كثيراً ما توجه السياسة الأدب والفن... ولكن أحيانا يكون للفن والأدب دفة توجيه السياسة والحرب والغزو.. هل يصدق أحد أن وراء الحملة الفرنسية وتوجيه نظر الغرب إلى مصر يقف كتابان .
أحدالكتابان باسم «رسائل من مصر» للفرنسى سافارى (1750- 1788)، وهو شاب نشأ واطلع على الثقافة الإغريقية وآمن بمؤلفات جان جاك روسو حول عودة الإنسان إلى الطبيعة وطهارته قبل أن يتشبع بالحضارة المادية.. ووجد فى وادى النيل بمصر مكانًا يستطيع أن يمارس فيه تلك العودة إلى الطبيعة البكر.. خاصة أن مصر فى تلك الأثناء بل والشرق كله كان يمثل للغرب أرض الأساطير والسحر والخرافة وغذى هذا التصور حكايات ألف ليلة وليلة بما فيها من عطر وجن ونساء وجو مغلف بالغموض .. ولم يلبث هذا الشاب أن أتى إلى مصر عام 1773 ليستقر بها ثلاث سنوات وكان فى السابعة والعشرين من العمر.
وعلى عكس كل الرحالة والمستشرقين ذهب إلى أماكن لم يهتم بها من سبقه، فلقد توغل فى المجتمع المصرى، وأخذ يجوب الأزقة والأسواق ويتعايش بكل فتوة الشباب مع مجتمع يحفل بكل المتناقضات وليصور بشاعرية ورومانسية الريف المصرى والطبيعة الخلابة والنساء الناعمات بأجسادهن المليئة بالأنوثة والرغبة.. «صورة أعتقد أنه قد بالغ فيها كثيراً، فالفلاح المصرى كان يعيش بؤسًا وشظفًا فى ظل حكم المماليك الجائر، والذى قبع على أرض مصر طوال قرون استبد فيها هؤلاء المماليك بالشعب المصرى المغلوب على أمره دائماً .. وكيف لهؤلاء الصبية والفتيان الذين يباعون ويشترون ويكفى أن نعرف أن مملوكًا مثل الظاهر بيبرس وهو من أشهر المماليك بيع بثمانية دنانير فقط والأغرب أن من اشتراه أرجعه لوجود سحابة على إحدى عينيه الزرقاويتين.. وكيف لهؤلاء المماليك الذين اعتنقوا الخصال الشاذة التى اعتنقها قبلهم الإغريق والتتار ومن قبلهم قوم لوط.. صحيح أنهم كانوا وراء صد هجمات التتار وإقامة العديد من المبانى والمساجد والأسبلة الوكالات، ولكن كان كل ذلك باستغلال الشعب المصرى الخانع خنوعًا غريبًا.
ويكتب سافارى عندما رأى الأهرام: ليس ثمة منظر فى العالم كله يفوق هذا المنظر جمالا وتنوعا وتأثيراً . إنه يسمو بالروح ويحضها حضاً على التأمل .
والكتاب الثانى كان لفولنى «قسطنتين فرانسوا فولنى 1755- 1820» باسم «رحلة إلى مصر»، وأنجزه خلال رحلته التى بدأت عام 2871 واستمرت الرحلة سبعة شهور وقسمة إلى جزأين .. جزء عن طبيعة مصر «النيل والدلتا والرياح والمناخ»، والثانى عن الموقف السياسى من حيث «الأجناس التى تدخل فى أصول الشعب المصرى وحكومته وطائفة المماليك والتجارة والأمراض المتفشية إلخ..» وكان بالكتاب دعوة صريحة وخاصة لفرنسا لاحتلال مصر ... وقرأ نابليون هذا الكتاب وتأثر به واختمرت فى عقله فكرة احتلال مصر وقطع الطريق على إنجلترا لمستعمراتها بالهند ووضع خطة خمسينية للنهوض بمصر تنفذ خلال خمسين عاماً .
