اشتباكات وتحالفات تلقى بظلالها بل ترمى بشررها على الوطن والمصلحة الوطنية فى آن. فمن جانب، اشتباكات حامية الوطيس منها ما هو تاريخى بين الدين والسياسة؛ ومنها ما هو شعبى بين الجيش والسياسة. وعلى الجانب الآخر، تحالفات متباينة فى بنية ثورتى 25 يناير و30 يونيو من أبرز مآلاتها: التباس فى المشهد الثورى، وشروخ فى تحالف 30 يونيو، وحملات تخوين ومناخ «مكارثى» يخيم على الشارع الثورى، ونَسْخ ثورة 25 يناير لصالح ثورة 30 يونيو، والعودة إلى الاعتماد فى مواجهة الأزمات والصراعات على الحلول الأمنية فحسب. ولإيضاح ذلك، سنتناول التركيبة النوعية للعناصر الثورية المشاركة فى الثورتين، ودور الإدارات الحاكمة فى التعامل معها بالإيجاب والسلب، وانعكاسات ذلك على الزخم الثورى، الذى من بوادره الجلية غضب اجتماعى فى صورة انتفاضات عمالية (عمال النسيج والحديد والصلب)، وغضب سياسى يترقب مآلات الانتخابات المقبلة، والذى سيقتصر دور تنظيم الإخوان فيه على مشاهد تحاكى مشاهد الثورة الأولى ولكنه دور عصّى على أن يكون جزءًا متصلاً بالغضب الشعبى العام. وهنا أحذر من عدم تلبية المطالب الثورية وإنفاذها بصفة ناجزة، والاستمرار فى حملات تشويه وشيطنة لقطاعات وقوى ثورية والربط التعسفى- فى معظم الأحيان - بين هذه القوى وبين أجندات ومصالح أجنبية وعدم التمييز الواضح بين أعمال وأفعال إرهابية يتبناها تنظيم الإخوان وبين فعاليات لقوى ثورية سلمية، أو المساواة فى ردود الفعل تجاههما؛ الأمر الذى سينتج عنه موجة ثورية جديدة، ستكون التركيبة النوعية للعناصر الثورية المشاركة فيها على النحو التالى: أولاً- الطليعة الثورية: وهى النواة الرئيسية للثورة وتمثل الطبقة المتوسطة والمتوسطة العليا وهم من كانوا فى ثورة 25 يناير من أصحاب المهارات الفائقة فى استخدام وسائط الاتصال الحديثة، وهذه الطليعة الثورية تنقسم إلى قسمين: الأول، ثوار «مُنَظَمون» ينتمون إلى حركات اجتماعية وسياسية، ومن بينهم قوى وتيارات ثورية «غير رشيدة» مثل «الثوريون الاشتراكيون»، وفصيل من حركة شباب 6 أبريل، ومجموعات من روابط مشجعى كرة القدم «الأولتراس» ممن تحولوا - نتيجة سوء الممارسات الأمنية تجاههم - من شمروخ رياضى إلى صندوق سياسى، وقد انضم قطاع عريض من طليعة القوى الثورية «غير الرشيدة» هذه وبعض عناصر من حزب مصر القوية إلى ما يسمى «التحالف الوطنى لدعم الشرعية» الداعم لتنظيم الإخوان فى أعقاب ثورة 30 يونيو؛ نتيجة لسياسات حكومية غير رشيدة جار توضيحها، والقسم الثانى، ثوار «مستقلون» لا ينتمون إلى أية فصائل أو حركات سياسية بعينها.
ثانيًا- الجماهير: وهم من كانوا فى ثورة 25 يناير، يمثلون طبقة المُحبَطين الذين تبدلت آمالهم فى حياة كريمة فى ظل نظام مبارك «العجوز»، ويمثل قطاع عريض منهم شباب الطبقة الوسطى التى دُمرت فى العقود الأربعة الماضية، أما خلال ثورة 30 يونيو فقد اتسع حجم الجماهير بانضمام قطاع من الأغلبية الصامته «حزب الكنبة»، ومن فلول الحزب الوطنى وهو ما يمكن تسميته ب«تحالف الأضداد»، فى حين خرج من الشارع الثورى تنظيم الاخوان وحلفاؤهم، وكانت ثورة «المطلب الواحد» ضد نظام الإخوان الفاشى تحت شعار «أنا مش كافر أنا مش ملحد.. يسقط يسقط حكم المرشد»، وضد القوى الدولية المساندة له فى تأكيد على ضرورة تحقيق الاستقلال الوطنى بداية من تلك اللحظة.
