تبدأ قصة النبى يوسف عليه السلام وهو طفل بالرؤيا التى رأى فيها أن أحد عشر كوكباً مع الشمس والقمر يسجدون له وحكاها لأبيه النبى يعقوب: (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ (يوسف 4)، وفهم الأب أن يوسف سيكون النبى المختار بين إخوته، ولذلك أوصاه ألا يحكى الرؤيا لهم خوفاً من أن يحقدوا عليه.
وازداد اهتمام الأب يعقوب بابنه يوسف ليؤهله لما ينتظره من نبوة، هذا الاهتمام نتج عنه تآمر إخوة يوسف عليه وانتهى بإلقائه فى البئر، ثم تنتشله قافلة لتبيعه بعدها إلى قصر عزيز مصر، وفى شبابه يتعرض لمؤامرة أخرى من امرأة العزيز ونساء المدينة تنتهى بدخوله السجن مظلوماً. مدخل: فى القرآن الكريم يتم تعريف المرأة بإضافتها لزوجها مثل امرأة العزيز، وفى هذه الحالة تكتب كلمة ''امرأة'' بالتاء المفتوحة: (..امْرَأَتُ الْعَزِيزِ..) يوسف: 30 وتكتب كلمة ''امرأة'' غير المعرفة بالتاء المقفولة: (..وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً..) الأحزاب .50 وحسب الروايات أن امرأة العزيز اسمها ''راعيل'' ولقبها زُليخة، وكانت مشهورة بجمالها وتكبرها، وهى زوجة ''بوتيفار'' عزيز مصر، وهو رئيس الوزراء على عهد الملك أمنحوتب الثالث فى زمن قدوم النبى يوسف عليه السلام إلى مصر، وما جاء فى الروايات لم يقل به القرآن باعتباره غير مؤثر فى العبرة من القصة، وجاءت قصتها فى القرآن الكريم بدون أن يذكر اسمها فى الآيات من 21 إلى 53 من سورة يوسف. مشهد 1 المراودة وتبدأ قصة زليخة مع شراء العزيز ليوسف: (وَقَالَ الَّذِى اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِى مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا..) يوسف ,21 وقد رأى يوسف فى امرأة العزيز أماً بديلة، ولكن المرأة وجدته يكبر شاباً وسيماً فرأت فيه الرجل ولم تر فيه الابن. وحاولت زليخة بالترغيب والترهيب، وبالإغراء والتهديد أن تنال رغبتها الجسدية من يوسف: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ..) يوسف ,23 والمراودة تعبير عن رغبتها فيه ومحاولتها المتكررة فى التحايل عليه وخداعه وطلبها المستمر له، وانتهت إلى إغلاق الأبواب لتصارحه بأنها استعدت للقائه، وكان رده عليها صادماً لها حين استعاذ بالله من فعل الفحشاء وخيانة الرجل الذى رباه، فكان سلاحه عليه السلام التمسك بالعفة والأمانة فى المعركة القائمة بين إيمانه وعقله ضد شهوتها ورغبتها. ومع أن الزوج كان يعتبر سيداً لامرأته، إلا أنه حين ضبط العزيز زوجته وهى تقوم بإغراء يوسف فإنها لم ترتبك، بل سارعت بالاتهام بدون تحديد اسم يوسف مبالغة فى التخويف وحتى يفهم يوسف أن أمره بيدها، ثم سارعت بالحكم، ولأنها تحب يوسف وتريده حياً فإنها لم تطلب قتله وإنما طلبت له السجن أو العذاب لتنتقم لكرامتها. ويأتى الشاهد من أقاربها: (..وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا..) وتم وصفه بالشاهد مع أنه لم يشهد شيئاً ولكنه جاء للحكم فمكانة امرأة العزيز أكبر من أن يأتى قاض ليحكم فى أمر يخصها، ويتبين للشاهد بالدليل براءة يوسف، وتم لفت انتباه يوسف بنسيان الأمر ومعاقبة الزوجة بالوعظ، وبعد كل ما حدث فلم يفصل الزوج بين زوجته وبين يوسف. مشهد 2 المتكأ: ثم تسربت أنباء الحادثة وأصبحت حكاية تتناقلها النساء فى مجالس النميمة عن إمرأة العزيز: (وَقَالَ نِسْوَةٌ فِى الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ) يوسف .30 ويبدو أن رأيهن جاء تعبيراً عن الاعتراض على سوء أخلاقها، ولكنه فى الحقيقة جاء تعبيراً عن الاعتراض على افتتان امرأة العزيز بخادمها وتدنيها فى السعى وراءه، لذلك وصف القرآن اعتراض النساء بأنه مكر: (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ..) يوسف 31, وأرادت زليخة أن ترد مكرهن بمكر أشد لأنها تعرف حقيقة أخلاقهن، فقامت بدعوة النساء إلى وليمة تفتنهن فيها بجمال يوسف: (.. فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) يوسف .31 وقطع أيديهن لا يعنى بالضرورة جرح أو قطع أجزاء من الأيدى، فليس من معانى القطع فى اللغة الجرح أو البتر فقط، بل يحتمل المعنى أن كل واحدة منعت عنه يد الأخرى التى امتدت إليه بتهديد بعضهن لبعض بالسكاكين، بحيث منعت يد كل واحدة منهن يد الأخرى من أن تمتد إليه وحدها، فعلى سبيل المثال يقال قطعت يده عن العمل أى أبعدته فلم يعد له عمل فيه وليس بمعنى فصلت يده عن جسمه. وبعد كشفها لضعفهن: (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِى لُمْتُنَّنِى فِيهِ..) ، وتعلن أنها راودته عن نفسه فرفض، وأعادت تهديده بالسجن إن لم يفعل بها الفحشاء، وانضم إليها فى هذا التهديد باقى النساء، واختار النبى يوسف السجن لينجو من إغرائهن له، حتى لا تتغلب فيه النزعة البشرية فيميل إليهن ويفعل ما يفعله الجهلاء. مشهد 3 الاعتراف: وقد بلغ الملك أمر النبى يوسف وتفسيره للأحلام وهو فى السجن، وذلك بعد أن رأى الملك حلماً لم يجد له تفسيراً مع اعتقاده بأهمية ذلك الحلم، فطلبه الملك، ورفض يوسف الخروج من السجن إلا بعد أن تثبت براءته باعتراف النساء بما فعلنه به أمام الملك: (..قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) يوسف 50 ولم يكشف الأمر للملك ليجعله يحقق ويبحث حتى يعرف الحقيقة، واكتفى بالإشارة إلى كيدهن وتقطيع أيديهن. والتعبير عن كيد النساء جاء مرتين، الأولى على لسان الشاهد: (..إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) وهى تعبير عن موقف محدد ولا تعبر عن رأيه تعالى فى المرأة، والثانية على لسان النبى يوسف: (..إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) فى إشارة للملك للتحقيق فى حادثة محددة وهى مؤامرة النساء، ولا يعبر عن حقيقة ثابتة خاصة بالمرأة. وأمام المواجهة من الملك لهن لم ينكرن بل اعترفن بأن ما رأوه من يوسف هو رفضه للوقوع فى السيئات: (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ..) يوسف .50 واعترفت زليخة بأن الحقيقة لا بد أن تظهر، وأنها هى التى حاولت إغراءه، وتعترف بذلك لأنها ترجو مغفرة ورحمة الله تعالى: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَحِيمٌ) يوسف ,53 مما يدل على أن التحول فى حالها سببه الإيمان بالله تعالى. وزليخة تمثل نموذجا للمرأة المشغولة برغباتها الجنسية والتى فتنها يوسف بجماله فحاولت إغراءه بأنوثتها، بالإضافة لامتلاكها المكر وسعة الحيلة، إلا أنها تمتلك شجاعة الاعتراف بالحق على ما قدمت من ذنوب وقامت بتبرئة يوسف مما اتهمته به، وتحولت من الانشغال بالرغبات إلى الإخلاص فى الإيمان. فالمشاعر الإنسانية المتغيرة والصراعات النفسية تجعل قصة يوسف قابلة لتكرار أحداثها فى كل زمان ومكان، ولعل ذلك من أسباب ذكر أحداث سيرة النبى يوسف عليه السلام مرة واحدة فقط فى سورة كاملة تحمل اسمه.