ليست كل اللحوم سواء، فهناك ما يتناوله الأغنياء، مثل «الفليتو» و«البفتيك» و«الريب آى»، وهناك لحوم الغلابة التى يسمونها على سبيل الدلع «فواكه اللحوم»، ومنها الكوارع ولحمة الرأس والفشة. ولا تباع لحوم الغلابة فى الأسواق العادية، فلها أسواقها التى يرتادها الحالمون بالمرق من «ملح الأرض»، الذين لا يلتقون بلحوم الأثرياء حتى فى الخيال.. ومن هذه الأسواق سوق «المنيب» بمحافظة الجيزة، التى تحتكر التجارة فيها نساء لسن أقل بؤسا من المتسوقين. وتعمل فى السوق نحو 50 سيدة، يجلسن أرضا وأمامهن أوان «من الألومنيوم» وحولهن أدوات السلخ والتقطيع، ويؤكدن أن السوق لهن منذ 40 عاما. يحضر الفقراء منذ الصباح الباكر طمعا فى الفوز بأفضل المعروض، الزبائن من البسطاء فى أحياء القاهرةوالجيزة. منتجات السوق «الفشة والطحال والكوارع ولحمة الرأس والكبدة» والأسعار تبدأ من 8 جنيهات كحد أدنى إلى 25 جنيها كحد أقصى. تقول الحاجة أم على- كبيرة نساء سوق السقط بالمنيب: أعمل هنا منذ 40 عاما منذ إقامة السوق فى شارع «المدبح»، حصلت على لقب كبيرة السوق، وأتواجد منذ الصباح الباكر لشراء بواقى اللحوم من التجار القادمين لذبح الذبائح فى مذبح المنيب والجزارين. وتضيف أم داليا، إحدى البائعات: سوق المنيب بالجيزة هى السوق النسائية الأولى لبيع بواقى اللحوم، وأعمل هنا منذ 15 عامًا، وتشهد السوق إقبالاً كبيرًا منذ نحو 4 شهور من المواطنين والفقراء فى المقدمة من سكان المنيب وإمبابة ومصر القديمة، وآخرين من المحافظات، كما تشهد حالة من الازدحام الشديد حيث يزورها أكثر من 800 شخص يوميًا لشراء بواقى اللحوم، وقد تحولت إلى سوق نسائية فقط بسبب الظروف الصعبة التى مرت بها بعض الأسر، خاصة بعد الثورة. السيدات العاملات فى المهنة لديهن قصص إنسانية مأساوية، والمهنة سهلة ونحن ناجحات فيها لأن النساء أكثر مرونة فى التعامل من الرجال، إلا أننا لم نحقق شيئًا سوى أننا استطعنا فتح بيوتنا فقط ولم يتشرد أبناؤنا، والشغل للنساء «مش عيب»، فمعظم العاملين فى الشوارع فى أصعب المهن الآن نساء». وتؤكد أم داليا، أن فكرة السوق ناجحة لأن الأسعار معقولة، فكيلو «الكرشة» أحصل عليه من المذبح بمبلغ 8 جنيهات لبيعه فى السوق ب15 جنيها، أما «الفشة» فالكيلو الذى يتم شراؤه من الجزار ب9 جنيهات يباع للزبون ب17 جنيها، وهذه الأسعار خاصة بأيام المواسم فقط وتقل بنسبة 20% فى باقى الأيام، والزبائن يقومون بحجزها قبل أى موسم خاصة العيد بمدة لا تقل عن شهرين، حتى يتمكنوا من الحصول عليها قبل الموعد والذين يحضرون إلى السوق من أنحاء القاهرة الكبرى والمحافظات الأخرى خاصة الصعيد. وتقول روحية محمد: العمل فى السوق «بيزنس» للبيوت الفقيرة فنحن نحصل على السقط من الجزارين، الذين يتعاملون مع المجزر كل يوم على مدار الأسبوع، حيث تتعامل كل تاجرة سقط مع جزار معين منذ سنوات، وتحصل منه على «الفشة» و«الكرشة» و«العظام» أيضًا، ولا يتعجب أحد إذا علم أن «الكوارع» و«الممبار» أصبحت سلعا للأثرياء، حتى اللحوم السقط أصبح لها وضع آخر بعد ارتفاع أسعار اللحوم. وتشير روحية إلى أنها تستطيع جنى نحو 100 