الكثير من المؤشرات يدل بسهولة على أن الولاياتالمتحدة فى طريق لا رجعة فيه نحو الضعف والزوال، وأنه قد حان الوقت لكى تسلم عصا القيادة ورايتها إلى الصين أو أية قوة أخرى، منها غرقها فى الحروب، وخارجها بجراحها من أخرى، وصراعات اقتصادية وأزمة ديون متزايدة ومتفجرة. بالتأكيد أن الولاياتالمتحدة تواجه تحديات كبيرة وخطيرة، وصحيح أنها كانت قبل عقد من الزمن أفضل حالا اقتصاديا بكثير مما هى عليه الآن، ولكن أولئك الذين يرون أن ضعف أمريكا أصبح أمرا حتميا ولا يمكن تفاديه، يتجاهلون تاريخها من المرونة ويسيئون قراءة الحقائق والوقائع على الأرض، فضعف أمريكا وانحطاطها ليس أكثر من خرافة أو أسطورة، وهناك خمسة مفاهيم خاطئة نشرتها صحيفة واشنطن بوست لابد من توضيحها وتبديد ما تحمله من التباس: 1- أمريكا لم تعد قوى عظمى
من المؤكد أن دولا مثل روسيا والصين لديها من القوة والتأثير ما يمكنها من منع تحقيق أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وما «الفيتو» الروسى الصينى المزدوج فى مجلس الأمن الدولى ضد التدخل فى سوريا، إلا واحد من أحدث الأمثلة. وهناك رغبة أمريكية متزايدة فى عدم لعب دور الشرطى العالمى، وتعمل على تقليص وجودها فى الشرق الأوسط، وتكافح لإجراء خفض واستقطاعات فى ميزانيتها الدفاعية، بسبب فشل الكونجرس فى التوصل إلى اتفاق حول مسألة الديون، والتى لا تمثل دليلا على تعثر الوضع السياسى لأمريكا وتضرره على المدى البعيد، بل إن معطيات وأرقام الاقتصاد والخزانة تشير إلى قوة الدور الأمريكى العالمى وسلامة المجال الذى يتحرك فيه.
ويبدو أن حالة التشكك فى الاقتصاد الأمريكى تساعد على تقوية وضع الدولار الأمريكى كعملة احتياطية فى العالم، ومن مناقشات الكابيتول هيل يمكننا القول إن أمريكا ليست فى طريق الضعف أو التراجع وظهرها ليس إلى الحائط على النقيض من أوروبا، ولكن استمرار الوضع الاقتصادى الحالى يمكن أن يؤدئ إلى أزمة فى النظام السياسى، ولكن مثل هذه الأزمة لن تطول ليظهر سياسيون ينهضون بالمهمة المطلوبة. وعلى الرغم من كل هذا فإن الولاياتالمتحدة لا تزال القوة العظمى الوحيدة فى العالم، وستبقى كذلك أطول مدة ممكنة فى المستقبل المنظور، فاقتصادها ضعف حجم الاقتصاد الصينى، وأمريكا وحدها القادرة على إثبات أنها القوة العسكرية المتفوقة فى كل منطقة من مناطق العالم، حيث تحتفظ بوجود عسكرى لها فى ثلاثة أرباع دول العالم، وتفوق نفقاتها الدفاعية السنوية مجموع نفقات الدول ال 17 التالية لها مجتمعة، فالدور الأمنى الأمريكى يوفر نفقات ومصاريف عسكرية على اليابان وأوروبا لتحولها إلى أشياء أخرى، كما تقوم البحرية الأمريكية بدور حيوى للغاية فى تأمين طرق التجارة العالمية لتضمن انسيابية الأنشطة التجارية وسلاستها بين مختلف الدول، بينما تصل المساعدات الإنسانية الأمريكية إلى مختلف الدول الفقيرة والمناطق المنكوبة.
2- مستقبل كئيب للاقتصاد
ويعود جزء كبير من أسباب ضعف رغبة الولاياتالمتحدة فى المشاركة فى أنشطة عالمية إلى انهماكها فى متاعبها وبواعث قلقها الاقتصادية فى الداخل: مثل تصاعد أزمة الدين الفيدرالى، والمعدل المرتفع للبطالة، وتدنى الأجور، والتفاوت المتزايد فى الثروة. وعلى الرغم من أن النظرة العامة للاقتصاد الأمريكى تقول إنه ليس مزدهرا، إلا أنه يصعب وصفه بالقاتم. ونظام التعليم الجامعى الأمريكى لا يضاهيه نظام آخر فى العالم، حيث التحق 725 ألف طالب أجنبى بالجامعات الأمريكية العام الماضى. وليست هناك دولة لديها ما لدى الولاياتالمتحدة من طاقة لتحقيق الاختراقات التكنولوجية، فهى الوجهة المرغوبة والمثالية للمشروعات الملهمة، وهى المركز العالمى الأول والأكبر للأبحاث والتنمية، ومنها تنطلق بدايات وادى السيليكون، وفيها تكون مغامرات الرأسمالية ومجازفاتها مثالية. وفى مجال الطاقة فهى رائدة التجديد والابتكار فى المصادر غير التقليدية والبديلة للنفط والغاز، وتقود هذا الابتكار شركات أمريكية، إضافة إلى أن أمريكا هى الآن المنتج الأكبر للغاز الطبيعى فى العالم، وهى أكبر مصدر للغذاء، مما يعطيها نفوذا وحصانة أكثر من غيرها فى حال حدوث أى هزة أو أزمة فى الغذاء أو أسعاره.