ثالثًا- أسر وأصدقاء شهداء ومصابى الثورة: فمنذ ثورة 25 يناير وحتى الآن، وللأسف، ونتيجة لعدم إنفاذ العدالة الانتقالية- التى صرح وزيرها مؤخرًا بألا وقت لإنفاذها حاليًا- ونتيجة أيضًا لضعف مهنيّة الإدارة الحاكمة؛ أُقحم فيهم ضحايا كُثُر من قوى «ثورية غير رشيدة»، ومن ضحايا قوى الثورة المضادة، ومن التنظيمات الإرهابية المدعومة من تنظيم الإخوان ، وبذلك اتسع نطاق المظلوميات «الحقيقية والمُختلَقة»؛ فاختلط الحابل بالنابل.
وعلى ضوء ذلك، يمكن تشبيه القوى الثورية الثلاث سالفة الذكر حال تفاعلهم بعضهم البعض ب «مثلث الحريق» على غرار ما ورد بالقواعد المتعارف عليها فى علم ''هندسة الوقاية من الحريق- fire protection engineering وباعتبار الثورة بمثابة «حريق معنوى» يشُب إذا تمت «سلسلة التفاعلات-chain-reaction بين أضلاع مثلث الحريق الثلاث: «الحرارة - «heat» وهى وسيلة الإشعال، والوقود «fuel» وهو المادة القابلة للاشتعال، و''الأكسجين» «oxygen» فإن هذا المثلث تمثل الطليعة الثورية فيه «الحرارة»، ويمثل فيه الجماهير «الوقود»، ويمثل فيه أسر وأصدقاء شهداء ومصابى الثورة «الأكسجين». والنتيجة النهائية مفادها أنه إذا لم تتفاعل العناصر الثلاثة، لا يشُب الحريق أى لا تقوم الثورة، واذا أُريد إخماد الحريق- أى وأد الثورة - يتم فصل أحد المكونات الثلاثة للمثلث فيما يُعرف بمصطلح «تَجْويع الحريق» وهو ما أراه يتحقق على أرض الواقع.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن غياب النَفَس الثورى أو قصره لدى الحكومات المتتابعة بعد الثورة وبصفة خاصة الحكومة الحالية، وسوء إدراكها لعلم إدارة الأزمات ممثلاً فى سياساتها وقراراتها غير الصائبة وآخرها «تدشين» قانون التظاهر؛ الذى يضر فى توقيته وصيغته الحالية بحرية التجمع السلمى والتعبير التى أوصلت كل المسؤلين إلى سدة الحكم، فى الوقت الذى تم فيه ''«تكفين» قانون مكافحة الإرهاب مما يصُب فى خدمة مخططات القوى الإرهابية، فقد أدى ذلك إلى نتيجتين خطيرتين، الأولى: شق الصف الثورى وتفكيك التركيبة النوعية لثوار 30 يونيو، والثانية: تشتيت الجهود الأمنية وإنهاك قوات الشرطة بملاحقة أو تأمين تظاهرات سلمية- أحيانًا- على حساب جهودها المرجوة لمواجهة الإرهاب وتأمين المنشآت والمصالح الهامة والحيوية. وقد ترتب على النتيجة الأولى اندساس عناصر تنظيم الإخوان وحلفائه، وقوى الثورة المضادة الظاهرة والخفية فى الصف الثورى، مكونين بذلك قنبلة «مُونَة» بشرية على غرار مثيلتها المادية بدائية الصنع التى تستخدمها العناصر الإجرامية مؤخرًا، ومع الوضع فى الاعتبار أن تنظيم الإخوان ونظام مبارك وجهان لعملة واحدة هى عملة الفساد والاستبداد، وعبّر عن هذا المعنى الهتاف الشعبى العبقرى فى عهد مرسى «احلق دقنك بيِّن عارك.. يطلع شكلك شكل مبارك».
