شباب مجتهد احترم ذكاء الجمهور ووعى وثقافة المتلقى.. وابتعد عن المباشرة والعظة والخطابة ونجح فى تقديم فيلم متعدد القراءات بعد سلسلة من اللطمات الموجعة متمثلة فى أفلام: «سالم أبو أخته»، «ظرف صحى»، «مراتى وزوجتى» و«جيران السعد» كنت فى طريقى لمشاهدة فيلم «الدساس» فاستشعرت نظرة الإشفاق فى عيون أصدقائى وكأنهم يقولون : «ألا يكفيك ما حدث من قبل أم أنك فى حاجة إلى لطمة جديدة ؟». أصبت بالإحباط لكننى لم أملك رفاهية الرفض، وشاهدت «الدساس» مدفوعاً برغبة خفية فى التعرف إلى الفيلم الذى قالت حملة دعايته إنه أول فيلم رعب كوميدى فى السينما المصرية، ولأنه يحمل عنواناً عجيباً، والدافع الثالث رغبتى فى الوقوف على شكل وجوهر التجربة. وكانت المفاجأة المدهشة أن خابت ظنونى بعد ما وجدتنى أمام عمل يستحق التفاتة نظراً لجدته وجديته وإثارته، وجدير بأن ننوه ونحتفى بالفريق الشاب الذى أنجزه. مزية فيلم «الدساس» أنه متعدد القراءات؛ فمن يريد أن ينظر إليه بوصفه فيلم رعب كوميدى يستطيع، ومن يرى أنه يمزج الخرافة بالواقع فمن حقه، ومن يلجأ إلى تفسير بعض مشاهده وحواراته بوصفها إسقاطات على وقائع تاريخية محددة، ومواقف سياسية بعينها، فإن له مطلق الحرية، إذ إن الأمر الذى لا جدال فيه أن «الدساس» هو المقابل المرئى لحسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين والمرشد الأول للجماعة، التى تنازعت السلطة مع الجيش، ودخلت مع قادته فى مواجهات دموية، كما فعل «حسن الدساس» - تامر كرم - عندما استخدم الخديعة ضد الضابط الكبير «حسين الهراوى»، ونكل بأفراد عائلته، واستولى على ممتلكاتهم، وشيد مدفناً للعائلة يزوره يوم 6 أبريل من كل عام (فى إسقاط على حركة 6 أبريل التى يراها الفيلم مشئومة!) رغبة منه فى الاطمئنان على موتها الأبدى، وهى الخرافة التى نجح الفيلم فى مزجها بالواقع، وحبك تفاصيلها بدرجة لا تخلو من متعة وإثارة ورقى، فالقول أن الفيلم يحكى التاريخ الأسود ل «حسن الدساس»، كما قالت الدعاية، يدفع المشاهد للتمعن فى قراءة العبارة، ودراسة جوانب وتفاصيل كثيرة فى الفيلم تدعم الشعور بأننا حيال إسقاط واضح على «البنا» على رأسها المشهد العابر الذى يُشير فيه المخرج إلى شاشة تليفزيون تعرض فيلماً وثائقياً نعرف من مقاطعه الصوتية أنه يُلقى الضوء على حية غير سامة تُدعى «الدساس» كونها تندس تحت التراب والصخور فى المناطق الرملية، وتغطى جسمها قشور صغيرة ناعمة ما يجعل منظرها لامعاً، ويساعدها على الاندساس، بينما تقع عيناها وأنفها فى أعلى الرأس لتستطيع إخراجهم لتترقب فرائسها، ومتى رأتها انقضت عليها وعصرتها حتى الموت ثم تبتلعها بادئةً من الرأس لكن المخرج هانى حمدى والكاتب هشام يحيى، وهما صاحبا فكرة الفيلم، يمرران المعلومة بسلاسة، ومن دون مباشرة، ويتركان للمتلقى الواعى مهمة التقاطها وتوظيفها، حسب مجريات الأحداث، ومع ظهور «حسن الدساس» نتأكد أنه الأقرب، فى تكوينه وشخصيته، إلى الحية التى تندس ثم تنقض