كل مشكلة ولها حل وربما أكثر من حل! وأى مشكلة فى الحياة، من المشاكل الدستورية إلى المشاكل الزوجية، ومن مشاكل الجمعية التأسيسية إلى مشاكل الحياة الكروية، كلها مشاكل قابلة للحل! وأول خطوة فى طريق الحل هى الحوار والمناقشة بين أطراف هذه المشكلة، سواء الحاكم والمحكوم أو الزوج والزوجة أو داخل أى مصنع أو شركة أو بيت!
وعندى مثل واضح ناصع وناصح وهو الدستور المصرى الذى صدر عام 1923 وحلمت به مصر طويلاً حتى صدر!
دستور 1923 الذى نترحم عليه الآن كان مثار أزمة كبيرة بين الملك فؤاد و«زعيم الأمة» «سعد زغلول»!
كلاهما رفض هذا الدستور، وكلاهما لم يرحب به ولأكثر من سبب!
الملك فؤاد رفض هذا الدستور الذى صدر رغم أنفه وإرادته ومشيئته الملكية والسياسية لأنه ينتقص من سلطاته ومهامه!!
سعد زغلول زعيم الأمة وثورة 19 رفض الدستور لأن من وضعه لجنة من الأشقياء ولم تضعه جمعية تأسيسية منتخبة!! بل لجنة من ثلاثين عضوًا اختارتها حكومة «عبدالخالق ثروت» باشا، ورغم قلة عددها فقد جاءت ممثلة ومعبرة عن كل أطياف الشعب المصرى.
كان ثروت باشا جادًا فى وضع الدستور ويتابع باهتمام أعمال لجنة الدستور ومناقشاتها، وكان للملك فؤاد عيونه وآذانه التى تنقل إليه ما يدور فى اللجان، بل إنه اعترف للمندوب السامى البريطانى «اللورد اللنبى» «بالنون وليس بالميم بتاع الفنان محمد سعد»: أن المصريين لا يناسبهم الحكم البرلمانى فلم لا تتركونى أحكم مصر كما أريد؟!
ولم يتردد الملك فؤاد أن يفصح للمندوب السامى عن عدائه الشديد والحاد لأى دستور سواء أكان حسنًا أم سيئًا تتم صياغته تحت سلطة الوزارة الحاضرة!! أى وزارة عبدالخالق ثروت باشا!!
وعلقت صحيفة «الديلى تلغراف» الإنجليزية قائلة: «إن النزاع بين جلالة الملك وثروت باشا هو نزاع شخصى بحت، فثروت باشا فى نظر الملك واسع الحرية فوق اللازم، والملك فى اعتقاد رئيس الوزراء «أتوقراطى» حاكم بأمره!!
وأخيرًا صدر الدستور فى 19 إبريل سنة 1923 ويقع فى مائة وسبعين مادة، وصفه المؤرخ عبدالرحمن الرافعى «بأنه من خير الدساتير» وقد وضع على أحدث المبادئ العصرية!
تقول المادة 6: لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة لصدور القانون..
وتقول المادة 12: حرية الاعتقاد مطلقة.
وتقول المادة 23: جميع السلطات مصدرها الأمة واستعمالها يكون على الوجه المبين بهذا الدستور.
وتقول المادة 124: القضاة مستقلون لا سلطان عليهم فى قضائهم لغير القانون وليس لأية سلطة فى الحكومة التدخل فى القضايا.
وتقول المادة 127: عدم جواز عزل القضاة أو نقلهم.
وتقول المادة 149: الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية.
وتقول المادة 161: مخصصات جلالة الملك الحالى هى 000,150 جنيه مصرى (مائة وخمسون ألفًا) ومخصصات البيت المالك هى 111512 جنيهًا مصريًا وتبقى هى لمدة حكمه وتجوز زيادة هذه المخصصات بقرار من البرلمان.