جنيه يوميًا من العمل فى السوق، فهى مهنة مربحة، ولا تتعامل فيها باليد فمعظم الوقت تتعامل بالساطور وأنواع السكاكين. وتضيف منال صالح: لا يوجد إشراف طبى على السوق لكن نحن حريصات على النظافة بأنفسنا، ويوجد قانون نسير عليه فى السوق ونحترمه رغم أن المنظم للسوق نساء، وهن ناجحات فى العمل لأن المصلحة واحدة، لا تتعدى أى سيدة على عمل الأخرى أو تأخذ أى زبون من معلمة أخرى فالتعامل قائم على الاحترام والتقدير حتى لا يطلق أحد علينا أننا ضعفاء، تعرضنا من قبل لهجمات شرسة من المسئولين ومحاولة ترحيلنا من هنا إلا أن تمسك المواطنين بنا هو الذى جعل لنا تاريخًا فى ذلك المكان يزيد عمره على 40 عاما. وهناك بعض النساء حصلن على قرض صغير من البنوك بمبلغ ألف جنيه لإقامة الفرش ونرحب بهن، فنحن لا نرفض دخول أى سيدة إلى السوق لأننا نعلم أن الظروف صعبة والتعامل فى المهنة ليس سهلاً، فمن الزبائن من يحضر حتى يشترى ربع كيلو فشة ويفاصل، إلا أننا نقدر ظروفهم وفى بعض الأحيان نعطيهم إضافات، وهناك شريحة من المقبلين على شراء بواقى اللحوم من أصحاب المحلات الصغيرة للحوم الحلويات لشراء الممبار والأرجل لطهى الكوارع وغيرها من مشتقات سقط اللحوم ويبيعون السندويتش بجنيه فقط. تقول الحاجة سعدية، ربة منزل، إحدى المترددات على السوق بشكل أسبوعى: أتواجد هنا للحصول على ما يتم وصفه فى حقيقة الأمر بأشباه اللحوم، لأنه على قد جيبى الفقير الذى أصبح يعاني، فالأسعار هنا رخيصة وتناسبنا، ولا أستطيع دخول أى محل به لحوم حمراء، فأسرتى مكونة من 5 أفراد لا يعلمون تماما طعم اللحوم الحمراء فهم يعلمون فقط أشباه اللحوم ويطلبونها دائمًا فهى أفضل وجبة إذا قمت بتحضيرها فهى وليمة ضخمة، ولجأت إلى سوق سقط اللحوم أو بواقى اللحوم بعد وفاة زوجى منذ 10 سنوات، وأتردد على السوق النسائية مرتين فى الأسبوع وأحمل فى كل مرة شنطة ضخمة من بواقى اللحوم لأقيم أكثر من وليمة لأبنائى فى الأسبوع، وفى بعض الأحيان أضعها فى الطبيخ لتعطيه الطعم الحقيقى للحمة، ولا نعلم لولا وجود مثل تلك السوق فى المنيب، فمن أين نحضر اللحوم، وما يميز النساء فى العمل هنا على «فروشات» البيع أنهن لديهن ظروفا مثلنا ويشعرن بنا ويضعن لنا كميات إضافية. وأشار الحاج أنور إسماعيل، أحد المترددين الدائمين على السوق، إلى أن معظم المترددين على السوق نساء أيضًا، إلا أننى أحضر للشراء بنفسى لأسرتى كل أربعة أيام، وأضع لها ميزانية تتراوح ما بين 15 إلى 20 جنيها، فإذا سألت عن سعر كيلو اللحوم الآن فى محلات الجزارين يصل إلى 150 جنيها، أى ميزانية منزلى فى الشهر كله، معى 3 أبناء، فلا أتذكر أننى اشتريت اللحمة الحمراء منذ خمس سنوات بسبب ظروفى فأنا بائع عصائر متجول فمن أين أحضر المال لشراء ما هو خارج عن إرادتى وقدرتي. ويؤكد محمود دياب، المتحدث باسم وزارة التموين، أن الرقابة على أسواق بواقى اللحوم فى الجيزة مستمرة من خلال حملات مباحث التموين بشكل عام يومي، ونصادر كل ما هو مخالف، وبالفعل نصادر كميات ضخمة بشكل يومي، ونحرص على متابعة كل ما يتم الإبلاغ عنه على الخط الساخن حرصا على أرواح المواطنين.