وعندما أخذ يعد العدة لتلك الحملة الشهيرة 1798 والتى تمثل حداً فارقاً فى تاريخ مصر، وكان ضمن تكوين الحملة المجموعة العلمية والتى ضمت نحو مائة من أكبر علماء وفنانى فرنسا والذين سيكونون المجمع العلمى والذى قدر له أن يقوم بمهمة ربما المتفردة فى تاريخ الشعوب وهى وضع كتاب «وصف مصر»، ومن هؤلاء الفنانين والعلماء الأفذاذ اخترت مثالاً ربما لولعى الشديد بأعمال الحفر التى أنجزها فى هذا الكتاب وأعتقد أنها أشهر الأعمال الفنية عن مصر فى تاريخ الاستشراق وربما لأنه له نظرة ساخرة ظهرت فى بعض تلك الأعمال وهذا الرجل هو الفنان المصور والحفار والأديب البارون «دومنيك فيفان دينون» رجل فى الخمسين من العمر مرح جذاب لا يجد متعة إلا اقتنصها .. وهو كان من الحاشية الملكية ولولا صداقته لفنان الثورة الفرنسية دافيد لكان عنقه قد وضع تحت حد المقصلة . أنجز دينون ثلاثمائة وخمسة وعشرين رسماً محفوراً من مجموع تسعمائة رسم وتصوير ضمها كتاب «وصف مصر» أكثرها غير ملون ولو أدركنا الجو العام الذى مارس فيه هذا الفنان العبقرى عمله لأشفقنا عليه، فهو وعلى صهوة الخيل رسم المعارك التى دارت بين الحملة والمماليك وهو الذى ذهب إلى مصر العليا مسجلاً آثارها وكان له بعض الفضل فى اكتشاف مدينة هابو بالبر الغربى لطيبة ومعبد دندرة.. واعتمد دينون على رسم الاسكتشات السريعة على الورق وربما استخدم أقلام الفحم .. وللأسف لم توثق تلك الرسوم الأولية ولم تنشر رغم أننى أعتقد أنها قد تفوق الأعمال المتكاملة والتى نفذت بالفعل بالكتاب والتى استلزمت عمل 004 حفار نفذها بالحفر الغائر وهى طريقة طباعة تقوم على معالجة السطح المعدنى بابر وأدوات خاصة للنقش «ومن لفظ النقش استقت كلمة جرافيك التى تستخدم الآن لكل أعمال التصميمات الطباعية وأعمال الملتيميديا»، وبعد النقش تعالج الأسطح المعدنية بالأحماض الكيميائية لتغور الخطوط المحفورة عن سطح اللوح الطباعى بعد ذلك تملأ بالحبر بطريقة خاصة ويتم ضغطها بالمكابس الطباعية على الورق المعد لذلك فينتقل الحبر من الأخاديد المحفورة إلى الورق بطريقة معكوسة، وهذه الطريقة مهدت الطريق للطباعة الفوتوغرافية، والتى سيأتى ذكرها فيما بعد عندما تعالج موضوعات الصحافة والطباعة الحديثة، وبعد انتهاء الحملة ورحيلها عن مصر صدر فى باريس عام 1802 قرار بطبع موسوعة «وصف مصر» على نفقة الحكومة الفرنسية بإشراف العالم والفنان جومار والذى استمر فى الإشراف على طباعة تلك الموسوعة نحو عشرين عاما، وجدير بالذكر أن هذا العالم له محاولات فى فك رموز حجر رشيد والتعرف على اللغة الهيروغليفية ولو حدث ذلك لتغيرت أشياء كثيرة فى تلك الموسوعة .. فالموسوعة بها أخطاء كثيرة تمت لعدم معرفة تلك الرموز الفرعونية.. إلى أن استطاع العالم الفرنسى الشهير شمبوليون «1790- 1832» فى عام 1822 فك الرموز والتعرف على التاريخ المصرى القديم بشكل علمى وموثق .. وأيضاً جدير بالذكر أن شمبوليون ليس له أى علاقة بالحملة الفرنسية «ذكرت بعض كتب التاريخ والتى تدرس لطلبة المدارس الابتدائية أن شمبوليون كان أحد علماء الحلمة الفرنسية»، ومن خلال حجر رشيد والذى وجده الضابط بوشار قرب مدينة رشيد وتم الاستيلاء عليه من قبل الإنجليز ويقبع الآن فى المتحف البريطانى بلندن.
وعندما قابل شمبوليون الوالى محمد على عند حضوره إلى مصر عام 1828 تودد إليه وأخذ منه وعدًا بنقل إحدى مسلات حتشبسوت بالأقصر إلى فرنسا، والتى ترتفع الآن بميدان الكونكورد الشهير بباريس ووضع خطة نقلها وإبحارها.
وصدرت أولى الطبعات من كتاب وصف مصر عام 1809 وأهديت إلى نابليون بونابرت وصدرت الطبعة الثانية عام 1820، وأهديت إلى الملك لويس الثامن عشر بعد عودة الملكية إلى فرنسا وصدرت الطبعة الأخيرة والمكتملة عام 1828 وأهديت إلى الملك شارل العاشر.
ومن الطريف أن معظم ما ينشر بالصحف والمجلات وبعض الكتب ويتم تداوله منذ زمن طويل على أنه صفحات من رسوم «وصف مصر»، لا يمت بصلة لتلك الموسوعة ومعظمها للفنانين الفرنسيين بريس دافن وباسكال كوست والفنان البريطانى دافيد روبرتس «ألم أقل لكم أن التاريخ به أخطاء وخاصة ما يتصل بتاريخ مصر القديمة والعصور الفرعونية».