أين اختفي جيل الأسطوات الكبار الذين بنوا السد العالي.. وعبروا القناة وحطموا خط بارليف.. وأقاموا مصانع الغزل والنسيج في المحلة الكبري.. والأسمنت والحديد في حلوان.. والمزارع في الصالحية.. إن شبابنا الساهر طوال الليل علي أرصفة المقاهي يبدد أغلي طاقة ندخرها لمستقبلنا.. وهو يدخن الشيشة ويلعب الطاولة.. بعد أن طال انتظاره للأسطوات من أصحاب الخبرة.. الذين قامت علي أكتافهم نهضة بلادنا في القرن الماضي.. فقد كان طلعت حرب أسطي في بناء الاقتصاد الوطني.. وسلامة موسي أسطي في تبسيط العلوم ونشر المعارف.. ومحمد عبدالوهاب أسطي في المزج بين موسيقي الشرق وموسيقي الغرب.. وقاسم أمين أسطي في إثارة المناقشات حول دعوته لتحرير المرأة.. والدكتور حسين فوزي أسطي في تذوق الناس للموسيقي الرفيعة وعلوم البحار.. وإثراء عقول الشباب بخلاصة تاريخ بلادنا.. وتوفيق الحكيم أبرع الأسطوات في هضم الفنون والآداب.. وامتصاص رحيقها كما تفعل النحلة.. وهو يسقينا قطراتها في المسرح والرواية.. وكأنه يواصل طريق جدنا رفاعة الطهطاوي.. في استخلاص عروق الذهب من منجم الحضارة الأوروبية..والسؤال الذي يفرض نفسه هذه الأيام.. هو أين اختفي شيخ الأسطوات طه حسين.. الذي نحتفل بذكري رحيله.. لقد اختار أن يعيش في داخل المنجم.. بعد أن تزوج سوزان الفرنسية.. وأهداها مقدمة ابن خلدون.. كما تزوج نابليون بونابرت من زينب البكرية وأهدانا المطبعة وكتاب «وصف مصر» وطلب من شامبليون فك طلاسم حجر رشيد.. هل مازال طه حسين يعيش داخل منجم الذهب.. مع سوزان الفرنسية.. وهو يغربل تراثنا القديم.. ليفصل الذهب عن الحصي.. ويربط بين تمرد فيلسوفنا «المعري» في لزومياته وفي رسالة الغفران وبين تمرد الأديب الفرنسي «فولتير» علي التقاليد التي تكبل الإنسان بالقيود.. إن كان مازال حياً.. فلا شأن لنا به.. لأننا تعودنا أن نرفع الموتي إلي أعلي عليين.. ونهبط بالأحياء إلي أسفل سافلين.. ولن نبذل جهداً في إنقاذه من داخل المنجم.. كما فعلت «تشيلي» في إنقاذ العمال من المنجم لأننا لم نعد نهتم بغربلة تراثنا القديم.. بعد أن امتلأت عقول شبابنا بالحصي.. وإن كان قد مات وطواه النسيان.. فليس أمامنا لإحياء ذكراه.. سوي أن نتمرد عليه ونكيل له الصاع صاعين.. ونغربل تراثه كما غربل تراثنا القديم.. لقد كان «جوته» عميد الأدب الألماني يقول لتلاميذه.. كن رجلا ولا تتبعني.. ومن واجبنا أن نكون رجالا.. وأن نختلف مع عميد الأدب العربي طه حسين.. حتي نكون أسطوات مثله.. وقبل ذلك علينا أن نعرف كيف تحول طه حسين إلي شيخ الأسطوات في ثقافتنا الحديثة.. لم يكن طه حسين يغترف من منجم الثقافة للاختيال بنفسه.. واتساع دائرة معارفه.. وإنما كانت له رسالة في المجتمع.. هي أن المعرفة من حق الجميع كالماء والهواء وأن تحرير العقل من الجهل لايقل عن تحرير الوطن من المستعمر الأجنبي.. وقبل قيام ثورة يوليو كان طه حسين يطبق التعليم المجاني وهو وزير للتعليم.. وأنا أقول لمن يختلفون مع طه حسين.. في التعليم المجاني للفقراء.. وفي مراجعة تراثنا القديم.. وفي الاتجاه نحو ثقافة البحر المتوسط وفي شعار «لا إمام سوي العقل» الذي رفعه طه حسين مع فيلسوفنا «المعري» أقول لهم جميعاً: حاكموا طه حسين.. تمردوا عليه.. غربلوا تراثه.. راجعوا مسئولية المثقف عن مجتمعه.. وعن ريفنا المصري الذي تحاصره الأمية والفقر والمرض.. لأن شبابنا عرف الانفتاح الاستهلاكي.. ولم يعرف الانفتاح الثقافي.. امتلك أدوات العصر في التكنولوجيا.. ولم يمتلك العقل ومازال يعيش في عصر النقل.. ويحفظ الكتب القديمة الممتلئة بالحصي.. لقد سبقنا أسطي الرواية العربية نجيب محفوظ إلي إقامة هذه المحاكمات.. حاكم زعماء مصر في رواية «المرايا» ومن حق شبابنا الساهر علي أرصفة المقاهي.. أن يشارك في هذه المحاكمة.. ليعرف إن كان طه حسين مازال حياً.. داخل المنجم.. يغربل تراثنا.. أو مات وطواه النسيان.