حياة الفتى الليبى الألمعى، شكرى غانم، انتهت تماما كما يحدث فى القصص البوليسية، جثة مجهولة، طافحة فوق نهر الدانيوب، المشهد المثير فى ذلك الجزء من النهر وهو يعبر أكثر المناطق ثراء فى فيينا، حيث تتناثر مجموعة اليخوت، وعلى الضفتين أبراج لهيئات دولية وعمارات سكنية يقطنها أهل الثراء، غاطسة فى أبخرة الصباح ، صورة عامرة بشتى المعانى والمفارقات لنهاية المسئول الأول عن نفط ليبيا بعد رئيس النظام الطاغية الهالك معمر القذافى، يتعامل بالإنابة عن الطاغية وعن ابنه، مع شبكة عريضة ممتدة حول العالم، من وكلاء الشركات النفطية وأصحابها استكشافا وإنتاجا وتوزيعا وتصنيعا.
بكل ما يعنيه ذلك من مليارات الدولارات، فكيف ينطلى على عقل مثل عقل أجاثا كريستى أن موته كان موتا طبيعيا، جاء نتيجة أزمة قلبية، سقط أثرها على الأرض وتدحرج فى الماء كما تقول بعض التقارير، وكيف لا ترى فيه بعقلها المدرب على التعامل مع أكثر الجرائم تعقيدا، مجالا لاختبار مهاراتها الفنية والأدبية، بل وتجاربها مع ما رأت وقرأت وسمعت من قصص حقيقية كانت هى المخزن الذى تستقى منه عناصر القصص التى تقوم بتأليفها، فتبدأ من فورها وانطلاقا من هذا المشهد فى حياكة القصة المفعمة تشويقا وتعقيدا وتداخلا فى المصالح والمطامع واستكشافا لكواليس عالم المال والأعمال وما يجرى فيه من صفقات وما يدار فيه من مكايد وما يتم من تبادل المنافع والخدمات وشراء الذمم والضمائر.
تضاربت الأقوال كثيرا حول ما إذا كان موت الرجل طبيعيا إثر نوبة قلبية فاجأته وهو يتريض قريبا من بيته، أو أنه جاء بفعل فاعل قام بإغراقه فى النهر لتطفو جثته بعد ذلك على السطح.
كما تضاربت الأقوال التى تناقلتها الصحافة، فقد كان الخبر الأول الذى أعلن وفاته للعالم يقول أنه مات فى بيته بسبب سكتة قلبية، وتضاربت فيما بعد أقوال الشرطة النمساوية التى ذكرت فى أسباب موته أنه ناتج عن نوبة قلبية ثم ذكرت اسفيكسيا الغرق كسبب للموت، كما صدر عن نفس الشرطة تقرير طبى يتحدث عن هبوط حاد فى الدورة الدموية أدى إلى امتناع الدم عن الوصول إلى عضلة القلب، وهو تضارب يلقى مزيدا من الشك على الموضوع، خاصة إذا عرفنا ما للرجل من أسرار مافيات الثروة النفطية فى العالم، وهو الذى كان لاعبا فى قلب الغابة، دون أن تكون له براثن وأنياب الوحوش المفترسة التى تسكن الغابة.
أحزننى كثيرا خبر موته بهذه الطريقة الفاجعة، فقد كان صديقا قريبا جدا من نفسى، برغم المسافة التى باعدت بينى وبينه بعد انتسابه إلى الحلقة الأولى من رجال الطاغية، وقد كتبت وهو فى أوج قوته وقوة المناصب التى يحتلها مقالا مطولا عبرت فيها عن صدمتى فى سلوكه، وتكلمت فيها عن التناقض المتمثل فى وجوده ضمن تلك الفئة من محتلى المواقع المتقدمة من حكم الطاغية، وعن المفارقات والدروس الناتجة عن ذلك التناقض.
