شعور غريب انتابني وأنا أجلس في قاعة عرض سينمائي، علي بعد ثلاث قارات من مصر، في قلب مدينة ساوباولو في البرازيل في أمريكا اللاتينية، وسط جمهور لا أعرف لغته ولا يعرف لغتي، نتحدث عبر لغة وسيطة هي الإنجليزية، حول السينما المصرية، تاريخها وعلاماتها وأحوالها المتقلبة، وحولنا أفيشات وصور من الأفلام المعروضة ضمن أسبوع لكلاسيكيات السينما المصرية.. قام بتنظيمه معهد الدراسات العربية التابع لجامعة «ساوباولو» وضمن إطار مهرجان «صور من الشرق الأوسط» الذي يقيمه المعهد كل عام. وراء هذا الأسبوع أسماء وقصة من المهم ذكرها، ولكنني لاأزال أجلس في قاعة سينما «سينسيسك»، وهي الشيء الوحيد الذي يبدو مألوفا بالنسبة لي، لأن قاعات السينما هي نفسها في كل مكان.. أستمع إلي كلمات التقديم العديدة باللغة البرتغالية، وكلمة القنصل المصري في البرازيل السيدة أماني العتر بالإنجليزية، ثم يدور «برومو» المهرجان فأسمع صوت أم كلثوم في أغنية «أنت عمري» تشدو: «رجعوني عينيك لأيامي اللي راحوا»... يبدأ أحد الأفلام المشاركة في الأسبوع: «المومياء» وتغرق القاعة في الصمت والظلام، وتبدأ حياة جديدة للفيلم الذي يتحدث عن الفن الذي يعطي صانعه القدرة علي البعث والحياة عبر العصور، ويصبح الفيلم هو رسول التواصل بين ثقافتين ولغتين وشعبين من الواضح أنهما متحابان ومتقاربان حتي لو كانا لا يدركان ذلك بعد! سوف يضيع المقال في وصف المكان والحدث والناس الذين ساهموا في صنعه وأسماء الأفلام المشاركة، ولكن كل ذلك لايقاس باللحظة التي تطفأ فيها الأنوار وتتوقف الحركة والأصوات لتبدأ حياة الأفلام، وتنشأ العلاقات بين الفيلم والمشاهدين في القاعة. من كثرة مشاهدة الأفلام والتردد علي دور العرض ينسي المرء هذا الشعور ويخبو السحر الذي تشعه الأفلام حتي يتحول إلي نوع من الضجر، لكن من حين إلي آخر تأتي مناسبة تذكر المرء بقيمة وتأثير الفن السينمائي، والفنون بشكل عام، كما حدث معي في قاعة «سينسيسك» في قلب مدينة «ساوباولو» في البرازيل. بدأت فكرة تنظيم أسبوع للسينما المصرية في مدينة ساوباولو أثناء زيارة قامت بها رئيسة مهرجان «صور من الشرق الأوسط» أرلين كليمشا إلي القاهرة التقت فيها بالمنتجة الشابة دينا أبو زيد التي اقترحت عليها الفكرة وقامتا بعرضها علي الأستاذ حسام نصار رئيس العلاقات الخارجية بوزارة الثقافة الذي رحب بالفكرة وأبدي استعداد وزارة الثقافة للتعاون بإرسال نسخ الأفلام والمواد الصحفية والإعلامية المصاحبة لها.. وتم اختيار تسعة أفلام من كلاسيكيات السينما المصرية هي «المومياء» لشادي عبدالسلام، «الأرض» ليوسف شاهين، «الزوجة الثانية» لصلاح أبوسيف، «دعاء الكروان» لهنري بركات، «يوميات نائب في الأرياف» لتوفيق صالح، «البوسطجي» و«شيء من الخوف» لحسين كمال، و«الطوق والأسورة» لخيري بشارة. العلاقات الخارجية بوزارة الثقافة سارعت بإرسال نسخ 35 مم من الأفلام، بينما سارع فريق عمل المهرجان في «ساوباولو» بطباعة كاتلوج أنيق وبوسترات وملصقات وصور عديدة، والدعاية في الصحف، ومن الطريف أن تري عدد الجهات الداعمة التي شاركت، ولو بجزء بسيط، في هذا المشروع. علي رأس هذه الجهات دار العرض السينمائي التي استضافت الأسبوع، وهي كما عرفت تابعة لمؤسسة اقتصادية خاصة، وليست تابعة للدولة بأي وسيلة. هذه المؤسسة الخاصة لديها عدد كبير من دور العرض والمسارح والأماكن الثقافية عبر ولاية ساوباولو ...