على عكس كل التوقعات أخفق إخوان ليبيا فى أول اختبار انتخابى شهدته بلادهم منذ أيام، وجاءت النتيجة لصالح دعاة الدولة المدنية، وتجاوزت ليبيا العقبة الأولى فى طريق بناء دولة حديثة أساسها المواطنة والحرية والديمقراطية، بعد أن نجت من سيناريو أفغانستان، وفشل المخططات التى رسمتها قوى عربية وإقليمية لدعم ومساندة التيارات المتشددة لتتصدر المشهد السياسى فى هذا البلد الغنى بالنفط. الآن تنفس الليبيون الصعداء ووضعوا أقدامهم على الطريق الصحيح للتحول الديمقراطى الحقيقى، ويستعد قادة تحالف القوى الوطنية صاحب الأغلبية فى الانتخابات لتشكيل أول حكومة منتخبة تتسلم السلطة من المجلس الانتقالى، والعمل على وضع دستور دائم، ثم الانطلاق نحو المستقبل بخطى ثابتة تستند إلى قاعدة شعبية متينة. بمجرد اندلاع الثورة الليبية فى 17 فبراير 2011 فى وجه نظام القذافى، ونشر صور الشباب الليبى الملتحى وهو يقود عربات تحمل مدافع الهاون والرشاشات، خرج معمر القذافى يخير أوروبا والعالم بين مساندته للقضاء عليهم وبين الاستعداد للتعامل مع إمارة إسلامية على الطريقة الأفغانية تكون بديلاً له فى حكم ليبيا، لكن نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة خيبت آمال القذافى وكل من راهن على سقوط ليبيا فى أيدى المتطرفين، بعد أن حقق تحالف الأحزاب المدنية الذى يتزعمه الأكاديمى محمود جبريل الفوز بثقة أغلبية الليبيين فى أول انتخابات تشهدها ليبيا على مدى نصف قرن أو أكثر.. هذا التكتل تعرض للتشكيك والشائعات ومحاولات التشويه من جانب التيارات الأخرى التى مُنيت بالفشل رغم أنها راهنت على الترويج لشعارات دينية براقة، وخاضوا معركة تكسير العظام ضد تكتل «جبريل» الذى أطلقوا عليه اسم التيار «الليبرالى» بقصد دغدغة مشاعر الرأى العام الليبى على اعتبار أنهم وحدهم الذين يمثلون الإسلام دون غيرهم. ماذا حدث فى ليبيا؟ ولماذا اقتنع المواطن الليبى ببرنامج الدولة المدنية، ولم يمنح ثقته لدعاة الدولة الدينية، كما حدث فى كلٍ من مصر وتونس؟
المفارقة المدهشة أن القذافى وأعوانه دعموا فوز رموز تحالف «القوى الوطنية» فى الانتخابات، لأن القذافى اعتاد طوال الأربعة عقود الذى حكم فيها ليبيا أن يلعب بكل الأوراق، وكانت ورقة الدين هى الأكثر استخداماً ورواجاً لتثبيت نظام حكمه، لن ينسى الليبيون ولا العالم جولاته «التبشيرية» فى أفريقيا واستقباله الدائم لسلاطين وزعماء العديد من القبائل الأفريقية الذين كانوا يختارونه دون غيره ليكون شاهداً على اعتناقهم للإسلام، فضلاً عن إصراره على إمامة الناس فى الصلاة وتشييده للمساجد سواء فى داخل ليبيا أو فى خارجها، بالإضافة إلى تحريمه بيع وتجارة الخمور، والحرص على الظهور فى صورة المدافع الغيور وحامى حمى الإسلام والمسلمين فى كل مكان.. كل هذه المظاهر وغيرها ظل يتعامل معها المواطن الليبى على أنها لا تعدو سوى أكذوبة تخفى ما وراءها من فساد وانحراف فكان السمة الأساسية لنظام حكم الطاغية، فأصبح لديه حصانة ومناعة قوية تحول بينه وبين كل من يسعون للمتاجرة بالدين بهدف الوصول إلى السلطة.
العامل الأهم الذى ساهم فى دعم تحالف محمود جبريل فى حسم المعركة لصالحه كان الدور «القطرى» الذى دارت حوله العديد من الشبهات، حيث دعمت الدوحة وبشكل علنى قيادات جهادية وشخصيات ليبية كانت مقربة من زعيم حركة طالبان الأفغانية الملا عمر.. هذه الرموز حرقتها الأموال القطرية التى كانت تتدفق بسخاء على العاصمة الليبية حتى إن أحد هؤلاء أنفق ما يقرب من 20 مليون دولار على تدعيم حزبه فى الانتخابات الأخيرة، مما ضاعف من شكوك المواطن الليبى فى الدور الذى يمكن أن تقوم به قطر ومن تدعمهم فى رسم مستقبل بلادهم! لا يمكن أن نتجاهل تأثير التجربتين التونسية والمصرية على قرار الناخب الليبى، فمن حسن حظ الليبيين أن العملية السياسية بدأت فى بلادهم بعد ما شاهدوه من أخطاء وقع فيها رموز الإسلام السياسى فى البلدين، انحازوا إلى الدولة المدنية وتجنبوا السقوط فى أيدى دعاة تحويل ليبيا إلى إمارة إسلامية.