كنا فى لقاءات فترة الشباب، نسميه الطفل المعجزة، فقد كان خارق الذكاء، منذ صباه، عرفته مباشرة بعد تخرجه من الجامعة الليبية وانتسابه إلى الإعلام، ليعمل محررا ثم رئيس تحرير، بوكالة الأنباء الليبية، فى منتصف الستينيات، وكان بجوار تخصصه الاقتصادى قد أتقن اللغة الإنجليزية، يكتبها ويتكلمها مثل أهلها، وانتقل من وكالة الأنباء إلى مجال تخصصه فى الاقتصاد قبل أن يحصل من وزارته على بعثة للدراسات العليا ويذهب إلى بوسطن فى أمريكا، ويحصل على الماجستير ثم الدكتوراة من إحدى جامعاتها، بإعداده لرسالة نالت إطراء كثيرا وطبعتها الجامعة ضمن منشوراتها بعنوان تسعير النفط الليبى الخام، وبسبب الفراغ فى الكوادر الناتج عن انقلاب سبتمبر 69 وما قام به أهل الانقلاب من عمليات تطهير للجهاز الحكومى ممن فيه من خبراء وكفاءات، صعد شكرى غانم بسرعة مناصب الإدارة العليا فى الاقتصاد ووزارة النفط وتبوأ فى عام 1975 ورغم صغر سنه، المركز الثانى فى وزارة النفط نائبا للوزير عز الدين المبروك.
ظلت سحابة سوداء تحوم فوق رأس شكرى غانم جزاء عصيانه وعدم امتثاله للأوامر، علاوة على ما يتمتع به من حس بالدعابة يجعله لا يستطيع أن يمتنع عن إطلاق التعبير الساخر الفاضح الذى يعرى ممارسات الحكومة ويكشف شذوذ هذه الممارسات خاصة وهو يراقب ما يحدث فى مجالات تخصصه وهى الاقتصاد والنفط، وكانت هذه النكت السياسية التى كنا نسمعها منه ويسمعها أيضا من يتقنون كتابة التقارير، تضع فى ملفه مزيدا من الأوراق التى تكون ذرائع وأسبابا لمن يريد أن يحاربه حتى وهو يلتقط رزقه من التدريس فى جامعة تبعد عن مقر سكناه مائة كيلو متر، ولم تنته هذه المتاهة إلا عام 1993 عندما وجد صديقا شجاعا لم يستشر أحدا فى منحه رسالة إذن للالتحاق بواحد من اختبارات منظمة الأوبك، وبسبب خبرته وكفاءته حصل على وظيفة مستشار، انتقل بعدها ليكون مدير إدارة الأبحاث ثم مساعدا لأمين عام المنظمة، وحدث فراغ فى منصب الأمين العام، فبقى شكرى غانم ولعدة أسابيع هو الأمين بالإنابة، وظل أثناء عمله فى وظيفته مع الأوبك التى استمرت إلى أن وصل سن التقاعد بعد ثمانية أعوام، غريبا عن الدولة الليبية، لا صلة ولا تواصل بينه وبين أهلها، لكنه وجد لنفسه مكانا ومستقرا ووظيفة ترضى طموحه وتتفق مع مهاراته وإمكانياته، ومن مدخراته والتسهيلات المصرفية التى يجدها من يحتلون منصبا دوليا مثله، استطاع أن يقتنى لنفسه شقتين فى إحدى العمارات الأنيقة الفاخرة، تطلان على ضفاف نهر الدانيوب، ملاصقتان لبعضهما، قريبتان من مقر عمله فى منظمة الأوبك، ومن مقر المنظمات التابعة للأمم المتحدة فيما يسمى أفضل مواقع العاصمة النمساوية.
