تشهد الحياة السياسية العراقية ارتياحًا كبيرًا بعد انفراج الأزمة دامت لشهور وهى عدم التوافق على تسمية مرشحى الرئاسات الثلاث «البرلمان والحكومة ورئاسة الدولة» وجاء انتخاب سليم الجبورى رئيسًا للبرلمان وهو من المكون السنى «حسب المحاصصة الطائفية التى يسير عليها النظام العراقى منذ سقوط النظام ليفتح المجال أمام الحوار الجدى حول التوافق على منصب رئيس الوزراء بعدما حسمت رئاسة الدولة لصالح مرشح حزب الاتحاد الوطنى الكردستانى فؤاد معصوم، هذا المنصب الذى ظل حتى الساعات الأخيرة قبيل انعقاد جلسة النواب يحدث جدلاً ولغطًا كبيرًا . داخل الاتحاد الوطنى الكردستانى ولكن يبدو أن عودة الرئيس جلال طالبانى إلى العراق كان لها دور حاسم فى وضع النقاط على الحروف منذ عدة أشهر كان من أبرز المرشحين لتولى هذا الدور هو الدكتور نجم الدين كريم محافظ كركوك الحالى والمستشار الطبى للرئيس جلال طالبانى وهو من كبار الأطباء المعروفين فى العراق وعاش فى الولاياتالمتحدة سنوات عديدة ويتمتع باحترام أهالى كركوك جميعًا رغم تباينهم قوميًا ومذهبيًا. وفى الأسبوع الماضى كان هو الأوفر حظًا بالحصول على هذا المنصب إذ لم يكن ينافسه سوى الدكتور برهم صالح رئيس حكومة كردستان السابق والذى شغل العديد من المناصب فى الحكومة المركزية فى بغداد منها وزارة التخطيط فى حكومة الدكتور إياد علاوى وفى حكومة الدكتور إبراهيم الجعفرى وفى حكومة نورى المالكى الأولى خلال عام 2006-,.2009 ود. برهم صالح سياسى متمرس وهو بالأساس يحمل درجة الدكتوراه فى الهندسة فى أمريكا وتولى المسئولية السياسية وهو فى الثلاثين من عمره كرئيس للحكومة فى محافظة السليمانية وقد استطاع أن يقدم نفسه للعراقيين وللغرب كسياسى وطنى ليبرالى. وهو سياسى طموح ولديه علاقات عراقية ودولية واسعة لكن كانت المشكلة تكمن فى عدم رضاء العديد من أعضاء المكتب السياسى للاتحاد الوطنى عنه ولم يحظ بدعم أعضاء الحزب إلا أنه رغم ذلك تقدم بأوراق ترشحه لمنصب الرئيس ولم يسحب أوراقه إلا فى جلسة الاقتراع على اختيار الدكتور فؤاد معصوم.
والحقيقة أنه وحتى أسبوع واحد من اختيار الاتحاد الوطنى لمرشحه لهذا المنصب الرفيع كان هناك شبه إجماع على فرصة الدكتور برهم هى الأكبر للفوز وعلى ما يبدو كانت هناك تخوفات داخل الاتحاد من أن يؤدى التنافس بين الدكتور نجم الدين والدكتور برهم إلى حدوث شرخ كبير داخل الاتحاد الوطنى الذى لايزال يعانى من بعض المشكلات خلال السنة الأخيرة خصوصًا بعد غياب أمينه العام جلال طالبانى ولم يكن أمام الاتحاد للخروج من تلك المشكلة إلا طرح اسم الدكتور فؤاد معصوم والسيد عدنان المفتى كمرشحين بديلين إلا أن فرص الأخير يبدو أنها كانت محدودة ومن ثم أصبحت المنافسة بين الدكتور نجم الدين وبرهم صالح والدكتور فؤاد معصوم وقبل جلسة البرلمان للاقتراع تم استبعاد الدكتور نجم الدين من حسابات الاتحاد وجرى الاقتراح داخل الكتلة البرلمانية الكردستانية على اسمى معصوم وصالح لاختيار أحدهما، وحتى الساعات الأخيرة كانت كل الدلائل تشير إلى فوز برهم صالح لثقة النواب الكرد إلا أن المفاجأة تمثلت فى التوافق على الدكتور فؤاد ليكون المرشح الكردى لرئاسة العراق.