ومن الناحية الديموجرافية فإن الولاياتالمتحدة هى الأفضل فى الاقتصادات الكبرى فى العالم. ومن المتوقع أن يزداد عدد سكان الولاياتالمتحدة 100 مليون نسمة حتى عام 2050 وأن تشهد القوة العاملة زيادة بنسبة 40٪ وفى المقابل فإن أوروبا مرشحة لانخفاض عدد سكانها بنحو 100 مليون فى الفترة نفسها، بينما تراوح القوة العاملة للصين مكانها.
3- نظام سياسى مكسور
المتشائمون فى واشنطن يعتقدون أن مشكلات أمريكا تبدو صعبة ومستعصية على الحل. ويرى كثيرون أن الكونجرس شديد الانقسام على نفسه لتمرير أى مشروع قانون ذى مغزى، ولكن يجب علينا ألا ننسى أن الكونجرس فى أول عامين من رئاسة باراك أوباما أقر قوانين لها أهميتها، مثل إعادة النظر فى التأمين الصحى وإجراءات تحفيز الاقتصاد، وإصلاحات دود - فرانك المالية، وحقق إنجازات تشريعية غير مسبوقة منذ ستينيات القرن الماضى.
وسواء كنت من مؤيدى توجهات أوباما وسياساته أو معارضا لها فإن النظام السياسى الأمريكى مازال متماسكا وبعيدا عن الانكسار أو التحطم.
4- صعود الصين على الرغم من صعود نجمها كقوة اقتصادية وسياسية فى العقود الأخيرة، إلا أنه يجب على الصين أن تنفذ سلسلة من الإجراءات الإصلاحية اللازمة لكى تضع نفسها على طريق الدولة العصرية الحديثة. وقد اعترف رئيس وزرائها ون جياو باو بأن نموذج بلاده فى النمو ليس ثابتا أو مستقرا، ويفتقر إلى التوازن والتنسيق ولا يمكن احتماله. فالصين على الرغم من نموها وزيادة نفوذها وقوتها فى كل شىء، إلا أن اقتصادها مازال فقيرا ولا تزيد مقومات نموه على وفرة الأيدى العاملة الرخيصة، وهذا فى الوقت ذاته سلاح ذو حدين، فمادامت أن الصين تسعى باستمرار إلى الارتقاء بمعايير النوعية والجودة فى إنتاج البضائع والسلع فإن الأجور لن تبقى متدنية ولابد لها من الزيادة، كما أن حجم القوى العاملة سيقل مع زيادة الطلب على التخصصات والمهارات الفنية والمهنية.
ونتيجة للزيادة السكانية الكبيرة فى فترة الزعيم الراحل ماوتسى تونج خلال ستينيات القرن الماضى وما تلاها فى السبعينيات من تطبيق حازم لسياسة المولود الواحد، تواجه الصين سيفا ذا حدين أحدهما زيادة سكانية كبيرة وتقلصا فى حجم القوة العاملة بالنسبة لكبار العمال والمتقاعدين منهم، وتبلغ نسبة العمال إلى المتقاعدين حاليا ستة إلى واحد، ولكن من المتوقع أن تتراجع فى عام 2040 لتبلغ اثنين إلى واحد. وأخيرا يمكن أن تتخيل عالما تصبح فيه دولة فقيرة مثل الصين أكبر اقتصاد فى العالم، فرغبة الحكومة الصينية فى تولى القيادة بشأن قضايا مثل التغيرات المناخية أو حظر الانتشار النووى ستبدو على الأرجح باهتة وضعيفة للغاية مقارنة بما تقدمه القيادة الأمريكية حاليا. فلن تحل بكين محل واشنطن فى أى وقت فى المستقبل.
5- تراجع الدور القيادى
يمكن ملاحظة أن الدور العالمى لأمريكا آخذ فى التغيير، فعلى الرغم من أنها مازالت القوة العظمى الوحيدة فى العالم، إلا أن نفوذها وقوتها يتناقصان، ولكن الأمر المهم هو أن ظهور قوى إقليمية أخرى منافسة بشكل أو بآخر زاد الطلب على القيادة الأمريكية، خاصة فى آسيا، حيث تتسابق دول كثيرة من جارات الصين والقريبة منها لإقامة علاقات شراكة اقتصادية وروابط أمنية وسياسية قوية، مما يوفر مزيدا من الثقة والأمان ليس للدولار الأمريكى بل لليورو أيضا. وتبدو الفترة الحالية بإنتاجيتها الأقل، أقل ألما للولايات المتحدة أكثر من غيرها، فهى لم تتمكن من التعامل مع العالم انطلاقا من التركيز على مصالحها الفردية الضيقة، ولو تمكنت من ذلك فستجنى الكثير من الفوائد، ولا يمكن إنكار انحسار الدور العالمى لأمريكا، والميول المتزايدة فى التركيز على المصالح الأمريكية، ولكن لا يمكننا أن نقرأ هذا الأمر خطأ ونفسره على أنه من علامات ضعف أمريكا.