيقة المطلقة، بينما لا يملك المشاهدون أى وسيلة للتدقيق والتمحيص، لأن لديهم ما يكفى من فقر وجهل وبطالة، للانشغال عن مثل هذه المسائل الفكرية. الدكتور محمد الشحات الجندي، عضو مجمع البحوث الإسلامية أرجع انتشار الأفكار السلفية وحجز مكان لنفسها داخل الساحة الدينية إلى عوامل متنوعة، منها الفقر والجهل والبطالة، والتشكيك فى آراء وفتاوى المؤسسات الدينية ورجالها. وأضاف الجندى أن رموز التيارات السلفية يتعاملون بأنفسهم فى القرى والنجوع والحواري، ويتحدثون مع الشباب للتعرف على مشاكلهم والعمل على حلها، بالأموال التى تأتى لهم من الخارج، ويستغلون ذلك للتدليس على الشباب وتشكيكهم فى رموز المؤسسات الدينية، ويصفونهم بأنهم «فقهاء السلطان». ونوه بأن الخطاب السلفى والإخوانى يحاول أن يستقطب الشاب سرًا، برصد أموال كبيرة لهذه المهمة، فهم يقولون للشباب «نحن نضمن لكم مستقبلكم إذا تعرضتم لأى مشكلة»، إضافة إلى أن الجماعات الإسلامية تغرى الشباب بوعدهم بالجنة لأنهم يصفون المجتمع بالجاهل وبناء عليه «إذا ما مت أيها الشاب فإن الله سيدخلك الجنة للدفاع عن شرعه فى أرضه». وأضاف الشحات أن من ضمن وسائل نشر قادة الجماعات الإسلامية لخطابهم أنهم يقولون للناس إن خطاب الأزهر والأوقاف هو خطاب السلطة الرسمى المعبر عنها لا عن المجتمع وقضاياه، معتبرًا أن هذه النقطة هى معضلة محورية فى ظهور الخطاب السلفى للنور، مستكملا حديثه: إن قيادات الجماعة السلفية يصفون رجال الأزهر بأنهم محامو السلطة، ويقولون للعامة نحن نريد نشر الدين الذى يعيد المجد مرة أخرى لمصر والعالم الإسلامي، مضيفًا أنهم يجيدون العزف على وتر البطالة، فهم يستغلون هذه النقطة فى وقت تمر مصر فيه بمرحلة عنق الزجاجة. وأضاف الشحات أن السلفيين وغيرهم من أصحاب الفكر المتشدد، يشككون فى شرعية الدولة، ويقولون للشباب إنه «لو كانت هذه الدولة مؤمنة لنصرها الله» مستدلين استدلالاً خاطئًا ببعض الآيات القرآنية منها: «ومن يتق الله يجعل له مخرجًا». وأشار إلى أن استمرارية الفساد تمثل عاملا كبيرا من عوامل نشر الأفكار السلفية، موضحًا أن المواطن العادى عندما يذهب لأى مؤسسة قومية ويجد بها الرشاوى والمحسوبية، تجد الأفكار السلفية طريقها إلى قلبه، فيؤمن بها بناءً على الشواهد التى رآها أمام عينيه. واعتبر الشحات أن من أسباب تغلغل الخطاب السلفى بمصر عدم وجود مشروع قومى يجمع وزارات: الثقافة والشباب والرياضة والأوقاف والإعلام والتربية والتعليم العالي، إضافة إلى مؤسسة الأزهر، فهم لا يجلسون بجوار بعضهم من أجل مناقشة مثل هذه الموضوعات المهمة، معتبرًا أن كل وزارة تعمل بمفردها لتستغل هذه الجماعات المتشددة فُرقة مؤسسات الدولة وتجد طريقها لبيت المواطن البسيط. ودعا الشحات مؤسسات الدولة إلى العمل كما تعمل رموز التيارات السلفية، من نزولهم لبيت المواطن الفقير، ومساعدته ومد يد العون إليه كى لا يترك فريسة لأموال الجماعات الدينية بسبب ضيق ذات اليد. وأوضح الشحات أن الخطاب الأزهرى هو منهج الإسلام الوسطي، وهو عقيدة أهل السنة والجماعة، الذى لا يعرف التشدد ولا الغلو، وأن هذا الخطاب الآن يسير بخطوات ثابتة لعدم ترك الساحة الدينية فارغة للجماعات الدينية، وذلك عن طريق القوافل التى يرسلها الأزهر للقرى على مستوى الجمهورية، إضافة إلى المناهج التى شرع الأزهر فى تعديلها بدءا بالمناهج الإعدادية، إلى جانب أن شيخ الأزهر أصبح يزور البلاد الأوروبية لنشر صحيح الدين. من ناحيته، رأى الدكتور جمال فاروق، عميد كلية الدعوة بجامعة الأزهر الشريف