والدكتور فؤاد معصوم خبر المناصب القيادية منذ فترة طويلة وهو أحد الأعضاء المؤسسين للاتحاد الوطنى فى عام 1975 وترأس حكومة السليمانية الأولى فى التسعينيات ثم المجلس الوطنى العراقى الذى خلف مجلس الحكم عام 2004 وكان نائبه حينذاك نائب رئيس الوزراء الحالى نورى المالكى الذى تربطه به علاقة عمل قديمة إذ كان معصوم المشرف على رسالة المالكية للماچستير من جامعة صلاح الدين قبل عقدين من الزمن كما أصبح معصوم رئيسًا مؤقتًا للبرلمان العراقى عام 2010 إذا أشرف على انتخاب رئيس البرلمان السابق أسامة النجينى والدكتور فؤاد معصوم عاش لفترة فى القاهرة ممثلا للاتحاد الوطنى عام 1973 وله علاقات عربية ويتمتع بخبرة سياسية طويلة.
وانتخاب رئيس البرلمان وكذلك رئيس الجمهورية كسر الجمود السياسى الذى عاشته الساحة العراقية لعدة أشهر ولم يبق سوى المعضلة الكبرى وهى تسمية رئيس الحكومة وربما الأيام القادمة تنطوى على قرارات مصيرية من جانب عدد من الأحزاب وخاصة الشيعة فى الرفض التام لتولى رئيس الحكومة الحالية نورى المالكى لدورة ثالثة خاصة بعد إعلان الكرد النهائى برفضهم التام الشراكة فى حكومة يترأسها المالكى الذى مازال حتى اللحظة الراهنة يصر وبعناد لا مثيل له البقاء فى السلطة رغم الدمار الذى حل بالعراق منذ توليه المسئولية.
على أى حال فإن المشهد الأخير من التراجيديا العراقية يقترب من النهاية خاصة فيما يتعلق بالحكومة الجديدة ودليلنا على ذلك الموقف الذى تعرض له المالكى وحزب الدعوة أثناء جلسة اختيار رئيس البرلمان ونائبيه فى الأسبوع الماضى حيث أصر النائب أحمد الجلبى أحد المتنافسين من كتلة المواطن على رئاسة الحكومة على خروج نورى المالكى من الجلسة بل وقام بترشيح نفسه نائب أول لرئيس البرلمان لا لشىء إلا ليسقط مرشح حزب الدعوة لهذا المنصب وتحقق له ما أراد وأوصل الرسالة للمالكى مع أنه عاد وتنازل عن المنصب ليكشف للمالكى أن خصومه يستطيعون تعطيل أى اتفاق ثانوى ومبرزا ثقل ائتلافه العددى داخل البرلمان.
من جانبها كشفت كتلة المواطن التى يتزعمها عمار الحكيم عن تقديم الائتلاف الوطنى ثلاثة مرشحين لشغل منصب رئيس الوزراء مقابل ثلاثة من دولة القانون لخلافة المالكى الذى بات خارج الحسابات بعد أن أصبح التغيير واقعًا لا محالة من وجهة نظر كتلة المواطن.
فى حين أعلنت كتلة الأحرار بقيادة مقتدى الصدر رفضها التام لاستمرار المالكى رئيسًا للحكومة معتبرة أنه على الرغم من الجمود الذى أصاب اجتماعات التحالف الوطنى الذى يضم غالبية الأحزاب الشيعية إلا أن تغيير المالكى أصبح أمرًا واقعيًا وسيتم طرح بديل له بهدوء وعقلانية من داخل ائتلاف دولة القانون شريطة ألا يحصل ائتلاف المالكى على مناصب أخرى سوى منصب النائب الأول لرئيس البرلمان وقد أبلغ التيار الصدرى المجلس الأعلى الإسلامى بضرورة طرح مرشح توافقى على الكتل الأخرى للنقاش إلا أنه حتى اللحظة لم يتلق ردًا إيجابيًا من الحكيم حتى الآن الذى مازال ينتظر ردًا من ائتلاف دولة القانون لطرح مرشح توافقى سواء من داخل دولة القانون أو من غيرها لإنهاء الوضع المتجمد فى البلاد خاصة فى الكثير من النواحى الاقتصادية والمالية فالعاملون والموظفون بالدولة العراقية لم يتقاضوا أجورهم الشهرية منذ مارس الماضى بسبب الاعتراضات على ميزانية المالكى ورفض البرلمان التصديق عليها أكثر من مرة الوضع الذى سبب كثيرًا من المعاناة المعيشية والركود الاقتصادى فى العراق كله باستثناء إقليم كردستان الذى قرر صرف الرواتب المتأخرة للموظفين من ثلاثة أشهر من خلال عائدات النفط التى يتم تصديرها من قبل الإقليم خاصة مع رفض الحكومة المركزية صرف مستحقات الإقليم وهى 17٪ من ميزانية العراق.