وبعد الأفراح والليالى الملاح جرت الانتخابات التى صدمت نتيجتها الملك فؤاد وجماعته، فقد فاز سعد زغلول وحزبه بتسعين فى المائة من مقاعد النواب وسقط رئيس الحكومة الذى أجرى الانتخابات وهو «يحيى إبراهيم باشا» فى دائرته الانتخابية أمام مرشح الوفد المغمور الذى لا يعرفه أحد!
وأذعن ورضخ الملك فؤاد لمشيئة وإرادة الأمة والصندوق الذى جاء بسعد زغلول، وعهد إليه بتشكيل الحكومة فى 28 يناير سنة .1924 ومنذ الساعات الأولى بدأ الملك فؤاد يضع العقبات والعراقيل أمام زعيم الأمة «سعد زغلول» فقد فوجئ بالملك يقترح عليه تعيين «يحيى إبراهيم» باشا رئيس الوزارة السابقة رئيسًا لمجلس الشيوخ، ورفض سعد طلب الملك وقال: إن الشعب أسقط منذ بضعة أيام فقط «يحيى باشا إبراهيم» فى دائرته بمديرية الشرقية فكيف أجىء بعد أيام وأتحدى الشعب وأعيد الرجل الذى أسقطه الشعب فى انتخابات حرة رئيسًا لمجلس الشيوخ!
ثم جاء الخلاف الأكبر والأشهر بين الملك وزعيم الأمة الذى كان يردد دائمًا الذى بينى وبين الملك هو الدستور فليقرأ الدستور جيدًا ثم يناقشنى!
كانت الأزمة بسبب مجلس الشيوخ، فقد نص الدستور على أن ثلاثة أخماس أعضاء المجلس ينتخبون والخمُسين يعينون، وكان الخلاف على من له حق تعيين هؤلاء الشيوخ أهو الملك أم الوزارة!! تفاصيل ماجرى تستحق القراءة الجادة والجيدة، وقد رواها المؤرخ الكبير «عبدالرحمن الرافعى»- وهو من خصوم الوفد وسعد زغلول سياسياً- فيقول:
هو أول خلاف قام بين الملك وسعد فى وزارته، فكان يرى أن التعيين من حقه هو ارتكانا على ظاهر المادة 74 من الدستور التى تنص على أنه «يؤلف مجلس الشيوخ من عدد من الأعضاء يعين الملك خمسهم وينتخب الثلاثة الأخماس الباقون بالاقتراع العام على مقتضى أحكام قانون الانتخاب».
أما «سعد» فقد استمسك بالرأى الدستورى السليم، وهو أن الملك لا يباشر سلطته إلا بواسطة الوزراء كما تقضى بذلك المادة 48 من الدستور وهذا نصها:
«الملك يتولى سلطته بواسطة وزرائه»، والوزارة هى المسئولة عن أعمال الدولة طبقا لحكم المادة 57 من الدستور التى تقضى بأن «مجلس الوزراء هو المهيمن على مصالح الدولة»، والمادة 60 منه التى تنص على أن «توقيعات الملك فى شئون الدولة يجب لنفاذها أن يوقع عليها رئيس مجلس الوزراء والوزراء المختصون»، والمادة 62 منه ونصها أن «أوامر الملك شفهية أو كتابية لا تخلى الوزراء من المسئولية بحال»، فالوزارة هى المسئولة عن أعمال الدولة ومنها تعيين الشيوخ، فهى التى تملك سلطة العمل فعلا، وتباشر جميع أمور الحكم مستقلة من غير مقاسم»، وهذا المعنى المستفاد من نصوص الدستور سالفة الذكر، ومن مناقشات أعضاء لجنة الثلاثين.
فقد جاء فى تقرير لجنة المبادئ العامة: أن هذا المبدأ الأساسى مترتب على ارتفاع مسئولية الحكم عن الملك وقصرها على الوزراء إذ مادامت الوزارة فى قيامها بالسلطة التنفيذية هى المسئولة أمام مجلس النواب عن السياسة العامة وعن أعمالها كلها فليس بمقبول أن يقاسمها الملك سلطة العمل ولا أن يكون له صوت معدود فى مداولاتها».