وهنا يجدر التنويه إلى أن أية محاولة عَمدية أو خطأ فى الحسابات يُسهم فى انفصام العروة الوثقى لثورتى «25 يناير، 30 يونيو» سيقوض المصلحة الوطنية، ويبدد آمال الشعب المصرى صانع الحراك الجماهيرى غير المسبوق تاريخيًا، ولن يخدم إلا مصالح نظامين، متخندقين فى المكان ومعتصمين فى الزمان، ويسعون لتوقيف آلة الزمن عند لحظة تاريخية محددة، الأول: نظام الطغمة المباركية، المتوقف زمنيًا عند 24 يناير 2011 م، والثانى: تنظيم الإخوان «الخوارج الجدد»، المتوقف زمنيًا عند 2 يوليو 2013م، وستشهد الساحة السياسية حضوراً متزايداً لهذين النظامين على أثر ذلك، وهنا تجدر الإشارة إلى أن تشويه صورة معظم رموز ثورة 25 يناير حتى لو كانوا من قوى ثورية «غير رشيدة» أو ممن حقق بعضهم مصالح ذاتية، أو لاختلاف وجهة نظرهم مع الأنظمة الحاكمة المتتابعة - سواء أكان ذلك التشويه بدافع من الدولة العميقة أم لسبب آخر- وكذلك الإسراف فى شيطنة بعض المعارضين لأداء النظام الحاكم -بصفة سلمية- بعد ثورة 30 يونيو، فكل هذه الممارسات تمَثل أمرًا خطيرًا ويجب ألا تكون مسوغًا لنفى الصفة الثورية عن الفصيل الأول، ولا للتشكيك فى الصبغة الوطنية للفصيل الثانى، وذلك دون التفريط فى حق الدولة فى مساءلتهم قانونيًا حال ثبوت ارتكابهم لأفعال مجرمة، ومن جهة أخرى فإن أية محاولات لدَحر القوى الثورية الرشيدة سواء بالقتل المادى أو بالاغتيال المعنوى أو بالتصفية السياسية «بمعنى استيعابها واستمالتها بالمناصب والامتيازات من قبل القوى الحاكمة أو رجال أعمال الأنظمة البائدة»، أو بالحبس أو بالتهميش، لن تصب إلا فى صالح أعداء الوطن فى الداخل والخارج وستصل تداعياتها إلى حد نشوب احتراب أهلى- بنكهة مصرية- بين تلك الفصائل، وأعتقد أن عموم شباب مصر قد عَّبروا عن غضبتهم تجاه الهجمة الشرسة عليهم من رموز نظام مبارك ودولته العميقة بالإحجام عن المشاركة الفاعلة فى التصويت على مشروع التعديلات الدستورية، ويجب التحسب لغضبتهم قبيل الاحتفال بذكرى ثورة 25 يناير. ويشار هنا إلى أن التصدى لقوى الإرهاب العولمية المدعومة من المشروع «الإخوا- صهيوأمريكى»، يحتاج إلى إدارة حاكمة قادرة على التمييز فى التعامل بين من يقومون ب«المقاومة اللاعنفية- non-violentresistance المشروعة صاحبة الفضل فى الإنجازات الجزئية التى حققتها ثورتان عظيمتان، فتحتا طاقة من النور فى نهاية نفق مظلم، وبين من يقومون - علَى النقيض - بأعمال إرهاب أسود يجب أن يقتص منهم بعدالة ناجزة لانصاف الوطن وأهله.
وفى النهاية، أتمنى على جيش شعب مصر العظيم أن يَعِد باعتزامه محاسبة أى من أبنائه حال ثبوت ارتكابه جرمًا فى حق الشعب، سواء كان فى المرحلة الانتقالية أو ما تلاها، كما أتمنى على وزارة الداخلية الاعتذار للشعب عن الممارسات القمعية التى اقترفتها فى حقه مع تقديم القائمين عليها للعدالة . وما أحوجنا إلى رجال دولة «طبعة ثورية» لا إلى رجال دولة «غير ثوريين أو أناركين». بسم الله الرحمن الرحيم «إن فى ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد» صدق الله العظيم.