تشكل مواد المقومات الثقافية فى الوثيقة الدستورية الجديدة مكسبا كبيرا للثقافة المصرية لكنها ذهبت للتأكيد على مبدأى صيانة ودعم الإنتاج الثقافى القديم والمعاصر، ووصول الثقافة لجميع المواطنين دون تمييز عبر دعم إنتاج المواد الثقافية الإبداعية وهو تصور يدفعنا للسعادة بالنظر نحو ضرورة مجانية الخدمة الثقافية مثلها مثل الصحة والتعليم والبحث العلمى، ولكن الدستور لم يحدد نسبة من الدخل القومى لدعم هذا المنتج الثقافى كما فعل مع غيرها من ضرورات الحياة الحديثة. وهو تفكير إيجابى يسعى لاستعادة دور الدولة الستينية الوطنية فى الشأن الثقافى، ولكن بالنظر قليلا للماضى ونحن نحلم ببداية جديدة لسياسات ثقافية رشيدة تتطلع نحو المستقبل علينا أن نتأمل الشرائح الاجتماعية للجمهور المصرى المستهدف.
فعدد سكان العشوائيات فى مصر مثلا يتحرك بين ثمانية عشر إلى عشرين مليون مواطن وفقا للتقديرات الرسمية، فلهؤلاء خطاب ثقافى مختلف عن خطاب أنصاف المتعلمين الجدد حاملى الشهادات الجامعية فاقدى الكفاءة الحقيقية، يختلف أيضا عن أفراد أكفاء هم ملايين مصرية تدرك أهمية وقيمة الإبداع الثقافى، وهكذا وبنظرة سريعة لحديث الأدوات والميزانية نرى أننا نفكر بذات تفكير عالم الستينيات المصرى بقدرات أقل ماديا وعلى مستوى الموارد البشرية القائمة على الإنتاج الثقافى، فإذا علمت مثلا أن الميزانية الحالية لوزارة الثقافة تم تخفيضها بنسبة تقارب الثلاثين بالمائة فى وزارة د.عماد أبوغازى نظرا للظروف الاقتصادية العامة، وكذلك تنافس القادة المسئولين عن المؤسسات الثقافية الرسمية فى إعادة جزء من مخصصات الميزانية للدولة مما يجعلها تقل عاما بعد عام منذ قيام ثورة 25 يناير وحتى الآن.
وإذا علمت أن ميزانية الهيئة العامة لقصور الثقافة هذا العام هى 200 مليون جنيه، 120 مليونا منها للرواتب، و60 مليونا لتجديد المبانى وصيانتها، يبقى 20 مليونا هى فقط للإنتاج الثقافى، وبمراجعة المواطنين فى المناطق العشوائية يصبح نصيب كل فرد منهم جنيها واحدا فقط لا غير، أما باقى المصريين خارج القاهرة فلا نصيب لهم فى الميزانية.
وبالتالى فيجب إعادة النظر بشكل جاد فى ميزانية وزارة الثقافة حتى تتوافق مع تفكير الوثيقة الدستورية الجديدة، وأمامنا بشكل واقعى من الآن وحتى استقرار الموازنة العامة للدولة المرتقب فى 2016 فترة زمنية لوضع تصور لإصلاح جذرى هيكلى للمؤسسات الثقافية ينقذها من عزلتها ويمكنها على أقل التقديرات من العمل المشترك مع بعضها البعض والانفتاح على مؤسسات المجتمع المدنى، حتى لا تبقى مواد الدستور حبرا على ورق.
هذه النظرة الاستباقية تنظر نظرة مختلفة تتواءم مع الإنتاج الثقافى المعاصر تتعلم من الماضى القريب فى درس طلعت حرب ودعمه للمسرح المصرى وإنشاء ستوديو مصر، وهما الأمران الفارقان فى جعل السينما المصرية آنذاك واحدة من أهم مصادر الدخل القومى المصرى، كما تتأمل الصناعات الثقافية المستقرة فى العالم الحديث والمعاصر المحيط بنا حيث يعمل رأس المال الحر فى ذلك المجال.
وقد نجحت دول عديدة لا تملك إلا هامشا بسيطا مما تملكه مصر من التراث الحضارى الثقافى المادى والفكرى فى تحقيق طفرات هائلة فى هذا المجال، أما مصر بكل ما تملكه من تراث ومبدعين معاصرين فهى مؤهلة للنظر للإبداع الثقافى نظرة الصناعة المربحة القابلة للتصدير للعالم كله وللتأثير الفعال فى الداخل أيضا.
وهى صناعات تربط بين الأدب والآثار، بين الشعر والجغرافيا ذات الخصوصية، بين الرواية والمسرحية والسينما وبين صناعة البرمجيات التكنولوجية المتطورة، والصناعات الإعلامية الفضائية، فى عصر أصبحت فيه الثقافة المسموعة المرئية هى صاحبة السطوة الأولى فى تركيب سلم القيم وصناعة الرأى العام، وتحديد الأهداف المشتركة للمجتمعات ولمشروعاتها القومية، وهذا النظر سواء تبنته الدولة أو رأس المال المصرى الذى اندفع نحو صناعة الإعلام متجاهلا الصناعات الثقافية، وهو سلوك ناتج عن النظرة للثقافة الرفيعة كعمل غير مربح ماديا، ولصناعات التسلية كمصدر للربح الكبير، فى حين أن الصناعة الثقافية الثقيلة مربحة للغاية إذا ما أخذها رأس المال المصرى مأخذ الجد.فإن مردودها المعنوى والمادى سيكون واضحا وقادرا على دعم تثقيف الشرائح غير القادرة مادياً، كما سيعيد لمصر دورها المهم الذى جعل قوتها الناعمة منارة للشرق العربى والمحيط الإقليمى فى الماضى القريب.
إن النظر للثقافة المصرية بعيدا عن كونها صناعة ثقافية هو استمرار لصورة المثقف الفقير المناضل المعزول اجتماعيا، والذى كرست الصور السينمائية والتليفزيونية طويلا للسخرية منه، والذى يبدو مجنونا فى نظر عدد من الرجال القادرين على جنى المال، فى حين أن هذا المجنون هو صمام أمان محور القيم الذى بدونه لا وجود للتنمية الشاملة، بينما يراه البعض مثقفاً زائدا عن الحاجة أحيانا ويراه البعض غير مفهوم فى أحيانٍ أخرى.
العالم قد تغير وتغيرت معه مصر بالضرورة، ومصر فى حقيقة الأمر هى أكثر دول العالم تأهيلا لأن تكون صاحبة أكبر صناعة ثقافية بميراثها الحضارى الكبير الذى يمكنها إذا ما حضرت الإرادة السياسية والمجتمعية لأن تمتلك الصناعات الثقافية الجديدة التى ستكون مصدراً للدخل القومى، وعلامة بارزة على هوية مصر وشخصيتها الثقافية العبقرية المبدعة.