اكتظ المشهد السياسى المصرى على مدى الأيام الماضية بآراء تحلل وتنتقد تصريحات السيناتور الأمريكى «جون ماكين» وزميله السيناتور الجمهورى أيضا «ليندسى جراهام» خلال زيارتهما لمصر ، وانهال أصحاب هذه الآراء بمن فيهم المتحدث باسم الرئاسة المصرية بالهجوم المباشر رفضا للتدخل الأمريكى فى الشأن الداخلى المصرى، ناهيك عن خلط يفصل ما بين آراء الإدارة الأمريكية و عضوى «الكونجرس» بتصور ربما يكون ساذجا -سياسيا- يرجع ذلك لاختلاف هوية ماكين وجراهام الحزبية - جمهوريا -عن إدارة أوباما الديموقراطية ، وذلك دون أن يتوقف هؤلاء برهة أمام حقيقة يدركها المخضرمون بالسياسة والعلاقات الدولية ، وهى أنه على قدر قوة واستقلالية الدول تصاغ العلاقات. وانفردت «روزاليوسف» بحوار قصير خاص مع السيناتور الجمهورى «ماكين» عقب انتهاء المؤتمر فى حضور السفيرة الأمريكية، وحذرناه من خسارة الشعب المصرى بهذا التطاول والتطرف، ورد علينا أنه يدرك ذلك والرسالة وصلته بالفعل. لم يتوقف كثيرون لمراجعة قاعدة سياسية أمريكية تقدس مصلحة الأمن القومى الأمريكى التى تتوحد تحتها جميع القوى السياسية. وأن ما يشاع حول اختلاف رأى ودور السلطة التشريعية والتنفيذيه الأمريكية حتى مع إعلان الخارجية الأمريكية «بأن تصريحات ماكين وجراهام جاءت فى إطار التعبير عن رأيهما الخاص، مثلهما مثل أى أعضاء آخرين بمجلس الشيوخ، وأن الإدارة الأمريكية لا تقف مع طرف واحد على حساب الآخر» هو مجرد سذاجة، وأن ما يجرى وما يقال جاء بتنسيق بين جميع الأطراف الأمريكية وفى إطار لعبة توزيع الأدوار المعروفة باسم «الطيب والشرير»، فالخارجية الأمريكية نفسها أعلنت - وأنا شخصيا لاحظت اللعبة ذاتها - تمارس خلال حضورى لمؤتمريهما الصحفى حتى بين الرجلين حين لوح ليندسى جرهام صراحة بعقوبة قطع المساعدات قائلا: « لا يمكن أن نؤيد مصر التى لا تتحرك نحو الديموقراطية ومساعداتنا ستكون مربوطة بالأفضل من وجهة نظرنا « فى حين سارع السيناتور ماكين بالقول بأن قطع المساعدات سيكون الشىء الخطأ فى الوقت الخطأ» إضافة لاختلاف متعمد فى تعريف الإطاحة بمرسى كانقلاب أم أرادة شعبية فى الوقت الذى اعترفت فيه إدارة أوباما بأن زيارة أعضاء الكونجرس جاءت بالتنسيق بينهما . وإذا أردنا ترجمة هذا الكلام بالنسبة لأحداث الأيام الأخيرة فإنه من المهم هنا رصد التحركات الأمريكية المباشرة وغير المباشرة - عبر الأصدقاء حسب وصفهم - على مدى الأسبوع الأخير تحديدا وسنجد التالى : إن المشهد الأول بدأ بتصريحات محددة قالها وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى بالتزامن مع لقائه ووزير خارجية دولة الإمارات الشيخ عبدالله بن زايد ، قال كيرى: «إن الجيش المصرى كان يستعيد الديمقراطية» عندما أطاح بالرئيس محمد مرسى الشهر الماضى وإن عزل الرئيس جاء استجابة لمطلب «الملايين والملايين من الناس».- هذه الرسالة جاءت قبل ساعات من إعلان اعتزام جون ماكين وجرهام التوجه إلى مصر ، ونلاحظ أن الخارجية الأمريكية حرصت يوم الاثنين على بث خبر قيام وزير الخارجية الأمريكية بعقد اجتماع مع رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال مارتن ديمبسى بمقر وزارة الخارجية الأمركية، لبحث التطورات فى مصر وقضايا تتعلق بالأمن الإقليمى. ومع وصول عضوى الكونجرس كانت مهزلة الوساطة الأوروبية والدولية تتواصل بزيارات سمح بها لقيادات الإخوان بالسجن والموقوفين كما هو مفترض على ذمة قضايا جنائية من صنف قضايا «حرامية الغسيل» رغم وجود ملفات جنائية ودموية أخرى أخطر يطلب فيها الشارع المصرى القصاص ، وكذلك استدعاء الخارج للفصل دبلوماسيا بين الأطراف المتصارعة فى مصر، وهذا هو الوصف الذى استخدم خارجيا واعتمدته القاهرة للأسف دون أدنى تفكير فى خطورة هذا التغاضى والذى يعنى الإقرار بشكل غير مباشر بأن خروج عشرات الملايين يوم 30 يونيو اعتراضا على حكم الإخوان كان انقلابا وليس إرادة شعبية. وجاء ت لقاءات