رغم التباعد الجغرافى، والاختلاف المذهبى، والتنوع اللغوى، والحضارى بين مصر وإيران، إلا أن هناك عوامل تلاقى عديدة تجمع الشعبين، فمصر تحظى بموقع ومكانة استراتيجية فى القارة الأفريقية، وتتمتع برصيد ثقافى وحضارى يشع على محيطها العربى، فى المقابل تستحوذ إيران على كم هائل من الثروات البترولية والمعدنية إلى جانب التقدم الصناعى والتكنولوجى.. لكن إيران الآن تحتاج أكثر للتقارب مع مصر، فى ظل احتمالات سقوط حليفها السورى فجأة ومن ثم حرمانها من نفوذ إقليمى حصلت عليه بدعمها الدائم لقوى المقاومة فى لبنان وفلسطين.
كما أن طهران تثق بأن الدور المصرى يسعى للبحث عن مساحة للتعاون وتبادل المصالح، ولن يتصادم معها بل تتوقع أن يكون مصدراً لتخفيف حدة توتر علاقاتها بدول الخليج، والمجتمع الدولى.
أثناء زيارتى الأخيرة لإيران لاحظت أن لسان حال أغلب المسئولين الذين التقيتهم مع زملائى فى الوفد الصحفى،يتمنون لمصر أن تصبح «إسلامية »، فى نفس الوقت عبروا عن استعدادهم وترحيبهم بالتعاون الكامل مع من يمنحه المصريون ثقتهم فى المرحلة القادمة.. سبب تفضيلهم أن تكون إسلامية يرجع إلى اعتقادهم بأن مساحة التفاهم مع الإسلاميين ستكون أوسع وأكبر من أى نظام آخر، بصرف النظر عن الاختلاف المذهبى.
رغبة إيران فى التقارب السريع مع مصر بعد ثورة 25 يناير، ربما تفسر نشاط القائم بالأعمال الإيرانى فى القاهرة «مجتبى أمانى» مؤخراً، الذى أقام جسراً جوياً مباشراً بين القاهرةوطهران لاستضافة شباب الثورة والإعلاميين والمثقفين والبرلمانيين والأدباء وأسر الشهداء، وغيرهم من كل طوائف وفئات الشعب المختلفة.. هدف الدبلوماسى الإيرانى من وراء ذلك تهيئة الأجواء الشعبية لإعادة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين البلدين بعد قطيعة استمرت أكثر من ثلاثة عقود متواصلة. هل يمكن أن تستفيد مصر من التجربة الإيرانية بدون أن تخسر حلفاءها فى الخليج والسعودية ؟
- أتصور أن مصر بعد الثورة سوف تعيد النظر فى علاقاتها الإقليمية والدولية، بحيث يتم تقويم علاقاتنا مع الأطراف العربية والدولية وفقاً لمنطق المصالح لا العواطف، ومن هنا يمكن أن تستفيد إيران من وضع ووزن مصر الدولى لتحسين صورتها عالمياً بل ربما يصل الأمر إلى حد إعادة الروح لمشروع التعاون الاقتصادى الذى يربط دول العالم الإسلامى من ماليزيا وأندونيسيا فى جنوب شرق آسيا مروراً بإيران وتركيا ومصر وصولاً إلى نيجيريا على شاطئ الأطلنطى.
سألت الرئيس الإيرانى أحمدى نجاد مباشرة عما يرغبونه من مصر بعد الثورة.. فابتسم قائلاً: نحتاج التضامن، مع شعب مسلم نكن له كل الحب والإحترام،بعد أن وقف الحكام «الطغاة» عقبة فى طريق تقارب شعبين عظيمين وأمتين كبيرتين بحجم مصر وإيران، كما وقفت قوى «الاستكبار» وأفشلت أى تعاون بيننا لأنها تدرك جيداً أن هذا النوع من التعاون لن يصب فى صالحها بل فى صالح المسلمين.. قلت له لدينا مخاوف من نشر التشيع فى مصر ؟ رد بسؤال هل الإسلام دين واحد أم أكثر؟ فقلت طبعاً واحد. قال إذن لا خلاف بيننا، خاصة أن الثورة الإسلامية فى إيران وضعت نصب عينها من اللحظة الأولى لنجاحها ضرورة العمل على دعم وحدة المسلمين التى كانت محوراً أساسياً فى منهج زعيم الثورة آية الله الخومينى،وأشار الرئيس الإيرانى إلى أن لدينا أصواتا تخشى من المد السنى أيضاً، ونحن نثق بأن أى تعاون بيننا سيجنى ثماره الشعبين المصرى والإيرانى.
