حدث أن غضب رئيس الدير على سبعة من الرهبان وأمر بطردهم. فلما بلغ الراهب المتوحد هذا الأمر وهو فى قلايته البعيدة أسرع مستنكراً ما حدث منه وخرج مع المطرودين وتطوع لخدمتهم وتخفيف آلامهم النفسية، وتوجه معهم إلى المقر البابوى وقص على الأنبا يؤنس البطريرك الأمر، وبعد التحقيق تأكد أنهم ظلموا فأمر بعودتهم إلى ديرهم وأثنى على أبونا مينا البراموسى المتوحد وكان أبونا مينا مشتاقًا لإعادة تعمير دير مار مينا فاستأذن غبطه البابا فى أمر إعادة تعميره بصحراء مريوط الذى يعد أكبر وأشهر أديرة مصر على مر التاريخ العالمى، ولكنه لم يحصل على الموافقة فى عام 1936 توجه أبونا مينا إلى جبل المقطم فى مصر القديمة بعد موافقة البابا يؤنس، وبينما هو يتجول بين طواحين الهواء المهجورة التى أنشأها جنود الحملة الفرنسية التى أراد أن يعمر أحداها ويسكنها ويتوحد بها سأله الخفير المنوط بحراستها عن نيته فلما أفصح عن قصده أخبره الخفير أن هذا ممنوع قطعياً لأى شخص ما لم يحصل على إذن من مدير المصلحة فذهب أبونا مينا فى اليوم التالى إلى مصلحة الآثار وكانت هناك صداقة قديمة تربطه بوكيلها حينذاك د. حسن فؤاد وما أن عرف بطلبه حتى كتب له خطاباً إلى الخفير يأمره فيه بأن يترك الراهب العابد يتخير الطاحونة التى يريدها ويقيم فيها وقد اختار أبونا مينا طاحونة لا سقف لها ولا باب وقد أعد وكيل مصلحة الآثار عقداً معه صونا له من المضايقات لإيجار طاحونة من الطواحين الذى أنشأها الفرنسيون أثناء الحملة الفرنسية فى مصر وساعده على إيجار الطاحونة التى يريدها، وذلك مقابل مبلغ ستة قروش سنويا، وأوصى مفتش الآثار بزيارته وأمر خفير المنطقة التابع لهيئة الآثار أن يقضى كل احتياجاته. فى ذات مرة هاجم اللصوص الطاحونة طمعاً فى سرقتها ظناً منهم أن الراهب لديه الكثير من المال والذهب يخبئه فى تلك الطاحونة، وأخذوا يفتشون فيها علهم يجدون ضالتهم المنشودة، إلا أنهم لم يجدوا بها سوى قطعة من الخيش يفترشها القديس لينام عليها، فقرروا الرحيل ولكن خوفاً من أن يتتبعهم الراهب قاموا بضربه على جبهته ضربة مميته أحدثت به جرحاً كبيراً ودخل فى شبه غيبوبة فما كان منه إلا أن دخل فى صلاة طويلة ناجى فيها ربه ليقوم بعد ذلك سليم ومعاف. تحكى المؤرخة إيريس حبيب المصرى تلك الواقعة فتقول: ومن الطريف أن أبونا مينا بعد أن سكن الطاحونة التى بلا باب أو سقف بعضاً من الوقت فوجئ ذات مساء بدخول ذئب إليه فرسم علامة الصليب المقدس عليه وسأله ماذا تريد يا مبارك؟ فجلس الذئب قابعاً عند قدميه وقضى ليلته معه وفى الصباح الباكر وبعد أن صلى ذهب وأعد لنفسه فنجاناً من القهوة فأخذ الذئب يشمشم فى الفنجان فابتسم القديس ابتسامة فهم منها ما يريده وقال: وأنت كمان عايز فنجان قهوة يا مبارك؟ وأعد له فنجاناً كبيراً شربه الذئب وذهب إلى حال سبيله، ومن ذلك اليوم تعود الذئب أن يأتى إليه فى المساء ويبيت معه ويشرب القهوة فى الفجر ثم يخرج وحدث أن كان فى زيارة القس مينا قريب لى اسمه جورجى إبراهيم وتأخر عنده إلى قرب الغروب وفيما هو خارج انزعج لرؤية ذئب يدخل الطاحونة فقال له أبونا مينا المتوحد: «هذا شريكى فى الطاحونة». بعد نياحة البابا يوساب الثانى تم اختيار الأنبا أثناسيوس مطران بنى سويف والبهنسا قائمقام بطريرك وكان المجمع المقدس يتكون وقتها من 21 مطراناً وأسقفاً هم: الأنبا أغابيوس مطران ديروط وصنبو وقسقام والأنبا ساويرس مطران المنيا والأنبا لوكاس مطران منفلوط وأبنوب والأنبا تيموثاوس مطران الدقهلية ودمياط والأنبا كيرلس مطران قنا وقوص والأنبا مرقس مطران أبو تيج وطهطا والأنبا ميخائيل مطران أسيوط والأنبا متاؤس مطران الشرقية والأنبا يؤنس مطران الخرطوم وجنوب السودان والأنبا كيرلس مطران البلينا والأنبا باخوميوس أسقف الدير المحرق والأنبا أرسانيوس أسقف دير الأنبا بولا والأنبا ثيؤوفيليس أسقف دير السريان والأنبا يؤنس مطران الجيزة والقليوبية وقويسنا والأنبا أبرآم مطران الأقصر وإسنا وأسوان والأنبا مكاريوس أسقف دير البراموس والأنبا بنيامين مطران المنوفية والأنبا آبرآم