ما هو مستقبل الثقافة المصرية ؟ إنه السؤال الذى يطرح نفسه قوياً متجدداً عقب كل التحولات الكبرى فى تاريخنا الحديث والمعاصر، وعندما أطرحه الآن، فلا يمكن أن أفعل دون تذكر العنوان المهم لعميد الأدب العربى د. طه حسين عندما أصدر عام 1938 كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، فى مرحلة مهمة فى تاريخ مصر الحديث عقب معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا، والتى حصلت فيها مصر على الاستقلال، ومصر فى كل مرة تخطو فيها خطوة نحو الاستقلال الوطنى تقوم بطرح سؤال الثقافة ممزوجاً بأسئلة الهوية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ويضع طه حسين هدفاً لمستقبل الثقافة أجده لا يزال هو سؤال اللحظة المعاصرة ألا وهو: «ضرورة نشر التفكير النقدى فيما ندرسه ونتعلمه، ومن ثم يكون هذا التفكير النقدى أسلوب حياة وسلوكاً يومياً»، حقاً إنها الثقافة فى أحد أبسط تعريفاتها، ويشدد طه حسين على التعليم كضرورة لتحقيق الديمقراطية الصحيحة.
الكتاب أثار ضجة كبرى -آنذاك- لتهميشه المكون العربى والإسلامى والتركيز على دور ثقافة البحر الأبيض المتوسط كمكون جوهرى مع الحضارة الفرعونية للثقافة المصرية، مما أثار نقد حسن البنا - آنذاك - مركزاً على أهمية المكون الإسلامى، ولكن العقل المصرى الحر المؤمن بالتعددية فى أربعينيات القاهرة الثرية سمح بتداول مفهوم هويتها أو شخصيتها الثقافية بمنتهى الود على حدة الخلاف دون تكفير أو عنف، وعقب طه حسين على نقد البنا له قائلاً: هذا نقد لا يقدر عليه إلا غيرك، ليت أعدائى مثل حسن البنا، إذن من أول يوم لمددت لهم يدى.
الرؤية الأورومتوسطية لمصر اعتمدت على ثقافة اليونان القديمة وهى المكون للعقل الأوروبى كله حتى الآن، هكذا فكر العميد، وفكرته آنذاك لم تكن تشوبها شائبة ما بعد حرب 1948 فهل يمكن استعادة حالة الحوار العقلانى الآن بين أحفاد العميد والإمام؟!! رغم مأساة أن نعيد طرح مفهوم وسؤال الهوية الآن فى مصر، بعد كل مجهودات العقل المصرى المضنية فى هذا الإطار.
لا شك أن تثقيف المواطن المصرى العام هو الشرط الجوهرى لإنجاز أهداف الثورة المصرية وإنتاج طرق مبتكرة لحل أزمة سؤال الهوية وتجاوزه سريعاً عبر الإنتاج الإعلامى والثقافى والفنى التفاعلى، وتطوير برامج تعليم الكبار واستعادة الثقافة الجماهيرية لدور الجامعة الشعبية القديم هو أول هذه الطرق وهو ضرورة وواجب وطنى.
مع النظر فى دعم تعليم الأطفال، فكما قال العميد: «التعلم الأولى ركن من أركان الحياة الديمقراطية الصحيحة».
وقد افتقدنا منذ سنوات فى مصر دور ثقافة ومسرح وفنون الطفل كجوهر لهذا التعليم الأساسى، وافتقدنا إخلاص أجيال مهمة أعطت معظم أعمارها لهذا الدور، وقد رحل عنا منذ أيام مضت الشاعر والكاتب المسرحى الكبير شوقى خميس «1936- 2013» مؤسس المسرح القومى للطفل، ومؤسس مسرح الطفل الفلسطينى وصاحب التجربة الثرية فى العمل مع الأطفال إيماناً بأن فنون الطفل هى القيمة والمتعة الحقيقية، عندما عملت معه فى بداية التسعينيات، رأيت مدى بساطة المثقف ورقة الشاعر وإخلاص المسئول الثقافى، هو من قدم أشعار أحمد شوقى للأطفال فى مسرحيته «الحيوانات على السفينة»، الأوبرا المسرحية نعم ولا، إنه مؤسس مسرح التليفزيون للأطفال وكتب له مصنع الشيكولاتة والأمير الصغير، وهو صاحب بوجى وطمطم، نشرة أخبار الأطفال، وهو الشاعر صاحب أول تجربة فى المسرح التسجيلى للكبار فى مصر هى الغول وغيرها من الأعمال المهمة الكثير، اختار فى منتصف حياته المهنية العامرة أن يتفرغ للعمل مع الأطفال واجتذب مناخاً لذلك فعمل معه كرم مطاوع ونبيل الألفى وسعد أردش وعبدالغفار عودة وأحمد زكى والسيد راضى وغيرهم من كبار الفنانين، وبرحيله عن المسرح القومى للأطفال رحل ذلك الوهج، فقد كان يؤمن بأن عالم الطفولة هو أنبل اختيار للفنان لأنه عالم الخيال والخير والجمال والمستقبل، فهل نستعيد بعضاً من إخلاصه وإخلاص جيله من أجل الثقافة العامة والتعليم الأساسى كما أوصاه وأوصانا طه حسين؟
فالثقافة هى صانعة السلوك الإنسانى، وبغيابها عن خارطة طريق المستقبل يستحيل التطبيق العملى والوجود الفعلى لمعان كالدستور والقانون والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، من بدون الثقافة يحمى أعشاش العصافير؟، هكذا سأل الرقيق الشاعر الكبير شوقى خميس رحمه الله.
وفى ليلة عزاء الكاتب الكبير شوقى خميس جاء خبر رحيل رفيق دربه المخرج المسرحى الكبير أحمد زكى عن عمر يناهز الثمانين عاماً، وكان أحمد زكى أبرز المهتمين فى جيله بمسرحى الأطفال والشباب، وقد أدارهما معاً، وأسس المسرح المتجول، وقد كان يؤمن بأفكار المسرح الشامل ويعتنى بالحساسية المصرية الخاصة، رحمهما الله وسيبقى درس الجمع بين الإدارة والممارسة الفنية كوحدة عضوية واحدة هى تجربة جيلهما المختلف.