لماذا فاز الإخوان فى مصر وتونس ولم يحققوا نفس النتيجة فى ليبيا؟ فايز جبريل المفكر والسياسى الليبى يرى أن عوامل كثيرة ساهمت فى تراجع جماعة الإخوان المسلمين فى تحقيق الأغلبية بتلك الانتخابات رغم أنها لجأت إلى تطبيق نفس الآليات التى سبق أن طبقتها فى التجربتين المصرية والتونسية، حيث دخلت الانتخابات تحت غطاء حزب «العدالة والبناء» كذراع سياسية للجماعة فى ليبيا، لكن الظروف والبيئة الليبية تمردت ورفضت منح الإخوان ثقتهم لأسباب عملية منها: أنهم وقعوا فى بعض الأخطاء الجوهرية بتحالفهم مع القذافى فى السنوات الأخيرة من حكمه، وعقدوا صفقات سياسية معه وكانوا مستعدين لدعم مشروع توريث الحكم من القذافى إلى ابنه سيف الإسلام مقابل منحهم عددا من المميزات وبعض الحقائب الوزارية، فضلاً عن أن وساطة الشيخ القرضاوى عند القذافى عام 2004 التى انتهت بالإفراج عن بعض رموزهم من المعتقلات تركت ضغينة فى نفوس باقى رفاقهم المحسوبين على تيارات سياسية أخرى، لأن وساطة القرضاوى اقتصرت على عناصر الإخوان دون غيرهم.
المفكر الليبى أحمد إبراهيم الفقيه يتفق مع فايز جبريل فى الكثير من النقاط التى ساهمت فى عدم تكرار النموذج المصرى والتونسى بالنسبة لجماعة الإخوان فى ليبيا، ويضيف أن تحالف القوى الوطنية الذى شمل حوالى 65 حزباً سياسياً من إجمالى نحو 400 حزب ظهرت فى الأشهر الأخيرة جاء تشكيله شديد الذكاء، حيث ضم تحت رايته جميع ألوان الطيف السياسى بما فيها أصحاب التوجهات الإسلامية المعتدلة، كما اعتمد بالدرجة الأولى على برنامج سياسى شامل مفصل تعهدوا بتطبيقه وتم طرحه للرأى العام قبل الانتخابات تناولوا خلاله مشاريع تنموية وتربوية وصحية، فى المقابل اعتمد الطرف الآخر على اللعب على مشاعر الناخبين بلافتات دينية سئم منها المواطن الليبى على مدار سنوات حكم القذافى، فضلاً عن أن دعم قطر لبعض رموز التشدد والجهاديين السابقين أتى بنتائج عكسية تماماً واستبعدهم الناخب الليبى ولم يمنحهم صوته واختار الدولة المدنية التى تبناها تحالف محمود جبريل الذى لم يغفل التعهد بأن تكون مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر التشريع فأغلق الباب أمام المزايدين والمتاجرين بالدين فى السباق الانتخابى.
السفير هانى خلاف مساعد وزير الخارجية الأسبق ومبعوث مصر الخاص إلى ليبيا يتوقع أن يسند تحالف جبريل بعض الحقائب الوزارية إلى جماعة الإخوان لأنهم حصلوا على نسبة لا بأس بها فى الانتخابات، صحيح أن الأغلبية فى صالح التحالف، لكن حضور تيار الإخوان فى البرلمان الليبى المرتقب سيكون معقولا ويؤهلهم للمشاركة فى الحكومة المقبلة، لكن بشكل عام كان نظام القذافى لا يسمح لأتباع التيارات الإسلامية بالعمل كما كانوا هدفاً للملاحقة والسجن بشكل دائم، مما جعل ليبيا ساحة خالية له ولأنصاره بلا منازع طوال سنوات حكمه الطويلة. وحول احتمالات دخول ليبيا فى دوامة الصراع على السلطة فى الفترة المقبلة قال السفير خلاف: هذا الاحتمال أصبح ضعيفاً الآن بعد حسم المعركة الانتخابية لصالح التيار المدنى، وأن الأوضاع تتجه فى ليبيا نحو مزيد من الاستقرار خاصة لو تمكن أنصار التحالف الوطنى من تنفيذ مشروعهم النهضوى ببناء دولة ديمقراطية تسودها العدالة والمساواة فى توزيع الثروة والسلطة لأن ليبيا تعد من أكثر الدول العربية المؤهلة للتحول الديمقراطى بسهولة بسبب قلة عدد السكان ووفرة النفط والغاز والسواحل والواحات والثروات الطبيعية الأخرى.