على الفريسة، وتعصرها حتى الموت، تدعمه فى هذا الصراع بطانة أو «جماعة» شبهها الفيلم بالأحياء الموتى «الزومبى» فى إيحاء بأنهم خارج سياق التاريخ، وزيادة فى تأكيد المعنى ذهب الفيلم إلى القول بأن الخلاص من «حسن الدساس» لن يكون بغير الدم، والحصار حتى الموت، عبر تلاوة التعويذة فى وجهه (ياللى أخدت البيت بالدم حتخرج منه بدم الدم .. ارحل .. انت وأبوك أحفاد إبليس) وبعدها تُشرق الشمس، ويطلع النهار، لكن الفيلم قدم تعويذة أوصى من خلالها بأن يحفظ الأحفاد العهد، ويحرصوا على لم الشمل كسبيل للقضاء على «الدساس» وأعوانه، وضمان استمرار بقاء عائلة «الهراوى» على قيد الحياة، خصوصاً بعد ما تبين أن الشباب الذى دخل المواجهة ضد «الدساس» هم أحفاد «الهراوى»، وأن اختيارهم للاشتراك فى البرنامج الذى تم الإعلان عنه كان متعمداً للتخلص منهم، وإبادة آخر نسل للعائلة التى دافع كبيرها «حسين الهراوى» عن حقوق الفلاحين وجاء «حسن الدساس» ليهدرها، وبالغ فى إذلالهم واحتقارهم، ولما شعر بأنه فى حاجة إلى الشعب الفقير لم يتوان عن شرائه بالزيت والأرز (مشهد صريح فى الفيلم يُشير إلى هذا)، فالفيلم يلمح لكن تلميحاته فيها إيحاءات لا تغيب عن المشاهد الفطن! الكوميديا والرعب تبدأ أحداث فيلم «الدساس» فى ليلة حالكة، حيث تُفاجأ فتاة حسناء بعطل أصاب سيارتها فى منطقة نائية، وكالعادة فى مثل هذه الأحوال تبحث عمن يساعدها وينتشلها من محنتها، وتلجأ إلى قصر يبدو مهجوراً، وقبل أن ترتسم علامات الدهشة على وجهها، وهى تتجول فى داخله، ينتهى الأمر بمقتلها وهى بداية مثيرة، ومتوقعة، فى مثل هذه النوعية من الأفلام، لكنها لا تمنح المتلقى الثقة المطلقة فيما هو آت من أحداث، خصوصاً أن السينما المصرية كثيراً ما تعد لكنها لا تفى، وهو ما كاد يحدث مع البداية التقليدية التى رصدت الكاميرا خلالها معالم حارة شعبية يتصدرها بيت «تحت التنكيس»، ويتعاطى شبابها مخدرات تحمل اسم «نسيانك صعب أكيد»، وتتوقف عند ضابط شرطة يُدبر حيلة للقبض على مروج للمخدرات، لكن الأخير يستقل «التوك توك» ويهرب غير أن المخرج، وكاتب السيناريو والحوار، لم يتركا الجمهور نهباً للبداية التقليدية، بل قدما إشارات تبعث على التفاؤل، على رأسها أن الضابط يُدعى «محسن محسن ممتاز» - ثروت سعيد - وأنه نجل «محسن ممتاز» رجل الاستخبارات العتيد فى المسلسل الشهير «رأفت الهجان»، كما أن المجرم الهارب هو الذى يوقع بالضابط الذى يُطارده، وليس العكس حسبما جرت العادة، وهو ما يعنى اعتماد صانعى الفيلم على شكل من أشكال المحاكاة الساخرة للأعمال الفنية الشهيرة أو ما اصطلح على تسميته ال Sp00f Movie .Parody? وأشهرها فيلم scary movie التى لا تخلو من تهكمات ومفارقات كوميدية طريفة بدأت بمشهد الرعب الذى يجتاح رواد مركز كمال الأجسام، من أصحاب العضلات المفتولة، بمجرد الإعلان عن قدوم صاحب «الجيم»، ومع ظهوره لا يملك المشاهد سوى أن يستلقى على قفاه من الضحك لفرط جسده الهزيل، وضعف بنيانه