ماكين جراهام مع أطراف سياسية مصرية، بمن فى ذلك مسئولو الحكومة بالتوازى مع قيام وليام بيرنز بمد مباحثاته بالقاهرة - غادر الأربعاء - لتوضح الصورة وبشكل لا يقبل الفصال بأن الاثنين كانا فى مهمة رسمية ويحملان مبادرة بل أوامر محددة ورسالة للقاهرة مفادها أن صبر واشنطن قد نفد وأن على القاهرة الامتثال، والمطلوب كان - كما ذكرنا هنا منذ أسابيع لم يتغير وهو الإفراج عن القيادات الإخوانية بالتدريج وحسب مطلب حلفائهم من الإخوان، فالإفراج عن مرسى أولا ليس أولوية، ثم التأكد من قيام القاهرة ''قولا وفعلا بإدماج تيار الإسلام السياسى بما فيهم الإخوان فى أى انتخابات أو عملية سياسية قادمة، والإسراع بإعلان موعد للانتخابات الرئاسية والتشريعية ليتم إتمامها فى موعد لا يتجاوز العام، وتعهد القوات المصلحة بعدم التدخل أو ترشيح أى من أفرادها ورفع يديها تماما عن عملية دمقرطة مصر فى المستقبل القريب . الأمر الأهم وهو ما ذكره السيناتور ماكين ضمنا خلال المؤتمر الصحفى كان إعلانه بأن الشأن المصرى مسألة أمن قومى أمريكى، وذلك حين أشار إلى أن هدف الزيارة كان حث الأصدقاء نحو عملية تحول دون موقف فى منتهى الخطورة يمكن أن يؤثر «ليس فقط على العالم بل على الولاياتالمتحدة» وهذه الكلمات تعنى بوضوح قيام واشنطن بإدراج الحادث فى مصر على قائمة أمنها القومى، وبالتالى أباحت بذلك تلقائيا لنفسها جميع أنواع التدخلات فى الشأن المصرى وهنا نضع تحت هذا المعنى ألف خط. ونتوقف هنا أيضا عند كلام ماكين حول «البطة التى تملأ الدنيا زيطا وجسمها جسم بطة إذن فتعريفها هو بطة»، و هو مفهوم أمريكى للإشارة إلى أن هؤلاء الذين ينكرون حقيقة الأزمة وحجم تواجد الإخوان على الساحة السياسية فى مصر. أيضا نلاحظ التكريس الأمريكى والغربى عموما لمصطلحات لتكون درجة من الآن وصاعدا مثل التحذير من وقوف مصر على هاوية الدولة الفاشلة، والتخويف من حرب أهلية قادمة وحمام دم يتهدد مصر، باختصار فإن النشاط الأمريكى المحموم باتجاه مصر لن يتوقف عند هذه الزيارات المكوكية بل قد يتعداها لخلق آلية مايسمى بحوار وطنى قد يستدرج إلى واشنطن أو لمكان آخر خارج مصر، وهو إن حدث ووافقت عليه القاهرة فقد يرسم بذلك مستقبلاً حالكاً، لذا كان حرص من رتبوا للقاء ماكين وجراهام على دعوة أطياف سياسية مصرية ولو على مائدة إفطار رمضانية جزءاً من عملية الاستدراج هذه كإشارة للعالم بدور أمريكا الأساسى فى مستقبل مصر، وهنا لا أفهم كيف يقبل أشخاص الدعوة وهم مبيتون العزم على الانسحاب منها لاستخدام الأمر فيما بعد فى عمل فرقعة سياسية وإعلامية كحالة الناشطة التى انسحبت من الاجتماع لتدلى بآراء تصور فيها نفسها كبطلة قومية ترفض التدخل الأجنبى وكان أولى بها إن أرادت ذلك من البداية - أن تعتذر عن الحضور، تماما كحال المتحدث باسم الرياسة الذى اختلط عليه فهمه لعمله كمتحدث رسمى يفترض فيه الكياسة والحساب الصحيح للكلمات ومعناها وعمله السابق كمقدم لبرنامج يطرح فيه وجهة نظره، وإن لغة الدبلوماسية تختلف عن تشدق البرامج، لاسيما أن كبار مسئولى حكومته وافقوا على لقاء ماكين وجراهام ناهيك عن السماح بمقابلة بيرنز لخيرت الشاطر فى محبسه! على أية حال فإن هناك الكثير من الملاحظات التى قد لا تتسع لها المساحة هنا لسردها ولكنها تعبر عن المأزق الذى وضعنا أنفسنا فيه وهو ما يعيدنا إلى المربع واحد بعيدا عن استقلالية كانت مطلوبة لإنقاذ مصر من فك التحكم الأمريكى والذى سيكلله وصول سفير جديد معروف تاريخ تكليفه بالمناطق التى تشهد صراعات سياسية واحتمالات حروب أهلية وهو روبرت فورد بينما ستصبح السفيرة الحالية لدى مصر «آن باترسون» رئيسته المباشرة كمرشحة لتولى منصب مساعدة وزير الخارجية لشئون الشرق الأدنى فى غضون أسابيع قليلة من الآن. على أى حال فالذى ينتظر مصر ليس هينا فمصر فى حاجة ماسة الآن لفريق لديه الوعى والكفاءة للتعامل مع واقع يفرض علينا وليس فريقا يرتجل سياسات دفاعية.