أثار قرار رئيس إقليم كردستان (مسعود برزانى) بتشكيل لجنة للتحضير للاستفتاء على حق تقرير المصير ردود فعل إقليمية ودولية متباينة، خاصة فى ظل ما تشهده الساحة السياسية العراقية من تتابع الأحداث.. ففى الوقت الذى فشلت فيه القوى السياسية العراقية حتى اللحظة فى تسمية رئيس حكومة ورئيس برلمان ورئيس للدولة أخذت الدولة الإسلامية تتمدد على الأراضى العراقية وباتت تهيمن على أغلب محافظات ومدن المثلث السنى وأزالت الحدود الفاصلة بن غرب العراق وشرق سوريا ولم يكن أحد داخل الحكومة العراقية يتصور فى وقت قريب أن الجيش العراقى لا يمكنه صد هجوم داعش التى لا يزيد عدد مقاتليها على خمسة آلاف مقاتل فى كل ربوع العراق حتى وإن كان هناك الآلاف من المتضامنين معها من مسلحى العشائر الذين أضيروا خلال السنوات الماضية من ديكتاتورية رئيس الوزراء نورى المالكى وإجحافه بحقوق المناطق التى يسكنها العرب السنة. اليوم يكون قد مر شهر كامل على سيطرة الدولة الإسلامية على محافظات نينوى وصلاح الدين وتكريت وأجزاء كبيرة من ديالى، وفى ظل رفض أوباما للتدخل العسكرى مرة أخرى فى العراق والاكتفاء بتقديم الدعم من خلال مستشاريه أخذت الأوضاع تتفاقم بشكل خطير من الناحية الإنسانية والاقتصادية لأكثر من نصف مليون عراقى تركوا منازلهم فنزحوا إلى المناطق الكردية الأكثر أمانا بالنسبة لهم وربما تشهد الأسابيع القادمة صحوة من قبل العرب السنة لمواجهة الدولة الإسلامية التى بدأت باعتقال شركاء النضال بالأمس ألا وهم ضباط ومقاتلو الجيش العراقى السابق الذين ساعدوا داعش كثيرا للسيطرة على مدنهم، ولكن هناك حالة الآن من الشك وعدم الارتياح تسود العلاقة بين مقاتلى الدولة الإسلامية ومؤيديها والمتعاطفين معها من المسلحين السنة بسبب الممارسات التى تمارسها داعش على الأرض.
على أية حال ربما يشهد العراق انفراجا لأزمته السياسية خلال الأسابيع القادمة فهناك ضغوط من داخل البيت الشيعى على رئيس الحكومة نورى المالكى لإثنائه عن تمسكه بولاية ثالثة والرفض يأتى من قوى كبيرة لها وزنها وتأثيرها داخل البيت الشيعى وفى مقدمتها التيار الصدرى والمجلس الأعلى، هذا بالإضافة إلى رفض التحالف الكردستانى الشراكة فى حكومة يرأسها المالكى هذا بالإضافة إلى أن هناك تأكيدات أمريكية على وجوب أن تكون الحكومة القادمة فى العراق ممثلة لكل طوائف الشعب العراقى ودلالة هذا أن أمريكا ليست مع بقاء المالكى فى السلطة أكثر من ذلك وربما يكون هناك اتفاق أمريكى إيرانى فى هذا الاتجاه.
إلا أن إعلان برزانى بالاستفتاء على تقرير المصير فى ذلك الوضع الراهن والمتأزم فى العراق حمل فى طياته أكثر من دلالة وهى أنه صحيح أن الكرد دوما يقولون أن حلم الدولة ليس مستحيلا والآن يرون العراق على حافة الهاوية وبات تقسيمه هو الأقرب من بقائه تعدديا موحدا.. إلا أن عددا من المحللين رأوا أن إعلان حق تقرير المصير من جانب الكرد ما هو إلا ورقة ضغط على بغداد للرضوخ لكل المطالب الكردية ومنها تفعيل المادة 140 من الدستور العراقى والخاصة بالاستفتاء فى المناطق المتنازع عليها إلى جانب الحصول على أكبر عدد من الحقائب الوزارية فى الحكومة القادمة وإيجاد حل نهائى وبات فى قضية بيع النفط الكردى دون موافقة بغداد.
فى حين يرى ساسة أكراد أن حق تقرير المصير لا تراجع عنه ليس له علاقة بتسمية رئيس الجمهورية أو تفعيل المادة 140 من الدستور ويربطون ذلك بأن هناك مطالب من غالبية الشعب الكردى بالاستقلال عن العراق الذى يرونه مقسما من الناحية الواقعية.