الذى لا يتناسب والسمعة التى سبقته، بدليل اعترافه هو شخصياً بأنه «81 سنة بيلعب حديد وماطلعتلوش ولا عضلة غير عضلة القلب». تحقق الشق الكوميدى إذن لكن الرعب جاء يتهادى مع الرسالة الهاتفية الغامضة التى تحمل نصاً واحداً «مبروك وقع عليك الاختيار للمشاركة فى برنامج الجرىء»، وفى رؤية محسوبة بدقة، وشُح متعمد فى ضخ التفاصيل، تصل الرسالة إلى أربع شخصيات، أولها «جابر» - محمد نشأت - صاحب مركز كمال الأجسام وثانيها «شريف» - محمد يونس- الذى يحلم بكتابة سيناريو أول فيلم رعب مصرى، والثالث «الرايح» - أحمد فتحى - مدمن العقاقير المخدرة أما الرابعة فهى الفنانة التشكيلية «ياسمين» - سارة عادل - شقيقة رئيس المباحث «محسن محسن ممتاز»، الذى يفاجأ باختفاء شقيقته، وهو فى كل الأحوال «آخر من يعلم» أو كما قال ينعى حال الشرطة التى تدهورت: «بعد ما كانت بتجرى شارع بحاله أصبحت بعد الثورة أول من يجرى»، فالحديث عن ثورة 52 يناير له مكان فى الفيلم لكن أصحابه لا يرتاحون لها بدليل الاحتفاء باثنين من المناهضين لها هما : الملحن عمرو مصطفى ود.نائلة عمارة صاحبة البرنامج التليفزيونى «حزب الكنبة»، ففى مقر الشركة التى ترعى برنامج «الجرىء» وتحمل اسم «الفناء» - لاحظ المغزى - ومع وصول الشبان الأربعة يظهر بشكل مفاجئ، وغير مبرر، عمرو مصطفى ود.نائلة عمارة تبدأ وصلة هجوم على ثورة 52 يناير، التى يجرى تعريفها بتسطيح معيب ومُخل: «هى الثورة إيه غير ارحل علشان نحلق»، ويسخر الفيلم أيضاً من «الأسطوانة المشروخة» للملحن المعروف باتهاماته الساذجة لكل ثورة بأن وراءها «الماسونية»، ومع تجاوز هذا المشهد الركيك، يلتقى الشباب مدير الشركة المُقعد «عدنان» - لطفى لبيب - الذى يشرح لهم فكرة البرنامج الذى يضمن مكافأة مالية ضخمة لمن ينجح فى البقاء على قيد الحياة بعد دخوله قصر «حسن الدساس» المهجور، وقضاء يوم كامل فيه، وهى المقابلة التى تؤكد أن كل واحد من الأربعة يتوق للفوز بالمكافأة إما لتعويض النقص (جابر) أو الوصول للثروة والثراء (الرايح) أو تحقيق الحلم (كاتب السيناريو) أو بلوغ الشهرة (الفنانة التشكيلية)، لكنها تكشف أيضاً أن كل واحد منهم مُصاب بعقدة مزمنة فشل السيناريو فى «التخديم عليها»، وتعامل معها بخفة منقطعة النظير أملاً فى أن يصنع منها «إفيهات» كوميدية، لكنها جاءت سطحية فى مجملها، بعكس الغموض الذى اكتنف الحديث عن القصر المهجور، والكنز المخبوء، وصاحبه «حسن الدساس» الذى قيل إنه مات حرقاً أو ذبحاً، ومن بعده حُكم على كل من دخل القصر بالموت. ومع دخول الشباب القصر، وإغلاق أبوابه عليهم بواسطة الحارس - بيومى فؤاد - الذى يجيد الإنجليزية، ويبدو النسخة الأقرب إلى «أحدب نوتردام» أو «ديوجين» حامل المصباح الذى يفتش عن الحقيقة، ويقود إليها، تبدأ الإثارة لكن الموسيقى التصويرية - هانى كمال - تفسد الأجواء كونها لا تتوقف لحظة، ولا تترك فرصة للتأمل أو معايشة الأجواء، فالبيت الملعون كما يطلقون عليه فى المنطقة