فى الوقت الذى وصلت فيه المفاوضات المصرية مع أثيوبيا بشأن سد النهضة على نهر النيل إلى طريق مسدود، حاولت القاهرة أن تنوع من تحركاتها فى الأسابيع الماضية، بما يحرك عجلة التفاوض مرة أخرى أملا فى السير فى طريق جديد يخدم المصالح المائية المصرية على نهر النيل.. الأزمة تتعقد يوما بعد يوم، حتى تجاوزت حدود الإقليم، لتدخل وتؤثر فيها أطراف دولية تريد أن تظل فاعلة فيما يدور من تغيرات فى المنطقة. وقبل سرد تفاصيل التحركات الدولية الأخيرة والمؤامرات التى تقودها بعض الدول لصالح الإخوان للتأثير على الأمن المائى لمصر، نتوقف أمام استراتيجية التحركات المصرية فى الفترة الأخيرة، ومدى جدواها فى مواجهة معركة «مصير مياه نهر النيل». ما إن وصلت المفاوضات الفنية بين مصر والسودان وأثيوبيا بخصوص سد النهضة إلى نقطة الصفر، التى دفعت الجانب الأثيوبى للبدء فى بناء سد النهضة على نهر النيل دون الالتفات الى المصالح المصرية وشروطها، كان أمام القاهرة أكثر من خيار الأول يقوم على تدويل القضية فى المحاكم الدولية للحفاظ على الحقوق القانونية لمصر من سد النهضة.
وبالفعل أعلن وزير الرى الدكتور محمد عبدالمطلب تحرك مصر نحو تدويل القضية، ولكن هذا التحرك سيستغرق فترة من الزمن تمتد لسنوات، تتجاوز الفترة المحددة للانتهاء من السد.
الخيار الثانى والأسرع تأثيرًا هو ما يمكن أن يطلق عليه «خطة تجفيف منابع تمويل سد النهضة» التى تعتمد عليها أثيوبيا فى الفترة الأخيرة لاستكمال بناء السد، وبهذه الخطة يمكن أن تحقق مصر أكثر من فائدة، ففى حالة عدم حصول أثيوبيا على التمويل الكافى لن تستطيع بناء السد، وإذا حصلت على تمويل ضعيف ستضطر لبناء سد صغير بالمواصفات المصرية التى لاتحتجز كميات كبيرة من مياه نهر النيل خلفه.
ولتحقيق هذا الهدف بدأت وزارة الخارجية فى مجموعة من الاتصالات الدبلوماسية مع عدد من الدول الأوروبية التى تقدم منحا وتمويلا لأثيوبيا لتوضيح حقيقة المخاطر التى سيسببها سد النهضة على المنطقة.
ولتوضيح أهمية هذا الخيار، فسد النهضة يحتاج لبنائه 6,4 مليار دولار، قامت أثيوبيا بتنظيم حملة اكتتاب داخلى وسندات لجمع المبالغ المطلوبة للتمويل، ولكنها لم تغط تكاليف البناء، حيث وصلت نسبة البناء إلى 52٪ حسب تقديرات الخبراء والمراقبين.
وفى هذه النقطة يروى اللواء ممدوح قطب وكيل جهاز المخابرات العام الأسبق والمتخصص فى ملف حوض النيل، أن أثيوبيا تواجه مشكلة تمويل حقيقية لتغطية تكاليف بناء السد، واضطرت لتغطية النفقات أن تبحث عن تمويل خارجى من المؤسسات الدولية المانحة مثل البنك الدولى ولكنها واجهت مشكلة فى الحصول على مثل هذه المنح .
وقال أن البنك الدولى وغيره من المؤسسات الدولية المانحة تشترط قبل المشاركة فى تمويل المشاريع الدولية الكبرى ألا تكون مخالفة للقانون الدولى وأن يكون عليها توافق ولا يوجد نزاع بشأنها وهذا غير متوفر فى سد النهضة حيث تعترض عليه القاهرة.
ويضيف: إن الحكومة الأثيوبية لم يعد أمامها سوى الحصول على مساعدات ومنح من الدول الأوروبية وغيرها من الدول التى تمول برامج ومشروعات تنموية فى أفريقيا، ولكن المفاجأة الأكبر والتى يمكن أن تستخدمها مصر فى تحركات الدولية فى الفترة المقبلة هى أن حكومة أديس أبابا اضطرت لتحويل أموال المنح الأوروبية المقدمة لها ضمن برامج مكافحة الفقر إلى ميزانية مشروع سد النهضة.
وأشار إلى أن الحكومة المصرية يجب أن تكثف تواصلها مع الدول الأوروبية المانحة لبرامج مكافحة الفقر مثل إيطالياوهولندا والنرويج حتى تكشف حقيقة تلك المنح وأين تذهب، مشيراً إلى أن هذا قد يضع الجانب الأثيوبى أمام مشكلة تعطل بناء السد فى حالة إذا لم يوفر التمويل الكافى أو أن يفرض عليه بناء سد صغير يتطابق مع الشروط المصرية الخاصة بتوليد الكهرباء دون الإضرار بمياه النيل بتخزين المياه.
وقال اللواء قطب: إننا فى معركة مصير لايجب أن استبعد أى خيار سواء التدويل الخارجى أو الخيار العسكرى، مشيرا إلى أنه لايمكن التلويح بالخيار العسكرى حاليا ولكنه خيار يجب أن يكون موجودا.
