هل هم ضحية مجتمع؟ أم أن المجتمع ضحية لهم؟ ولأفكارهم؟ وتصرفاتهم، وتقاليعهم، وشذوذهم؟ هل يمكن التساهل معهم، والتغافل عنهم، ونكرانهم؟ أم علينا مواجهتهم ومجابهتهم قبل أن تتحول الشرارة الصغيرة إلى خطر كبير يأكل الأخضر واليابس فى بلاد الأزهر الشريف.. ومدينة الألف مئذنة؟! نواجههم.. كيف؟ هل نواجههم بالقوانين التى تجرم «الإلحاد»؟ هل نكافحهم بمحاكم التفتيش ومشانق الشوارع كما جرى فى أوروبا فى العصور الوسطى؟ هل نكافحهم بالسجن؟! هل نحاورهم؟ ونتحدث إليهم؟ أم ننبذهم ونحتقرهم، ونقاطعهم؟ ما الذى علينا أن نفعله! تعال معنا النار الخفية تحت الرماد اشتعلت.. والنوايا المخفية فى القلوب أعلنت.. والملحدون - الذين خافوا لسنوات طويلة - أعلنوا عن وجودهم ومطالبهم فى بلد الأزهر الشريف ومدينة الألف مئذنة! تصدق هذا..؟ هل تصدق أن فى مصر 2 مليون شخص ينكرون وجود الله؟ التقديرات الإحصائية لمراكز دولية معتبرة منها «مركز تحالف الإلحاد الدولى» و«معهد جالوب الدولى» تشير إلى وجود 2 مليون شخص ينكرون وجود الله، وتقول «الواشنطن بوست» التى رسمت خريطة الإلحاد فى العالم أنهم يتجاوزن ال3٪ من المصريين، وتقدرهم بين 2 و4 ملايين شخص ينتشرون فى مقاهى وسط البلد، وميدان الكربة فى مصر الجديدة وكافيهات القاهرة الجديدة والإسكندرية.. والأهم أنهم متوفرون بقوة على الشبكة العنكبوتية. الظاهرة مقلقة بحق.. ولا سيما فى الأوساط الشبابية ويعرف حجمها كل من له اطلاع وممارسة فى العمل الفكرى والتنويرى. لم يعد «الملحدون» ومنكرو وجود الله يخشون أحدا، رغم أن الإلحاد فى مصر بنص القانون «جريمة».. ولم تعد نظرة الاحتقار الاجتماعى تعنيهم.. وهم الآن يطالبون بحقوق. تعددت أحوال الملحدين.. وتبدلت حالتهم نزعت «الثورة» قشرة الخوف عنهم، وظهروا وطفوا على السطح عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى والمبادرات الفكرية والشبابية بشكل يسترعى الانتباه ويدق أجراس خطر اجتماعى حول ظاهرة تهدد سلامة المجتمع وإيمانه.. وتنذر بعاصفة! على مقهى «الحرية» أحد مقاهى شارع البستان فى وسط البلد التقيت مع صديق لى مصطفى نعمان 25 عاما بكالوريوس سياحة وفنادق وقال لى «وجدت فى الإلحاد الحرية مفيش حساب من أحد ولا توجد آخرة نحن نعيش اليوم بيومه، ونقتنص سعادتنا، لأن اللحظة التى تمر لن تعود، ولا أعتقد أن هناك حسابا. وسألته: «وهل تصدق ذلك»؟ قال لى على الفور: «طبعا ومرتاح كده» واستدرك «على فكرة بابا وماما متدينين جدا، وهما عايشين فى الخليج، وأنا موجود مع تيتة أم والدتى».. وسألته هل تدعو رفاقك للإلحاد؟ وقال: أحيانا.. بين أصدقائى حين ندخل نقاشا، وأصحابى كثير ملحدين فى العمل، والمقهى لكن غالبا لا ننشغل بأحد إللى عاوز يصلى هو حر، وإللى ما بيصليش براحته ولا يمنع أن ننشر أفكارنا ونتبادل الرؤى على صفحات الفيس. وأحيانا ندخل فى حوار على النت مع المتدينين المتخلفين وأفكارهم الساذجة. ونظر لى نظرة «شفقة» وهو يحتسى كوب «البيرة» وتساءل: «إنت إيه رأيك»؟.. عموما بص حواليك وهتعرف إنى أنا صح. على المقهى كان هناك شباب وفتيات فى ملابس وتقاليع غريبة، كانوا يؤيدونه بقوة رغم أنهم يجلسون بعيدا عنا. ومن مقهى «الحرية» إلى مقهى «البستان» فى شارع هدى شعراوى مجموعة من الشباب والفتيات يتملقون حول سمير غطاس المفكر المتخصص فى الشأن الفلسطينى يتحدثون حول «تخلف خالد الجندى» و«حالة الاهتمام الإعلامى بالملحدين» ويعتقدون أنهم فى طريقهم لإثبات وجود قوى وفرض حقوقهم على المجتمع. سألت «م.م» وهى ناشطة سياسية ولا تخفى إنكارها وجود الله: هل لديكم تنظيم؟ ونفت مشيرة إلى وجود دعوات على الفيس بوك ومقالات وجروبات تنشر أفكارنا بالجدل والمناقشة، وللطرف الآخر الحق فى الاقتناع أو الرفض ونعتقد أن ذلك حقنا. وقال شاب يجلس إلى جوارها الإنسان ولد حرا ليعيش حرا وليس ليعيش عبدا لأحد حتى لو كان الله». وسألته.. عن رأى الأسرة وقال: أبى متوفى وأمى متزوجة من آخر، وإخوتى كل واحد عايش لنفسه، وأخرج سيجارة «حشيش» وأشعلها وأعطى «نفسا» لفتاة تجاوره.. وقال وهو ينفس دخان سيجارته «حلوة الحرية»! فى شارع الشريفين تنتشر مقاهى منطقة «البورصة» شباب وبنات يحتسون الشيشة ويضحكون بصوت عالٍ ويرتدون ملابسهم بتقاليعهم وإكسسوارتهم المبالغ فيها، فى الداخل فى ركن بعيد من المقهى كان شاب وفتاتان قدموا أنفسهم «صادق - ومرمر - وجاسمين» قالوا «نحب الحرية» وشاركنا فى الثورة، وهتفنا ضد مبارك والعسكر والإخوان وأصحابنا ماتوا، وتابع صادق «أعمل مبرمج كمبيوتر ومصمم برامج والدى دكتور أسنان وماما فى الخارجية ولدى 3 أخوات وأسرتى ميسورة وكنت زمان أصلى وأصوم وكنت أحب شيخى الشيخ موسى، وكان يبدو لى أنه تقيا، وورعا وصدمت فيه وبدأت أفكر هل الدين ده حقيقى ولا زى ما بيقولوا أفيون الشعوب وقرأت كثيرا.. ورئيت أن الإنسان حر، ولد حرا ويجب أن يبقى حرا بلا قيود.. وأن الكون طبيعى ومفيش حاجة اسمها ربنا والحكاية كلها خزعبلات.. ثم إذا كان الله موجودا فلماذا يرضى بكل هذا الظلم؟ ولماذا لا يساعد المؤمنين؟ ثم لماذا فقط البلاد المتدينة فى ذيل العالم.. يا عم فضك بقى!! الفتاة التى فى يمينه سألتنى فجأة «إنت مسلم ولا مسيحى» وقلت مسلم فقالت «إنت بتستفيد إيه من الصلاة والصوم وكبت الشهوات» فقلت أمتثل لأوامر الله فردت إنت شفته.. وماذا إذا لم يكن هناك الله فعلا؟ إحنا أخذناها من قصيرها وقلنا نستمتع بحياتنا إللى فى إيدينا وبعد كده يكون إللى يكون. ورغم كون بعضهم يعانى من ظروف اجتماعية خاصة، مثل ذلك الوحيد المحروم من والده ووالدته المشغولين فى الخليج، أو اليتيم الذى تزوجت أمه وانشغل أشقاؤه بحياتهم، لكن هناك أيضا الذى يعيش فى أسره ميسورة ووالده طبيب ووالدته موظفة فى وزارة سيادية.. ما يعنى أن الحالة الاجتماعية ليست سببا أساسيا فى الظاهرة. ويرجع الدكتور محمد سعفان أستاذ علم النفس الاجتماعى بجامعة الزقازيق تلك الظاهرة إلى خروج المجتمع من النقيض إلى النقيض بعد ثورة 25 يناير، بمعنى أن الخروج المفاجئ من الظلام إلى النور، ومن الكبت إلى الحرية يحدث بعض الخلخلة والهزات الاجتماعية التى تنتج بثورا اجتماعية فى جلد المجتمع، والإلحاد أحد هذه «البؤر» وهناك ظواهر أخرى كثيرة يمكن أن تلحظها، وذلك فضلا عن حالة الانتهازية السياسية التى مارسها «الإخوان» والتيارات الإسلامية. فضلا عن الخطاب الدينى المنفر - حسب تعبير د.