ويبدو أن المالكى مازال مصرًا على البقاء فى منصبه رغم فشله فى إدارة شئون البلاد وعلى مختلف الأصعدة الأمنية والخدمية فضلا عن فشله فى الحفاظ على سيادة البلاد واستقلالها والمالكى الذى يتمسك بهذا المنصب يقف وراءه ائتلاف دولة القانون الذى فاز (92) مقعدًا فى البرلمان وهذه المقاعد لا تؤهله لتشكيل الحكومة إذ أنه يحتاج إلى 165 صوتًا من إجمالى عدد أعضاء البرلمان. ويواجه المالكى التحالف الوطنى الذى يصر على اتباع آلية التوافق وشرط المقبولية فى حين يصر المالكى وائتلافه على اتباع آلية التصويت بين أكثر من مرشح داخل الائتلاف الوطنى ومن يحصل على أعلى الأصوات يفوز برئاسة الحكومة ومن بين المرشحين المحتملين أحمد الجلبى وعادل عبدالهدى.
ومن المحتمل أن لا تحل مشكلة المالكى إلا بهذه الطريقة والاحتكام إلى البرلمان وطرح كافة المرشحين للاقتراح على أحدهم وربما يبقى للمالكى أمل لكنه محدود خاصة بعد رفض غالبية المكونات العراقية بقاءه.
وتواجه حكومة كردستان مشكلة أخرى فى صرف الرواتب بالدينار العراقى الذى بات غير متوفر لدى كردستان ومن ثم قررت صرف الرواتب بالدولار الأمريكى بداية من هذا الشهر على الرغم من الشكوك التى قد يثيرها مثل اتخاذ هذا القرار والحديث الدائر حول نية الإقليم فى إجراء الاستفتاء على تقرير المصير ومن ثم إعلان الدولة إلا أن محللين يرون أن الكرد ينتظرون ما تسفر عنه الأوضاع السياسية والأمنية فى العراق خلال المرحلة المقبلة خاصة بعد تمدد داعش وصمت العشائر السنية عن تصرفاتها المخزية تجاه الأقليات العراقية التى تعيش فى مناطق الموصل مثل المسيحيين والشيك اليزيديين والتركمان ومحاولة تهجيرهم من غرب العراق وإذا نجحت داعش فى البقاء فإن المؤكد أن الكرد سيعلنون استقلالهم بصرف النظر عن التهديد الإيرانى ومخاوف الجامعة العربية.
وللأسف فإن ما ترتكبه عصابات داعش فى الغرب العراقى شىء يندى له الجبين والأكثر مأساوية الصمت العربى والدولى المخزى تجاه التهجير القسرى وسلب الممتلكات وإحراق الكنائس الآشورية والكلدانية وكل ما يربط الأشوريين بأرض أجدادهم بينما يسمح لفئة باغية لا تعرف سوى القتل والحرق والتدمير والتخريب وسلب الأموال متمسحين بالإسلام وهو منهم برىء والموصل التى ظلت لآلاف السنين مدينة للتعايش السلمى بين كافة مكوناتها وتعتبر أكثر المدن التى تتمتع بالتنوع الدينى والقومى إذ تتواجد فى المدينة القوميات العربية والتركمانية والأشورية والكلدانية والسريانية والأرمينية والكاكائية والايزدية والصامتية والمشبكية.
وعلى صعيد الأحداث فى بعض المناطق التى سيطرت عليها داعش فإن هناك أنباء عن أن العديد من العشائر السنية بدأت فى مواجهة داعش فى مناطق ديالى وصلاح الدين وغرب كركوك وهم مصرون على إبعادهم عن ديارهم بالتعاون والتنسيق مع الجيش العراقى الذى بدأ فى إعادة سيطرته على بعض المناطق وقتل العديد من أعضاء التنظيم الإرهابى.