أن أسباب انتشار الأفكار السلفية هو استدعاء رموزها للإعلام وتصديرهم كأنهم القائمون على شأن العمل الدعوى بمصر. وطالب فاروق، وزارة الشباب والرياضة بأن تقيم معسكرات تدريبية للشباب للرد على شبهات وادعاءات الجماعات الإسلامية، حتى يتحصن شباب الوطن من الأفكار الهدامة التى تعمل على نسف مؤسسات الدولة. وقال فاروق: إن الأزهر يقيم حاليًا بما يسمى بورش عمل من أجل إنقاذ الشباب من الوقوع فريسة تحت أنياب الأفكار المتطرفة، وأن الجامعة الأزهرية تؤسس فى الجامع الأزهر دورات علمية للرد على الأفكار السلفية، بركن الرواق الأزهري. وطلب فاروق من المسئولين عن الإعلام أن يعطوا مساحة أكبر من المتاحة الآن للأزهريين، من أجل نشر خطابهم بدون تشويش أو نقصان، معتبرًا أن الإعلام عامل من عوامل متعددة فى تغلغل الخطاب السلفى فى مصر. ووصف فاروق الخطاب السلفى بأنه «ضيق» ولم يتمكن من السيطرة على البلاد فى مواجهة الخطاب الأزهري، مؤكدًا أنه ينتشر بين أتباعه فقط. أما الدكتور سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن ب«جامعة الأزهر» فرأى أن سبب انتشار الخطاب السلفى هو أن رجاله ينتقون بعض آراء العلماء ويصدرونها للعامة كأنها هى الدين، بدون ذكر الآراء الشرعية الأخري، مضيفًا أنهم مع ذكرهم للرأى الأحادى فى المسألة التى يتناولونها، فهم لا يذكرون اسم قائل هذا الرأى وينسبونه لأنفسهم. وطالب الهلالى المتصدرين للخطاب الدينى بتوثيق معلوماتهم التى يلقون بها إلى عقول العامة والبسطاء، كما طالب كل رجل دين بأن ينسب الرأى إلى أول قائل به، موضحًا أن طامة الخطاب الدينى الآن هى أن كل فرد يسرق أقوال العلماء ثم ينسبها لنفسه، دون توضيح لها كأنه يقدم نفسه متحدثًا رسميًا عن الإسلام، على الرغم من أن الله لم يفوض مخلوقا للتحدث بدينه أو بدين آخر، مستشهدًا بالآية الكريمة: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض»، كما أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى الحديث الذى رواه عنه الإمام أحمد فى مسنده: «من كتم علمًا ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة»، موكدًا أنه لا يجوز للدعاة التحدث ببعض الآراء ونسيان البعض الآخر، وهو ما يفعله بعض السلفيين الآن منوهًا أنه لو كان أصحاب الدين أمناء عليه، لما وجدنا أى إشكالية فى الخطاب الديني. وعن استقطاب الجماعات الإسلامية للشباب، قال الهلالي: «لابد أن نلاحق هؤلاء الشباب بالسؤال: ما هو مصدر المعلومة التى انسقتم وراءها؟ ومن قائلها؟ وهل يوجد قول غيرها يخالفه أو لا يوجد»؟ مؤكدا أنه ينبغى توعيتهم بأن من يتحدث برأى واحد فى الدين يخدعهم، لأنه يخفى أقوالا أخرى فى المسألة، وينسب القول لنفسه وكأنه هو المفتى الأول، علما بأن القول الذى سمعوه قال به عالم منذ ألف سنة، فمن باب الأمانة العلمية نسبة القول لأهله، مؤكدًا: «لو لاحقنا هؤلاء لأدخلناهم فى جحورهم لأنهم يتكلمون بقناعتهم الشخصية». واختتم الهلالى كلامه بأن الله أعطى لكل فرد جوهرة فكرية تسمى بالعقل يميز بها الأفكار الوسطية من الأفكار المتشددة، مستدلاً بحديث النبى صلى الله عليه وسلم: «استفت قلبك ولو أفتاك الناس»، وأنه فى النهاية كل إنسان متحمل مسئولية اختياراته أمام الله يوم القيامة، فالله عز وجل يقول: «وكل إنسان ألزمناه طائره فى عنقه»، فلن يحاسب أحد على أعمال أحد يوم القيامة، فيجب علينا التفكير قبل الاتباع، فالله يقول أيضًا فى كتابه الكريم: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزِّل إليهم ولعلهم يتفكرون».