خمسة أطفال يركضون فى فزع هربا من جحيم النابالم الذى أحرق بيوتهم.. خلفهم أربعة جنود أمريكيين، وفى وسطهم طفلة عارية تماما تجرى وهى تبكى وتصرخ من شدة الألم. هذه هى صورة «فتاة النابالم» الشهيرة التى أنهت حرب فيتنام بالنسبة للأمريكيين .. لا تحدثنى عن صمود الشعب الفيتنامى ولا عن مكر «هو تشى منه» ولا عن بيئة القتال المعادية.. هذه الصورة البليغة «فتاة صغيرة تركض عارية إلى لا شيء عكست ويلات الحروب وفظاعتها وفضحت نزوات السياسيين المسترخيين على مقاعدهم، وجعلت الأمريكيين يخسرون تعاطف العالم فى هذه المعركة إلى الأبد.
الظلم لا يحب العلنية.. العمل تحت الأضواء يفضحه ويجعل الناس تبدى ردود فعل غير متوقعة .. وعندما كان ستالين يرسل شعوبا كاملة إلى سيبيريا كى تنتهى حياتهم وسط الثلوج، كانت الفكرة الوحيدة المسيطرة على المرحلين المساكين هي: «لو عرف الرفيق ستالين بمعاناتنا لتدخل لإنقاذنا».
لكن لكل طاغية «أيقونة» تلازمه.. تخرج الأمور عن سيطرة جهازه الإعلامى القوى ويتسرب مشهد ما كان ينبغى له أن يخرج إلى العالم الخارجي.. وقتها نرى كيم فوك الفيتنامية ورودنى كينج الأمريكى وخالد سعيد المصري.. لا ينجو الطاغية بفعلته كثيرا بعد هذا التسرب.. تلازمه سياسيا صورة المسكين الذى ظلمه، وتؤرق مضجعه إنسانيا.. ولا يمضى وقت طويل حتى يصبح الطاغية مجرد درس تاريخى يستفيد منه الطغاة القادمون.
فعلاً.. كلنا خالد سعيد
لم يعرف الناس شيئا عن خالد سعيد قبل 8 يونية 2010 .. يومها نشرت صفحة أيمن نور صورة جمجمة الشاب المحطمة ونشر تحتها تفاصيل عن عملية قتله ضربا بواسطة المخبرين.
الطغاة عادة لديهم حساسية مرهفة تجاه ما قد يثير الجماهير، وعادة ما يكونون على صواب.. لهذا ففور تسرب التفاصيل نشرت الداخلية بيانا غير معهود فى مثل هذه القضايا يقول أن خالد سعيد توفى مختنقا لابتلاعه لفافة بانجو وليس من الضرب «نفس فكرة التلفيق مستمره حتى الآن، ومع استشهاد محمد الجندى خرج التقرير الرسمى ليقول أنه مات نتيجة حادث سيارة».
معلومة إن الشرطة تضرب المتهمين والمشتبه فيهم لم تكن مستغربة بالنسبة للمصريين، لكن الجديد فى قضية «شهيد الطوارئ» هو أنه يبدو «واحد مننا» فعلاً .. صحيح أنه تفكير عنصرى متخف «فليضرب المخبرون هؤلاء البلطجية ذوى الشوارب والوجوه المشوهة كما يحلو لهم، لكن فليبتعدوا عن الشباب سمح الوجه» لكنه مس بالفعل قلب المصريين.. شاب مولود فى يناير 1982 يصلح أن يكون أى شاب فى مثل سنه، ربما لهذا السبب كان أغلب الفاعلين فى ثورة يناير التالية «وائل غنيم وأحمد حرارة ومصطفى النجار وزياد العليمى وسلمى سعيد» من مواليد جيل الثمانينات الذى رأى نفسه فى خالد سعيد.. والصفحة التى بدأت الثورة كانت تحمل اسم الشهيد الذى هدم بدمه قلعة الديكتاتورية المنيعة.
وفاة خالد «والأخطر منه من لم نعرف عن موتهم شيئا»، كان نتيجة أن الوضع السياسى «السابق.. والحالى للأسف» جعل قوات الأمن خدما أوفياء للنظام القمعي، وتحول بعض القائمين على تطبيق القانون فى مصر إلى وحوش يقومون بمختلف الانتهاكات البشعة استغلالا لحصانتهم من العقاب، فيدمرون القانون بدلا من أن يطبقوه، كان هذا ما يحدث قبل الثورة.. فماذا حدث بعدها؟
ست البنات: ملكة جمال بلا وجه فى الثامن عشر من ديسمبر 2011 «بعد شهر بالضبط على أحداث محمد محمود الأولي» انتشر على شبكة الإنترنت فيديو مفزع، يصور مجموعة من جنود الجيش تجرجر فتاة مجهولة أرضا، ويتم سحلها وضربها هى وبعض المعتصمين عند مجلس الورزاء، حتى تنخلع العباءة التى كانت ترتديها فى أيديهم، لكن هذا لم يردع أحدا، بل استكمل الجنود ضرب فتاة مسكينة نصف عارية وملقاة على الأرض.