التى يقع فيها «داخله مفقود والخارج منه مولود» لكن المشاهد تسير برتابة، والخط الدرامى يتطور بصعوبة شديدة على عكس الشائع فى أفلام الرعب. ثراء فنى كبير باستثناء بعض المشاهد التى ترهل فيها الإيقاع داخل القصر، وبدا معها وكأن الأحداث أصابها الجمود، مع الإشادة الواجبة بالمونتاج المتوازى، والنقلات المتقنة - مونتاج أحمد عادل - اهتم المخرج الشاب هانى حمدى بحشد التفاصيل التى كان لها الفضل فى إضفاء ثراء كبير على الصورة، سواء من ناحية اختيار زوايا التصوير أو الإضاءة الشاحبة - أكرم ممدوح - أو الديكور القديم - محمود النوبى- والماكياج والخدع - آية مصطفى- والجو العتيق للقصر، واللوحات السريالية المتناثرة فى أرجائه، وتعكس العقلية المختلة والمضطربة التى كانت تتحكم فى صاحبه. والواقع أن المخرج الشاب لم يتغافل عن التفاصيل، لكنه لم يبالغ فى الدفع بها، وقدمها فى الوقت والمكان المناسبين، مثلما فعل فى التلميح بملصق فيلم الرعب Saw الذى يحتل جدار غرفة «شريف» الطامح إلى كتابة سيناريو أول فيلم رعب مصرى، وتوظيفه الناجح للمرايا فى القصر المهجور، وكذلك الأغانى الشعبية فى الحارة مقابل أغنية الشاب خالد فى حجرة الفنانة التشكيلية، كدلالة على تباين واختلاف الانتماء الطبقى والثقافى بينهما، فضلاً عن الإشارة الذكية فى خلفية مكتب ضابط الداخلية، حيث أبقى المخرج على علم مصر وحده فى الإطار المخصص لصورة رئيس الجمهورية، وفى قلب الإطار علامة استفهام كإيحاء بخلو المنصب، غير أن الفيلم أفرط كثيراً فى السخرية من غباء رجال الشرطة وتفاهتهم، سواء رئيس المباحث «محسن محسن ممتاز» (يعمل لايكات لصافيناز ولا ترد عليه) أو مساعده «عبد القادر» (عندما يُطلب منه الشاى سكر بره يترك السكر خارج المكتب)، وفى السياق ذاته تعمد اختيار أغنية «تسلم الأيادى» كنغمة للهاتف المحمول الخاص بالضابط، وبينما كان بمقدور الكاتب، والمخرج من بعده، الاستغناء عن شخصية أم الفنانة التشكيلية «ياسمين» - مريم سعيد صالح - إذ لم تضف جديداً، ولم تسهم فى دفع الأحداث، اختلف الحال كثيراً مع النجوم الذين دعموا التجربة، ولهم كل الشكر، مثل: لطفى لبيب، بيومى فؤاد، إيمان سيد، وضيفة الشرف زينة، فمثل هذه التجارب فى حاجة بالفعل إلى المساندة والمؤازرة من أجل دعم وتبنى جيل جديد من الوجوه الواعدة التى تحملت عبء البطولة مثل : محمد نشأت، محمد يونس، أحمد فتحى وسارة عادل، فضلاً عن الدور الملحوظ الذى لعبه المخرج هانى حمدى، ومعه الكاتب هشام يحيى، فإضافة إلى البلاغة السينمائية، و«الحبكة» التى جاءت مضبوطة، والمعادلة التى أتت منضبطة، والمتعة التى لم تخل من إثارة، كانت الثقة فى النفس سمة لطاقم فيلم «الدساس»، الذى أسجل هنا أنه كان مفاجأة بكل المقاييس، فالكل تعامل مع التجربة بتواضع، واحترام لذكاء الجمهور، وتقدير لوعى وثقافة المتلقى، فضلاً عن الابتعاد عن المباشرة والعظة والخطابة، ولكل هذه الأسباب كانت النتيجة مُذهلة، ومن ثم تصبح التحية واجبة.