وأقوى من ذلك ما جاء فى المذكرة التى صدرت من وزير الحقانية - العدل - عند صدور الدستور من أن «كل عمل يعمله الملك وتكون له علاقة بشئون الدولة يجب لتنفيذه أن يوقع عليه رئيس الوزراء، والوزراء مسئولون سياسيا عن جميع أعمال الملك».
وإذا لم يقتنع الملك فؤاد بحجة سعد فقد ارتضى التحكيم فى هذه المسألة واتفق مع سعد على تحكيم البارون «فان دن بوش» النائب العام لدى المحاكم المختلطة وقتئذ وكان عالما بلجيكيا فاستدعى إلى القصر الملكى، وعرض عليه الخلاف وطلب إليه أن يبدى رأيه فيه بوصفه حكما».
لم ينس البارون «فان دن بوش» هذه القصة فقد رواها بالتفصيل فى كتابه «عشرون عاما فى مصر»، وكان النائب العام جالسا فى مكتبه بالنيابة العمومية بالإسكندرية حينما تلقى اتصالا هاتفيا من سعد زغلول باشا رئيس مجلس الوزراء يدعوه للذهاب إلى مكتبه فى اليوم التالى، فرجاه تأجيل الموعد لكثرة أعماله القضائية إلى يوم الخميس، فقال سعد: هذا مستحيل، فالأمر مستعجل ومهم. وبعد دقائق اتصل به حسن نشأت باشا - موضع ثقة الملك - ليتأكد منه عن موعد حضوره وكما حدده لسعد زغلول، ثم يمضى النائب العام قائلا:
- «فى صباح اليوم التالى قمت من الإسكندرية إلى القاهرة بأول قطار، وعند وصولى إلى محطة بنها صعد فى العربة مواطنى الأستاذ «جورج مرزباخ» المحامى ودخل الديوان الذى كنت جالسا فيه وقال لى: إنه جاء بالسيارة خصيصا ليبلغنى ما سمعه من أحد الوزراء وهو أننى دعيت للقاهرة للفصل فى خلاف دستورى خطير بين الملك وسعد زغلول باشا وأن مصير الحكومة وهدوء الحالة فى مصر قد يتأثران من طريقة فض هذا الخلاف..».
وصلت إلى رياسة مجلس الوزراء فى تمام الساعة الرابعة وكنت أسمع هتافات طويلة حادة: فليحيا سعد! دخلت على الرئيس فرأيته جالسا أمام مكتبه، ولكنه ما كاد يقع نظره علىّ حتى نهض وقدم لى يده مصافحا ثم قال:
- أهلا وسهلا، إننا فى حاجة إليك! ثم سرد لى الموضوع بلا مقدمة وقال لى إن خلافا جوهريا نشب بين الملك والوزارة على تفسير مادة من الدستور المصرى، ومطلوب أن أبدى رأيى فيها إذ إنها مأخوذة من الدستور البلجيكى ثم ختم رئيس الوزراء حديثه بحركة قوية وقال:
- هذا هو الموضوع ويجب أن يفصل فيه فى ظرف أربع وعشرين ساعة!
واتفق سعد مع البارون على اللقاء صباح الغد بسراى عابدين ثم يمضى قائلا: عندما دخلت إلى مكتب الملك كان يداعب مسطرة صغيرة لقطع الورق وكل حركاته تدل على التأثر، أما زغلول باشا فكان جالسا أمامه متمالكا لحواسه، يتحدث بهدوء وسكينة، استمر الحديث بحضورى فأدركت فى الحال خطورة الأمر: مليك رُبى حسب التقاليد الشرقية، وما تمتاز به من صفات الحكم الفردى يحاول المحافظة على البقية الباقية من السلطة، وأمامه رئيس وزراء متمسك تمسكا شديدا بالامتيازات التى يضمنها له الدستور، ولمحت من خلال العبارات الرقيقة فى الحديث أن تنافرا يوشك أن ينقلب إلى كارثة إذا لم يعالج بغير إبطاء وسمعت زغلول باشا أثناء المناقشة التى كان يتزايد نشاطها يقول: إذا استشير الشعب!