المشهد القاسى آلم وجدان عدد كبير من المصريين، وشهدت مواقع التواصل الاجتماعى موجة من الغضب والأسى بسبب هذه الانتهاكات الموجهة عن عمد للفتيات.
الألم سببه أننا فى مجتمع يحتقر إهانة النساء، ومن أجل ذلك تنتحل آلاف الأعذار والحيل، فالأصدقاء لا يعرفون اسماء أمهات أصدقائهم، لأن الاسم نفسه لا يذكر علنا. وعندما تريد النداء على أختك أو قريبتك فى الشارع تستعمل اسم رجل من العائلة، فى العقل الشرفى مجرد اسم الأنثى عيب ظهوره، فما بالك بالإهانة الجسدية؟
لم يعتذر المجلس العسكرى «الطاغية الجديد» عما حدث فى مجلس الوزراء عموما، وعن حادثة «ست البنات» خصوصا، التى اختارت أن تبقى فى الظل ولا يعرف عنها أحد شيئا، ربما لكى لا تتاجر بما حدث لها، وربما لكى تحمى أهلها من شوشرة لا داع لها، واستمرت تساعد فى إسعاف المتظاهرين فى صمت دون أن يعرف أحد أنها الفتاة التى يبحث عنها نصف المصريين لتكريمها، والنصف الآخر لإدانتها.
حادثة تعرى ست البنات عرت بدورها الكثير من الشخصيات الإعلامية «إيه اللى وداها هناك؟» والحركات السياسية «الانتخابات أهم» التى باركت هذا الانتهاك أو على الأقل لم تدنه، لهذا كانت ست البنات هى الأيقونة الغامضة التى أذنت بقرب زوال حكم المجلس العسكري، وهى ليست المرة الأولى التى تطيح فيها شخصية مجهولة بمن يجلس على رأس الدولة، ففى قضية «ووتر جيت» الشهيرة كان مصدر تسريب معلومة أن نيكسون يتجسس على الحزب الديموقراطى رجل لا يعرفه أحد غير «بوب ودوورد» و«كارل برنستين» الصحفيان اللذان فجرا القضية، وظل لعشرات السنين معروفا باسم شفرى مشابه ل«ست البنات» هو: "الرجل ذو الصوت العميق
حمادة صابر: اعتبره أبوك يا أخى فى الثالث من مارس عام 1991 استوقف أربعة ظباط شرطة من قوة لوس أنجيليس المواطن الأمريكى الأسود «رودنى كينج» بتهمة القيادة بسرعة.. وتطور الحادث الروتينى إلى أن انهال الضباط الأربعة على الرجل الأسود بالضرب المبرح.
هذا المشهد تم تسجيله بواسطة كاميرا «دافيد هوليداي» الذى تصادف وجوده فى مكان الحادث، وأثارت صور ضرب رودنى كينج المبرحة غضب الأقلية السوداء فى أمريكا، مما أشعل أحداث غضب شعبى عنيفة راح ضحيتها أكثر من 53 قتيلا وألفى جريح فى لوس أنجيليس، ولم تنته المواجهات الدامية بين الشعب الغاضب والسلطات إلا بتدخل الجيش الأمريكى وقوات الحرس الجمهورى لفرض الهدوء على المنطقة. نفس الشيء حدث مع المواطن حمادة صابر، الذى نزل للتظاهر حسب رواية، ونزل لشراء ملابس حسب رواية ثانية.. وفى الحالتين مش هاتفرق، لأن السؤال الذى ظل مسيطرا على أغلب الناس وهى تتابع فيديو ضرب وتعرية المواطن حمادة صابر كان: «كيف يضرب راجل فى الخمسين من عمره بهذه البشاعة ؟» إذا كان المبرر الذى روجه محبو مبارك لمسامحته عن خطاياه هو «اعتبره أبوك يا أخى»؟
حمادة صابر مجرد مبيض محارة مسكين وجد نفسه فجأة هو وبناته تحت الأضواء رغما عنه، وطالبه البعض بأن يتعملق ويتحدى ديناصورات الداخلية بصدر عارٍ، لأننا نعشق أن يخوض عنا الآخرون معاركنا، ونحن آمنين خلف شاشات الكمبيوتر.
المؤسف أن يتم هذا الانتهاك الصارخ فى ظل حكومة ثورية أولا، أى أنها جاءت للحكم على أكتاف هؤلاء المتظاهرين، وحكومة إسلامية ثانيا، تدعى أنها تروج لدين السلام، انتصرت على الليبراليين الكفار غلاظ القلوب خمسة- صفر حتى الآن «استفتاء مارس، مجلس الشعب، مجلس الشورى، انتخابات الرئاسة، استفتاء الدستور .