بعيداً عن كلمات المجاملة للرئيس أحمدى نجاد.. بنظرة متفحصة للواقع الإيرانى يقفز سؤال مشروع. ما الجوانب التى يمكن أن يقوم عليها التعاون بين مصر وإيران فى المرحلة القادمة ؟ قبل البحث عن إجابة هذا السؤال هناك بعض الحقائق حول الاقتصاد الإيرانى، فمثلاً بلغ إنتاج إيران من سيارات الركوب العام الماضى نحو مليون و500 ألف سيارة من أنواع فرنسية وكورية ويابانية وتقوم بتصدير حوالى ربع مليون سيارة للسوق العراقية والمصرية أيضاً،كما اشترت خطوط إنتاج الأتوبيسات الألمانية وأصبحت تكتفى ذاتياً والآن تستعد لتصدير الفائض لبعض دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا، كما تتمتع إيران بشبكة حديثة من الطرق السريعة ذات المواصفات العالمية تربط طهران بباقى المدن والأقاليم الإيرانية، إلى جانب شبكة من السكك الحديدية المتطورة حيث تنطلق 200 رحلة للقطارات يومياً من العاصمة إلى مختلف مدن الجمهورية منها 20 رحلة فقط إلى مدينة «مشهد» الدينية، ويجرى تحت أرض العاصمة طهران مترو أنفاق يعد الأطول والأضخم فى دول المنطقة حيث يصل طوله إلى 400 كم دخل منه الخدمة 85 كم ويصل عمق بعض المحطات إلى أكثر من 100 متر تحت سطح الأرض، اللافت أن جميع معدات الحفر والتشغيل فى الأنفاق يتم تصنيعها بالكامل محلياً، كما أن الشركات التى تنفذ المشروعات العملاقة كلها تعتمد على العنصر الإيرانى وربما كان بناء برج «ميلاد» قبل أقل من عشر سنوات بالجهود المحلية يعد بروفة عملية على دخولهم عالم التشييد والبناء حيث يعد أعلى قمة فى طهران ويصل ارتفاعه إلى حوالى 154 متراً، مما شجع الإيرانيين على استمرار التحدى والاعتماد على الذات فى كل شىء.
الأمر المهم أن الحكومات المتعاقبة بعد ثورة الخومينى نجحت فى حسم قضية الحد الأدنى للرواتب حيث تقرر أن يكون ما يعادل 800 دولار، وأن يصل الحد الأقصى إلى 1200 دولار،كما حسمت أيضاً مسألة الدعم قبل تحرير أسعار السلع والخدمات باستثناء البنزين،الغاز، الخبز، الكهرباء، الماء.. تلك الحكومات طبقت نظام الدعم المالى بحيث يتوجه المواطنون بداية كل شهر إلى البنك المجاور لمسكنهم لتسلم راتب شهرى، كما أن كل شاب فى سن العمل يتقاضى إعانة بطالة قيمتها 200 دولار تتوقف بعد أن يتم توفير العمل المناسب له، وتلتزم الحكومة بتوفير مسكن ملائم لكل مواطن وفقاً لظروف كل فئة، وهناك برنامج لإسكان الشباب ينفذه الرئيس الإيرانى أحمدى نجاد ضمن برنامجه الانتخابى فى دورته الثانية،ويوجد فى إيران حوالى 2 مليون عاطل فى سن العمل، لكن الدولة تقدم لأصحاب المصانع والمعامل قروضاً وتسهيلات مقابل كل فرصة عمل جديدة يتم توفيرها.
فى لقاء مع الدكتور على لاريجانى رئيس مجلس الشورى الإسلامى والمرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية فى عام 2013 سألته عن الحصار الدولى وتأثيراته على حياة الإيرانيين، فرد قائلاً: يجب على كل إيرانى أن يوجه الشكر إلى الدول الغربية التى فرضت علينا هذا الحصار لأنه فى اليوم التالى بدأنا مضطرين إلى الاعتماد على أنفسنا فى تدبير كافة احتياجاتنا ولم نعد نعتمد على الخارج فى شىء، والبنزين هو الذى سبب لنا مشكلة لفترة قصيرة بعدها حولنا أغلب السيارات والشاحنات للعمل بالغاز الذى يتوفر بكثافة لدينا، كما نشط علماؤنا فى البحث عن مشتقات البنزين حتى نجحنا فى إنتاجه محلياً ومستعدون لتزويد مصر والدول الصديقة بهذه المواد.
فى الليل تبدو طهران متوهجة بالأضواء القوية التى تأتى من السدود العملاقة التى أصبح مهندسوها بارعين فى بنائها وتشغيلها وكان عدد هذه السدود لايزيد على ثمانية قبل الثورة الآن تضاعف هذا العدد وأصبح 16 سداً عملاقاً يعمل بشكل مزدوج على حجز المياه لاستخدامها فى الزراعة وأيضاً لتوليد الطاقة الكهربائية، ومع ذلك قطعت إيران شوطاً طويلاً فى امتلاك التكنولوجيا النووية متحدية بذلك كافة الضغوط الدولية لحرمانها من هذه التكنولوجيا.. لاريجانى فسر هذا الإصرار بأن القوى الكبرى فى العالم تدرك بأن العلم هو التحدى الأكبر الذى يقسم الشعوب إلى نصفين الأول أغنياء والثانى فقراء، فى حين أن الفيصل سيكون فى التكنولوجيا النووية السلمية فهم يريدون حرمان المسلمين من هذه التكنولوجيا ليظلوا هم المتحكمين فيها، ونحن مُصرون على استخدام حقنا المشروع فى امتلاكها مهما كانت التضحيات.