التصريحات الرسمية الأمريكية بتفضيلها بقاء العراق موحدا ربما جاءت ردا أعلى التصرفات التركية التى أعلنت من الناحية الرسمية أنها ترفض تقسيم العراق إلا أنها حال فشل ساسة العراق فى لم شمل العراقيين فإنها تؤيد قيام دولة كردية فى شمال العراق وأبلغت أمريكا بموقفها.
والحقيقة أن تركيا تنظر إلى مصالحها الاقتصادية فى المقام الأول، فإقليم كردستان يعد الفرخة التى تبيض ذهبا لتركيا إذ يبلغ حجم التجارة التركية مع الإقليم 9 مليارات دولار، هذا بخلاف المستقبل والذى تسعى فيه تركيا إلى أن تكون المنفذ الوحيد لتصدير النفط الكردى من خلال ميناء جيهان، كما أن هناك مصلحة استراتيجية لتركيا إذ إن وجود دولة كردية تفصلها عن بقية العراق والبلدان العربية التى تعانى من الإرهاب يعد حائط صد طبيعيا لها.
إلا أن الرد المصرى وعلى لسان الرئيس عبدالفتاح السيسى بقوله أن الاستفتاء الذى يطالب به حاليا الأكراد ما هو فى واقع الأمر إلا بداية لتقسيم العراق إلى دويلات متناحرة تبدأ بدولة كردية تتسع بعد ذلك لتشمل أراضى فى سوريا وأخرى فى الأردن يعيش عليها أكراد.
وجاء الرد الإيرانى ليحمل تهديدا مباشرا للكرد، حيث قال مساعد وزير الخارجية الإيرانية إن فتنة تقسيم العراق مخطط صهيونى مشيرا إلى أن إيران لن تسمح أبدا بتحقيق أحلام نتنياهو فى هذا المجال، بينما الحديث عن استقلال كردستان العراق سيكون نتيجة عودة كردستان إلى ما قبل عدة عقود.
وربما كان الرد الإيرانى محفزا لنورى المالكى الذى لم يقدم أى تفسيرات لما حدث فى مواجهة داعش من قبل جيشه بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة سوى تخاذل أو تآمر بعض كبار الضباط وكأنه يجهل تماما ما يجرى فى الموصل منذ ما يزيد عن العام ونصف رغم التحذيرات التى وصلته من العديد من دول العالم تحذره من داعش، لكنه تعامل معها بلا مبالاة وترك الأمور تتطور إلى أن وقعت الكارثة ومن بين الذين حذروه الأكراد. إلا أن المالكى يرى أن الأكراد وبالتحديد مسعود برزانى يقفون من وراء كل ما يحدث فى المحافظات السنية.
وقال تحديدا.. أربيل (عاصمة إقليم كردستان) هى التى تأوى الإرهابيين والقاعدة والبعثيين ولا يمكن أن نسكت أن تكون أربيل مقرا لعمليات البعث وداعش والقاعدة وموجها كلامه لمسعود برزانى (إن أى حركة استغلت الظروف التى يمر بها العراق وتمددت) يقصد سيطرة الكرد على كركوك والعديد من المناطق المتنازع عليها عليهم أن يعودوا من حيث أتوا) وتابع (سيخسرون وسيخسر مضيفهم لأنه لم يقدم نموذجا للشراكة الوطنية وقد انكشفت الأمور بعد الأحداث الأخيرة، ومن يقف إلى جانب الإرهابيين قد انكشف ومن يتحدث بلغة الطائفية متآمر ويجب أن يرد مهما كان منصبه أو شأنه.
المؤسف أن المالكى يتجاهل الأوضاع فى العراق ولا يدرك أنه سبب كل ما يعانيه العراق الآن من احتراب طائفى وهو هكذا بالفعل فإخفاء الحقائق والتعتيم عليها لا يعنى بحال من الأحوال عدم وجودها والتهوين أو التهويل مما يحدث خلال العامين الأخيرين على الأقل من محاصرة مدن مثل الرمادى والفلوجة ورميها بالصواريخ والمدفعية الثقيلة وقذفها بالطيران، ما هى إلا حقائق لا يستطيع المالكى أو غيره إخفاءها وربما كانت أحداث الفلوجة والرمادى الوقود الذى استخدمته داعش حيث وجدت أرضا خصبة مهيأة لقيادة صراع مسلح مع حكومة المالكى، ولهذا فإن من أبرز الأخطاء التى وقعت فيها الجماعات والقوى الاجتماعية والتيارات السياسية وشباب العشائر المسلحين هو تأييدهم ودعمهم ومساندتهم ومشاركتهم لداعش. فهم بذلك شرعوا فى تأييدها كطليعة لثورة عرقية سنية من العراق وبطريقة عاطفية منحوا داعش شهادة حسن السلوك الثورى وقدموا خدمة كبرى لداعش التى بدأت الآن تصفيتهم جسديا واعتقالهم خوفا من انقلابهم عليها وهو ما سيحدث عاجلا أم آجلا.