فى فيينا نشأت علاقة بينه وبين «سيف» ابن القذافى المدلل بعد أن اتخذها، مكانا لسياحاته ودراسته الجامعية، واشتهر فى الصحافة بامتلاكه لاثنين من النمور، يسير بهما فى شوارع فيينا ويذهب بهما للمنتديات والمطاعم والمقاهى، وقد احتاج الصبى لخبرة شكرى غانم ومعارفه بل ونبوغه، لكى يكتب له ما يحتاجه من أوراق بحثية يجب على من يطلب النجاح الجامعى تقديمها، بينما كان هو لاهيا بغرامياته ونموره وسهراته وحفلاته، وهو احتياج كان يزداد ولا ينقص مع تقدم الولد فى الدراسة، فشهادة الماجستير تحتاج إلى بحث أو مشروع ، ثم شهادة الدكتوراه التى تحتاج لبحث أكثر وعورة وعمقا، لأن الطالب الذى سيقدمها، ويقف لنقاشها ليس هو كاتبها، وإنما السيد شكرى غانم الذى لابد أنه جاءه بأسئلة الدفاع عن أطروحة الدكتوراه لتلقينه الإجابة عليها.
كان يمكن أن ينتهى الأمر عند هذا الحد، لن يكون غريبا أن يتقاضى السيد شكرى ثمنا لما يبذله من جهد مع الولد، وهذا الثمن قد يكون بيتا فى ليبيا، أو هدية مالية أو شقة أخرى فى النمسا يستفيد بإيجارها فى تلك البلاد، فهناك سبل شتى للمكافأة يتقنها أهل الحكم ويعرفون أساليبها، أكثر مما يعرفها من يتلقى الهدية نفسه، ولكن العلاقة صارت وثيقة إلى حد أحس معه الابن أنه لم يعد قادرا على أن يبتعد عن هذا الرجل المرح، الخبير بأمور الدنيا وأسرارها اقتصادا وسياسة، فكيف يستطيع الاستغناء عنه وهو يؤهل نفسه ليكون الوريث الرسمى لعرش والده، ولعل شكرى غانم، رأى أن هذه العلاقة التى ربطته بابن الطاغية، سوف تتيح له فرصة للانتقام ممن «أهانوه واضطهدوه» فى الدولة الليبية، وحرموه من الصعود فى موقعه الطبيعى، ومها كانت المشاعر التى ساقته لتوثيق هذه الرابطة، واستخدامها بوابة للعودة إلى السياسة الليبية، فإنها هى سبب نكبته ومأساته.
فقد كانت الإشاعات تلاحقه بأنه راكم بعض الملايين، ولكن أى نفع و أى ملايين، فقد شاء الله أن يجعله درسا وعظة، وفى اللحظة الأخيرة التى قال فيها لنفسه أنه قد انتهى العناء، وآن له أن ينعم بما اقتطعه لنفسه من ملايين إذا صدقت «الإشاعات»، جاءت ضربة القدر، لتجعله جثة طافحة فوق مياه نهر الدانيوب، سواء بفعل فاعل أو بنوبة قلبية طبيعية، وبعيون دامعة سرت خلف نعشه، وشاهدته وهم يدرجونه فى حفرة القبر، وأدركت أن الطاغية يقتل أحيانا روح الإنسان وهى ما تزال فى جسد يتحرك ويمشى على الأرض، وهأنا اليوم أجلس فى ذكرى مرور أربعين يوما على وفاته، أكتب هذا المقال عنه، دون أن تظهر التقارير الموعودة التى تحسم الأمر، وتقول بصوت واضح عما إذا كان الرجل مات موتا طبيعيا، أم بفعل مجرم أراد إسكات صوته ودفن أسرار خطيرة معه، لعل هذا ما أراد القاتل إذا كان موجودا، لكننى لا أظنه سيفرح بجريمته طويلا لأننى عرفت من أهل الراحل، أنه قبل وفاته بأيام قد انتهى من كتابة مذكراته، كما أخبرنى صديقه وزميله وكان فى فترة من الفترات أستاذا له، السيد إبراهيم الهنقارى، أنه كان سيرسل له هذه المذكرات ليكتب لها مقدمة بناء على طلب الفقيد، ولكنه مات قبل أن يرسلها إليه، عليه رحمة الله ورضوانه.