التحركات المصرية بالخارج
من هنا يمكن أن نرصد مجموعة من التحركات الدولية التى تعكس الأطراف الفاعلة فى قضية سد النهضة، حيث سنتوقف أمام زيارة وزير الرى المصرى الدكتور محمد عبدالمطلب إلى إيطاليا يوم 4 فبراير الجارى، وهى من أكثر الدول التى تقدم منحا وتمويلات لمشاريع فى أثيوبيا، وسبق تلك الزيارة بيومين فقط جولة من وزير الخارجية نبيل فهمى لثلاث دول أوروبية مؤثرة هى إيطاليا وألمانيا وهولندا، وكان من بين مباحثات تلك الزيارة قضية سد النهضة والدور الأوروبى فيها.
لكن المفاجأة مثلا بعد هذه الزيارة، فوجئت القاهرة بطلب من الحكومة الأثيوبية لبدء جولة مفاوضات جديدة مع مصر بشأن السد، ووجهت الدعوة لوزير الرى للسفر إلى أديس أبابا فى جلسة تفاوض عقدت فى العاشر من فبراير الجارى، ولكنها لم تخرج بنتائج، حيث عاد الوزير المصرى للقاهرة ليعلن مرة أخرى فشل التفاوض بسبب تعنت الجانب الأثيوبى الذى يضع شروطا لعمل فريق الخبراء المشكل بلجنة ثلاثية تضم فنيين من مصر وأثيوبيا والسودان لتقييم السد وأضراره.
التحرك الجديد الذى يرتب له وزير الرى فى الفترة المقبلة، حسب ما كشفت عنه مصادر مطلعة، هو القيام بمجموعة من الزيارات لثلاث دول أوروبية تمول برامج مكافحة الفقر فى أثيوبيا هى هولندا والسويد والنرويج، حيث سيركز فى مباحثاته على أن المنح التى تقدمها تلك الدول لاتذهب لبرامج مكافحة الفقر وإنما لبناء السد.
التحرك الأبرز الذى قامت به الحكومة المصرية فى الأيام الأخيرة، هو طرح قضية سد النهضة ضمن المباحثات التى أجراها المشير عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع والإنتاج الحربى ووزير الخارجية نبيل فهمى خلال زيارتهما لروسيا الأسبوع الماضى، حيث يمكن أن تلعب موسكو دورا مؤثرا فى تلك القضية لما لها من علاقات جيدة مع الجانب الأثيوبى ومصالح مشتركة.
ورغم التحركات الدولية التى تسعى لها مصر لتجفيف منابع تمويل سد النهضة، لكنها تواجه بمخطط دولى آخر يسعى للتأثير على المصالح المصرية فى الجنوب، تقوده تركيا وقطر خدمة للتنظيم الدولى للجماعة الإرهابية، حيث عرضت تركيا صراحة على أثيوبيا المشاركة فى تمويل سد النهضة.
وكشف وزير الرى محمد عبدالمطلب عن حقيقة هذا الأمر عندما أتهم تركيا بتمويل بناء سد النهضة، خاصة بعد الزيارة الأخيرة التى قام بها أحمد داود أغلو وزير خارجية تركيا إلى أثيوبيا.
وكان أوغلو قد قام بزيارة لأديس أبابا فى الثانى من شهر فبراير الحالى، وقالت وزارة الخارجية الأثيوبية وقتها أن المباحثات مع أغلو تناولت ملف سد النهضة، حيث تحدث وزير الخارجة التركى على ضرورة التوزيع العادل لمياه النيل.
لكن المتحدث باسم الخارجية الأثيوبية دينا مفتى كشف فى تصريحات له بعد الزيارة أن تركيا عبرت عن رغبتها فى توجيه الدعم والمشاركة فى برامج التنمية التى تقوم بها أثيوبيا، مشيرًا إلى أنهم يتطلعون للاستفادة من خبرات تركيا فى كافة المجالات، بما فيها مجال الرى والسدود.
فى هذا الإطار لايمكن استبعاد الموقف السودانى من تطورات أزمة سد النهضة ، حيث شهد الموقف السودانى تغيرا خلال الأيام الأخيرة، بعد الزيارة المهمة التى قام بها وزير الدفاع السودانى الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين إلى القاهرة فى الثالث من فبراير الجارى والتقى خلالها المشير السيسى فى التوقيت الذى كانت العلاقة بين القاهرةوالخرطوم متوترة.
زيارة الوزير السودانى ناقشت مجموعة من الملفات الأمنية والاستراتيجية المهمة بين البلدين، ولكن الزيارة نتج عنها مجموعة من التطورات، الأولى انتهاء الجدل بخصوص أزمة حلايب حيث توقفت التصريحات السودانية فى التوقيت الذى اتخذت فيه الحكومة المصرية مجموعة من القرارات والتحركات فى منطقة حلايب أهمها تحويلها إلى مدينة.
الأمر الآخر عودة الوفود الرسمية بين البلدين حيث أعلن كل من وزير الخارجية السودانى على كرتى ووزير الرى عن زيارة القاهرة، مع عودة لجنة الخبراء المشكلة بين مصر والسودان لمناقشة آثار سد النهضة للاجتماع فى الخرطوم الأسبوع الماضى لمناقشة تطورات السد.
ولايمكن فى هذا الإطار أن نتجاهل الزيارة التى أعلنت عنها أثيوبيا الأسبوع الماضى لوزير الزراعة والتنمية الريفية الإسرائيلى يائير شامير الى أديس أبابا فى الأسبوع الأول من مارس المقبل والتى تعكس مدى حجم التعاون والشراكة بين أديس أبابا وتل أبيب.