من المواد المكررة فى الدساتير مادة ''حرية الفكر والرأى مكفولة'' وهى المادة 54 فى الدستور الحالى، إلا أن الكاتب المفكر كثيراً ما يفاجأ بتعطيل هذه المادة الدستورية فيصطدم بمواقف الرقابة على المطبوعات ومنعها لحرية التعبير عن الرأى بعدم النشر فى الصحف ومصادرة الكتب. والرقابة موجودة بوجود السلطتين الدينية والسياسية بدرجات مختلفة، فالرقابة منها الوقائية وهى التى تمنع قبل طبع الكتاب، ومنها المصادرة وهى التى تمنع بعد طبع الكتاب، ومنها الرقابة الذاتية من الكاتب نفسه على أفكاره طلباً للسلامة. ومع أن القرآن الكريم تتكرر فيه عبارة (أَفَلا تَعْقِلُونَ) إلا أن أغلب فقهاء المؤسسات الدينية والتيارات الإسلامية يعملون على تعطيل العقل ومصادرة الرأى، ومع أن الله تعالى لم يجبر الناس على الإيمان به بل أجرى معهم حواراً كى يؤمنوا عن اقتناع، إلا أن الفقهاء يكتفون بإصدار قرارات التكفير والردة ضد من يخالفونهم فى الرأى. يقول تعالى :(لَوْ كَانَ فِيهِمَا اَلِهَةٌ إِلاًّ اللهُ لَفَسَدَتَاَ..) الأنبياء ,22 فلو كان مع الله آلهة أخرى لفسد نظام الكون، ولو كان معه شريك لحاول أن ينازع الله تعالى فى ملكه: (قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً) الإسراء42 ، ولأن ذلك لم يحدث فنفهم أنه لا شريك مع الله، فالله تعالى يرد على ادعاءات بعض خلقه بالدليل وبالعقل. كما سجل تعالى أقوالاً فيها تطاول على ذاته جل وعلا، من اليهود: (لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء..) آل عمران181 ومن فرعون :(وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِى..) القصص,38 ( فقال أنا ربكم الأعلى) النازعات .24 ومع أنه تعالى لم يصادر هذه الأقوال إلا أن مصادرة الآراء والكتب تعتبر من أهداف أغلب الفقهاء، فهل مصادرة الآراء والكتب تتفق مع مفهوم حرية الرأى فى الإسلام؟ فالحرية فى القرآن هى حرية مسئولة، فالإنسان حر فيما يعتقد وفيما يفكر بشرط ألا يضر بالآخرين، وإلا وقع تحت طائلة العقوبة ليستقيم حال المجتمع، ولذلك جاءت عقوبات للقتل وقطع الطريق والسرقة والزنى وقذف المحصنات، ولا توجد عقوبات فيما يخص حقوق الله تعالى فى العقائد والعبادات، فهى مؤجلة إلى يوم القيامة، ولذلك فليس فى القرآن عقوبة للردة ولا وجود للحسبة. والنبى عليه الصلاة والسلام تعرض للكثير من الأذى بالقول مع أنه الرسول والحاكم لدولة المدينة، فعندما أقام الشورى واستشار الناس ومنهم المنافقون من سادة يثرب الذين اتهموه بأنه يعطى أُذُنه- بمعنى ودنى بالعامية- ويستمع لأى إنسان: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِىَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ..) التوبة ,61 ومع ذلك لم يتدخل عليه الصلاة والسلام كحاكم فى مصادرة حرية الرأى للمعارضة المتسترة بالإيمان: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) الأحزاب .48 فالأنبياء وهم صفوة البشر لم يجعل لهم تعالى سلطة إكراه الناس علي الإيمان أو مصادرة آرائهم، وبالتالى لم يعط سلطته لبعض الناس ليعاقبوا باسمه من كفر أو من اختلف معهم فى الرأى. لم يصادر الله تعالى ما قيل فى حقه، والنبى عليه الصلاة والسلام لم يصادر ما قيل فى حقه، ومع ذلك ظهرت المصادرة بين المسلمين، فمنذ العصر الأموى صارت تهمة الزندقة هى وسيلة التخلص من المفكرين مثل ابن المقفع وبشار بن برد والحلاج. وفى العصر العباسى ظهر حد الردة والحسبة بهدف التخلص من المعارضين مثلما حدث للمعتزلة باتهامهم بالردة وقتلهم بأحاديث منسوبة للنبى عليه الصلاة والسلام. فدعاوى الحسبة نجدها فى مجال حقوق الله من العقائد والعبادات التى قرر تعالي حرية الناس فيها، ولا نجدها فى مجال حقوق الناس من محاربة الفساد ورفع الظلم عنهم، فلم يتدخل محتسب للدفاع عن الحريات العامة بل نجده يحرض السلطة والناس على أصحاب الفكر والرأى. مع أنه ورد فى الروايات أن أحد الصحابة برر قتله رجلاً أعلن إسلامه فى إحدى السرايا: ''إنما قال ذلك بلسانه ولم يكن فى قلبه، فقال النبى عليه الصلاة والسلام: فهلا شققت عن قلبه فنظرت ما فيه؟''. فوظيفة المحتسب ودعاوى الحسبة ومصادرة حرية الفكر والعقيدة بالإرهاب والتفتيش في ضمائر الناس ونواياهم، كل ذلك ليس من الإسلام بل يعارض حقائق القرآن الكريم والسيرة النبوية. وعندما ظهرت المناهج الحديثة فى بحث وتحليل النصوص أزعجت الفقهاء من استخدامها فى دراسة القرآن والحديث لمخالفتها المنهج الأسطورى الذى استخدمه الطبرى وابن هشام والواقدى وابن سعد وغيرهم فى كتابة التفاسير والسيرة والتاريخ، ليتطور الانزعاج إلى إقامة دعاوى الحسبة وصولاً لأحكام بالتكفير والمنع من النشر لكل ما يختلف مع الثوابت الموروثة وإن كانت خاطئة. فحدثت فى القرن العشرين محاكمة الشيخ على عبد الرزاق لمطالبته بفصل الدين عن الدولة فى كتاب «الإسلام وأصول الحكم» فحوكم وتم فصله من الأزهر، ومحاكمة د. طه حسين لاستخدامه منهج الشك الديكارتى فى كتاب«''فى الشعر الجاهلى». وتم رفض «الفن القصصى فى القرآن الكريم» كرسالة دكتوراه لمحمد أحمد خلف الله، ورفض ''نقد الخطاب الدينى'' كرسالة ترقية للدكتور نصر أبو زيد لاستخدامه المناهج الحديثة فى تحليل الخطاب القرآنى ثم الحكم بتكفيره وتفريقه عن زوجته، واغتيال فرج فودة لكتاباته النقدية للفكر الإسلامى الموروث مثل كتاب «الحقيقة الغائبة»، ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ لاستخدامه القصص الدينى فى رواية أولاد حارتنا. والكتب السابقة بالإضافة إلى «فترة التكوين فى حياة الصادق الأمين» لخليل عبد الكريم، و«الحريم السياسى» لفاطمة المرنيسى، و«الإسلام فى الأسر» للصادق النيهوم، والتى تم منعها لتعارضها مع ثوابت الفكر الدينى تحت مسمى الحفاظ على قيم المجتمع، وهى التى ستتم قراءتها ونقدها تباعاً، فمن حقنا معرفة مدى موافقة أو معارضة تلك الأفكار لمفاهيم القرآن الكريم، وأيضاً لمعرفة مدى صحة المصادرة بهدف الارتقاء للأفضل