محمد سلامة أستاذ علم النفس بجامعة حلوان - والتى تعتقد أن انتشاره بهذه السطحية والسذاجة والشبهات الفكرية وتردى الأحوال الاجتماعية والاقتصادية وغياب القدوة وتناقض الآراء الفقهية وتشابكها كلها عوامل أدت إلى فراغ نفسى قاتل لدى الشباب المتواجدين بكثرة على شبكة المعلومات، حيث يتم شحنهم بمثل تلك الأفكار. ويعتقد المستشار إيهاب الخولى المحامى رئيس حزب الغد السابق. والمنسق العام لجبهة التحالف الوطنى أن «الإلحاد فى مصر ظاهرة سلفية وإخوانية» وأرجع صعود وتنامى ظاهرة الإلحاد وإنكار وجود الله كرد فعل لصعود الإسلام السياسى المتشدد والانتهازى وقال «انتهازيتهم وجشعهم» خلق ردة فعل شعبية رافضة للدين ومنكرة لوجود الله. ولفت «الخولى» إلى أن معظم الشباب الذى ينكر وجود الله جاءوا من أسر متدينة، صحيح - حسب استدراكه - أن فيهم من يعانى من مشاكل اجتماعية وأسرية، وبعضهم يعانى من «صدمة فكرية» لكن ذلك لاينفى أن أكثرهم وألمعهم من أسر قوية ومستورة ومتدينة أيضا. وتعتقد ميرام رزق - 35 سنة مبرمجة كمبيوتر - وهى محجبة ومتدينة، أن الظاهرة طبيعية، ولاتستحق كل ذلك الخوف. ويتفق عونى معتمد - محاسب - فى الأمر مؤكدا على أهمية بناء القدوة. ومواجهة حالات التفكك الأسرى والحوار. وقال «ظهور هذا الأمر فى الإعلام أمر ضرورى وكتبه ليس فى مصلحة أحد وهى أفكار موجودة سواء شئنا أم أبينا. ويعترض عزت غبريال - موظف بمصلحة الضرائب - على ظهور الملحدين، وجرأتهم مشيرا إلى أنهم ينشرون أفكارهم الشاذة فى كل بيت، ويفتحون عيون أطفالنا على شذوذهم وتطرفهم وغرابتهم. فيما يدعو إسلام محسن - 36 سنة محاسب بشركة تسويق أدوية - إلى حوار يواجه تلك الأفكار. ويطالب عادل توفيق - موظف بالمعاش - بمواجهة ظاهرة الإلحاد بالقوة، ويقول «حرام ما يحدث لنا، ولمصلحة من نشر مثل تلك الأفكار فى بلد متدين»، مؤكدا «مصر قبل الأديان كانت متدينة ومعابد الفراعنة تشهد على ذلك». بقى أن مواقع التواصل الاجتماعى وجروبات الشباب تمتلئ بهؤلاء ومعظمهم - أو مر الآباء الروحيون لهم - مثقفون «قرأوا وينشرون مباحث هكسلى وكتاب أصل الأنواع ل «داروين» والسير ليل وديكارت وهوبس وهيوم وكانت.. وغيرهم. وهم يتحدثون عن نظريات قائمة على قانون الصدفة الشامل ويعرفون الإلحاد بأنه «الإيمان بأنه سبب الكون يتضمنه الكون فى ذاته، وأن ثمة لا شىء وراء هذا العالم. والغريب أنهم يؤكدون احترامهم للدستور. ويتحدثون ب «ضمان حرية الاعتقاد والتفكير» فى الدستور. ربما تكون الظاهرة مقلقة ومخيفة، لكن المهم أنهم يستحقون حوارا جادا، وعاقلا يحترم آراءهم ويناقشها.. وبالحسنى.. ألم يقل الله تعالى - الذى ينكرونه ونؤمن به - «وجادلهم بالتى هى أحسن».