ويعلق النائب العام بقوله: «كلمة واحدة من هذا الرجل السياسى الذى يملك اليوم مصر كلها روحا وجسدا تكفى لتحويل تلك الحياة الهادئة إلى منظر رهيب من مناظر غضب الشعب»، ثم يضيف قائلا:
وفى تلك اللحظة تنبهت إلى صوت سعد زغلول باشا وهو يقول: «أتقبل يا مولاى أن يفصل جناب النائب العام فى الموضوع وأن يكون حكمه غير قابل للمناقشة؟ فكر الملك هنيهة ثم قال فى لهجة تشف عن الإذعان:
لا بأس!
والتمس النائب العام بالاعتكاف قليلا وقاده أحد أمناء القصر إلى قاعة مطلة على الحدائق الملكية، وجلس وكتب بعض كلمات بالقلم الرصاص ثم يقول:
عدت إلى مكتب جلالة الملك فوجدت المتناظرين فى نفس موقفهما الذى تركتهما فيه، فأبديت التصريح الآتى وقلبى يخفق من شدة التأثر: ليس لى الحق بأن أقيم نفسى قاضيا على النظام الدستورى الذى ينظم الآن مصير مصر، إن عدم مسئولية الملك يعتبر أساسا لهذا النظام الذى يقضى بأن الملك لا يتولى سلطته إلا بواسطة وزرائه، وهو مبدأ لا يحتمل أى استثناء من الوجهة القانونية، بل يمتد إلى جميع أعمال الملك، فإذا استثنى عمل واحد فإن هذا الاستثناء يصيب النظام الدستورى فى روحه وأساسه، لذلك أرى إذن أن تعيين أعضاء مجلس الشيوخ يجب أن يكون بناء على ما يعرضه مجلس الوزراء».
وفى الحال قدم لى الملك يده وصافحنى قائلا: إننى موافق على رأى يبدى بهذا الشكل، فعقب زغلول باشا على ذلك بقوله: وأنا أيضا!
انتهت المقابلة وعندما رافقت رئيس الوزراء فى السيارة أخذ يدى بين يديه بعطف شديد ثم شكرنى قائلا: لقد أنقذت مصر من أزمة شديدة وشديدة جدا».
وفى نفس سياق هذه الواقعة السياسية يروى الأستاذ الكبير مصطفى أمين أن الملك فؤاد قال: الحمد لله العقدة انحلت! قال سعد: بحكمة جلالتكم! قال الملك: كنت أعتقد بسلامة نية أن الحق معى فتمسكت به، ولكن لما رأيت غير ذلك لم أتردد فى العدول عن موقفى!
وأجاب سعد: هذا ما عهدناه واعتقدناه وما قلته لإخوانى، وإذا كنا قد تمسكنا بحقوق الشعب كل هذا التمسك فلكى نثبت للعالم أنكم فى الظاهر كما أنتم فى الباطن ملك دستورى تحترم الدستور، فإذا كان لكم حق لا تفرطون فيه، وإن كان الحق للشعب احترمتم رأى الشعب، وإننى بصفتى أول سكرتير لكم فى العهد الديمقراطى إنما أغار كل الغيرة على حقوقكم كملك دستورى».
انتهت القصة التى جرت وقائعها شتاء سنة 1924 ورحل أبطالها ولكن يبقى الدرس المهم وهو الحوار.. الحوار.. الحوار.. الحوار!
وبعد الحوار لا فائز ولا مهزوم، بل الوطن هو الفائز الوحيد.
كلنا بشر، وليس منا من هو فوق القانون والدستور، والحوار هو الطريق الوحيد والأوحد لحل خلافاتنا الدستورية لا العناد الأجوف والتشبث بالرأى حتى لو كان خاطئا!
ما ينقص مصر الآن أكثر من فضيلة، فضيلة الحوار والتفاهم، وفضيلة الاعتراف بالخطأ دون مكابرة.