لو تكلمنا عن الكتابة الساخرة فلابد أن نقرأ الفاتحة على روح أستاذنا وعمنا وشيخ الطريقة محمود أفندى السعدنى.. ناظر مدرسة الفكاهة والمسخرة.. والحارس الأمين على تراث الأسطوات عبدالله النديم وبيرم التونسى ومأمون الشناوى وغيرهم من أساطين السخرية الفاقعة والنكتة الحراقة والنظرة الواعية للأمور.. ولا تنس أبدا أن هؤلاء بالذات مصريون حتى النخاع.. خريجو الحارة المصرية والتراب الوطنى.. لا يقلدون الخواجة.. وأفكارهم وآراؤهم ونظرتهم للدنيا نابعة من تراث الحارة بكل عبلها.. دون تزويق أو حتى مبالغة. يقول الكاتب والشاعر والصحفى والأديب الجميل كامل الشناوى: إن السعدنى فى طفولته كان يملأ جيبه بالطوب والحجارة.. يقذف بها الناس فى الطرقات ويجرى.. وبعد أن كبر السعدنى وصار أديبا وصحفيا ساخرا ومرموقا.. لايزال يواصل عادته.. يملأ جيبه بالطوب والحجارة ويقذفها على الفاسدين ولا يجرى أبدا.. يقف ويدافع عن وجهة نظره.. ويخوض معارك لا حصر لها.. ولا يهدف إلا للدفاع عما يعتقد أنه الأصول والحق والضمير..!
محمود السعدنى.. عمدة الحارة المصرية.. وكبير فتواتها.. صاحب صاحبه بحق وحقيقى.. وصديق الجميع.. الوزراء والأدباد والمساجين والباعة السريحة فى الشوارع.. المقياس عنده هو خفة الدم والصدق فى التعامل.. والأمانة فى القول والفعل.. لا شىء يغضبه سوى الغباء وثقل الظل.. وما عدا هذا قلبه مفتوح للجميع!
السعدنى ابن البلد.. يعرف الأصول ويقوم بالواجب.. ويقف مع الصديق وقت الشدة بفضل البوصلة الداخلية التى توجهه للاتجاه الصحيح.. فيشمر ساعديه ويخوض المعارك دفاعا عن الحق والخير والجمال.. ويتصدى للتخين دون حساب للخسائر والأرباح.. فالأصول أصول.. وهو يقول نعم عندما يشعر ويقول لا حين يحس.. وطوال ستين سنة قضاها محمود السعدنى فى مهنة الصحافة لم يقل مرة واحدة نعم وهو يقصد قول لا.
ولعل هذا ما سبب له المشكلات ووضعه فى مواقف صعبة وتسبب فى دخوله السجن والمعتقل.. ناهيك عن الرفت والمنع من الكتابة والنفى أحيانا والتعرض لحملات الهجوم والتشويه. بعد أسابيع قليلة نحتفل بالذكرى الرابعة لرحيل أستاذ الجيل محمود السعدنى.. أشهر من نار على علم.. الصحفى والمؤلف المسرحى وكاتب الرواية والمقال الساخر.. ورئيس اتحاد كتاب الفكاهة والمسخرة.. بالانتخاب والإجماع الشعبى.. وليس بالاستهبال والتعيين!
الخيبة أن هذه المؤهلات لم ترشح أعمال السعدنى العديدة لشغل الدراما سواء فى التليفزيون أو السينما.. ولم أعرف السبب أبدا.. فهل لأنه يكتب عن الحارة المصرية بما يخدش حياء ومشاعر المنتجين ومسئولى الدراما بالتليفزيون المصرى.. الذين يفضلون الشوكة والسكين فى الدراما والمسلسلات؟!
أم لأنه كان صريحا أكثر من اللازم.. لم يطبل ولم يزمر وقد قال للأعور أنت أعور فى عينه.. وللمخطئ طظ فى حضرتك!
أم لأنه بلدى جدا.. بدليل أن اسمه محمود السعدنى كمان.. وهو اسم غير موسيقى.. يصعب هضمه والتعامل معه!
أم لأن السعدنى اعترض طوال حياته ولم يتفق مع الحكام أبدا.. وتمسك بشعارات الهنود الحمر فى مواجهة الحكام.. لا صلح.. لا تنازل.. لا مساومة.. فى مواجهة حزب فتح عينك تاكل لحمة..!
فى تقديرى أن السياسة هى من أبعدت محمود السعدنى عن تليفزيون وسينما ومسارح الدولة.. وفى الستينيات عرضت مسرحياته ونقل التليفزيون بعض أعماله الدرامية.. لكن برحيل ناصر ومجىء السادات.. تم إبعاد السعدنى بفعل فاعل.. بالسجن والنفى والحصار.. ثم بتولى مبارك.. ثم السير على نهج السادات.. فحدث ما حدث من تجاهل وتعتيم.
السعدنى هو الرائد والعميد.. وأستاذ الكتابة الساخرة.. وشيخ الطريقة.. بإجماع الناس كلها.. السعدنى هو أشهر صحفى مصرى على الإطلاق.. هو مندوب عبدالناصر عند الناس الغلابة.. تماما كما كان هيكل مندوبه عن المثقفين والطبقة الوسطى والعليا. بعد أسابيع نحتفل بالذكرى الرابعة للولد الشقى.. الحاضر الغائب.. الفاتحة على روحه الطاهرة.