أسقف الفيوم والأنبا باسيليوس أسقف دير الأنبا بيشوى والأنبا أنطونيوس مطران سوهاج والمنشاة والأنبا بطرس مطران أخميم وساقلتة. واستمرت مناقشات الكنيسة ممثلة فى المجمع المقدس للكنيسة والمجلس الملى لمراجعة مسألة اختيار البطريرك، وكانت تدرس كل شروط ومواصفات والقوانين والنظم بكل عناية واهتمام وتباينت الآراء واختلفت الاتجاهات بين مؤيد ومعارض، ولكن كان نيافة الأنبا أثناسيوس مطران بنى سويف والبهنسا قائمقام بطريرك رجلاً محباً للكنيسة غيوراً عليها وكان أيضاً راعياً صالحا ورجلاً حكيماً وبحكمته المعهودة عالج الموقف ووضعت لائحة انتخاب البطريرك الجديد على أن يكون من الرهبان وله أكثر من 15 سنة راهباً وعمره فوق 40 عاماً ومشهود له بالتقوى والقداسة والورع وصدر القرار الجمهورى باتخاذ الإجراءات فى الترشيح والانتخاب ثم القرعة الهيكلية لتحديد الإنسان المختار لقيادة شعبه. كان ترتيب أبونا مينا البراموسى بين المترشحين لمنصب البابا هو السادس ومن المعروف أن اللجنة المشرفة على انتخابات البابا تختار أول خمسة مرشحين وتجرى بينهم الانتخابات لاختيار ثلاثة منهم تجرى بينهم القرعة الهيكلية، ولكن ما حدث أن المرشح الخامس اعتذر فجأة فتم وضع السادس بدلا منه وهو أبونا مينا البراموسى الذى لم يرشح نفسه من الأساس، ولكن رشحه القائمقام وقدم له تزكية بنفسه وقد اتصل الأنبا أثناسيوس بأبونا مينا المتوحد ليبلغه خبر الترشيح تليفونياً وجرت بينهم تلك المحادثة: الأنبا اثناسيوس: لماذا لم تقدم تذكية لترشيح نفسك يا أبونا مينا؟ فرد قائلاً: يا سيدنا حفظ الرب حياتك الرب يختار الراعى الصالح الذى يرعى شعبه ببر وطهارة قلب. الأنبا أثناسيوس: كان لا يجب ألا يفوتك هذا الواجب فرد: من أنا الدودة الصغيرة حتى أتطلع لهذه المهمة الخطيرة وأحمل هذه الأمانة العظمى التى تعطى لمن يختاره الرب وليس لمن يشاء أو يبغى. الأنبا أثناسيوس: لكن ما زلت انتظر منك الجواب لماذا لم تقدم تزكية وتترك الرب يدبر ما يشاء؟ أبونا مينا: يا سيدنا آبائى الرهبان كثيرون وتقدموا بتزكيتهم وكلهم أهل لهذا المنصب الخطير. الأنبا أثناسيوس: يا أبونا مينا أنا قدمت تزكية باسمك فى الوقت المناسب أبونا مينا: حفظ الرب حياتك يا سيدنا رايح يروح فين الصعلوك بين الملوك الأنبا أثناسيوس: الرب يرفع الفقير من المزبلة ويجلسه مع رؤساء شعبه أبونا مينا: دامت حياتكم يا سيدنا والرب يدبر. بعد أن اجتمعت لجنة الترشيحات لكافة التزكيات المقدمة وبعد عدة اجتماعات ومناقشات تم قبول كل من الآباء والقمص دميان المحرقى. والقمص تيموثاوس المحرقى. والقمص أنجليوس المحرقى. والقمص مينا أنطونى. والقمص مينا البراموسى المتوحد. وفى 3 مارس سنة 1959 م أصدرت لجنة الترشيحات والفرز لكافة التزكيات قراراً بتحديد يوم الجمعة 17 أبريل 1959 م لانتخاب ثلاثة من الرهبان الخمسة المرشحين للبطريركية وتمت الانتخابات فى موعدها المقرر وأسفرت عن فوز ثلاثة مرشحين هم بحسب الترتيب الأول: القمص دميان المحرقى وحصل على 324 صوتاً. الثانى: القمص أنجيليوس المحرقى وحصل على 319 صوتاً. الثالث: القمص مينا البراموسى المتوحد وحصل على 280 صوتاً وفى يوم الأحد الموافق 19 أبريل 1959 م تم إجراء القرعة الهيكلية فقام الشعب القبطى بجميع طوائفه والأساقفة بإقامة صلوات القداس الإلهى من أجل اختيار البابا البطريرك ووضعت أمام الهيكل أربعة ورقات فى مظروف كبير ثلاثة بها أسماء الآباء الثلاثة المرشحين والرابعة باسم السيد المسيح ثم ختم بالشمع الأحمر ووضع المظروف على المذبح المقدس وبعد انتهاء صلاة القداس قام الأنبا أثناسيوس قائمقام البطريرك بفتح المظروف أمام الشعب وأحبار الكنيسة واختير طفل صغير ليسحب ورقة واحدة وراقب الجميع فى سكون يد الطفل وهى تمتد داخل المظروف وأخرج ورقة فكانت باسم القمص مينا البراموسى المتوحد وهنا دقت أجراس الكنائس وهلل الشعب لاختيار هذا الآب الطوباوى المبارك الممتلئ من نعمة الروح القدس أبونا مينا ليكون الخليفة رقم 116 للقديس مارمرقس ويجلس على الكرسى الرسولى باسم «البابا كيرلس السادس».∎