ومعهد الثقافة العربية في ساوباولو، ومركز الدراسات العربية بجامعة ساوباولو، والسينماتيك البرازيلي، ووزارة الخارجية ممثلة في جهود القنصل المصري السيدة أماني العتر، التي كان لجهودها وحضورها أثر كبير في إنجاح المهرجان.. وجدير بالذكر أن أرلين كليمشا ومارسيا كامارجوس منظمتا المهرجان قد قامتا بتأسيس منظمة بعنوان «الدفاع عن الحق الفلسطيني» هدفها كما عنوانها هو التوعية بالقضية الفلسطينية والدفاع عنها في مواجهة الجماعات الصهيونية، وعلي الهامش فقد أقيم بجانب البرنامج المصري عدة عروض لأفلام تدور عن القضية الفلسطينية خلال نفس الفترة. مدينة ساوباولو هي أهم مدينة في الولاية التي تحمل نفس الاسم، وهي أهم مدن البرازيل وواحدة من أهم مدن امريكا اللاتينية كلها من ناحية القوة الاقتصادية والعددية. هي مدينة عصرية بكل معني الكلمة، مثل نيويورك أو لندن أو طوكيو. هبطت في مطارها في الخامسة فجرا، وأخبرني سائق التاكسي الذي سيقلني إلي الفندق أنني تأخرت بعض الشيء لأن زحام الطريق بدأ، حيث ينهض الملايين من الذين يسكنون علي أطراف المدينة مبكرا للحاق بأعمالهم، وبالفعل كانت الشوارع مليئة بالسيارات...علي الساعة السابعة تكون المدينة في قمة ازدحامها، ولكن رغم كل الزحام هناك نظام دقيق في المرور وحركة السيارات، ورغم ملايين السيارات المتراصة في الشوارع من النادر أن تسمع صوت «كلاكس» أو صراخ أو شتائم، كما أن الجميع يلتزم بالحارات المرورية ولا ينحرف عنها، وبالتالي تنساب حركة المرور رغم بطئها، ويكاد يتلاشي الضغط العصبي الذي تسببه الفوضي والمشاحنات علي الطريق. كل هذا الزحام يختفي تماما، وبقدرة قادر، في الأوقات التي تلعب فيها البرازيل إحدي مباريات كأس العالم لكرة القدم...وقد حضرت هناك مباريات البرازيل أمام البرتغال ثم أمام شيلي التي فازت فيها البرازيل «0 - 3» ولحسن الحظ أنني عدت للقاهرة قبل هزيمتها أمام هولندا. المهم أن اختيار تنظيم هذا الأسبوع، أو الأسبوعين - من 25 يونيو إلي 11 يوليو - كان محفوفا بالمخاطر بسبب كأس العالم، ولكن المنظمين اضطروا لذلك بسبب ازدحام جدول دار العرض، ومع ذلك، حسب رأي من سألتهم، لم يتأثر الحضور كثيرا إلا في أوقات مباريات البرازيل. وبالنسبة للحضور هناك ملحوظة مؤسفة لا بد من ذكرها: سواء في ساوباولو أو باريس أو روتردام أو غيرها من الأماكن التي يقام فيها مهرجانات للسينما العربية، وهي أماكن بها جاليات عربية كبيرة جدا، سوف تفاجأ بأن معظم الحضور هم من أهل المدينة، الفرنسيون أو الهولنديون أو البرازيليون، بينما الحضور العربي قليل جدا. وقد أوقفتني سيدة من أصل مصري كانت تتابع الأفلام واشتكت لي مر الشكوي من غياب المصريين والعرب المقيمين في ساوباولو عن المهرجان، في الوقت الذي تمتلئ فيه القاعات بأبناء أي جالية يقام لها مهرجان أو أسبوع، حتي لو كان أبناء هذه الجالية قليلين جدا، علي عكس الجالية العربية! معظم الحضور، إذن، كانوا من البرازيليين المهتمين بالتعرف علي الثقافات الأخري، بجانب عدد من النقاد والصحفيين...وبالإضافة إلي عرض الأفلام تم تنظيم محاضرة عن تاريخ السينما المصرية قمت بإلقائها، ومن أجل هذه المحاضرة تمت دعوتي لحضور المهرجان. هذا الشعور بالدهشة، وأنا أجلس لأتكلم عن تاريخ السينما في مصر، عن محمد بيومي وعزيزة أمير وطلعت حرب، وعن محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وليلي مراد، وعن صلاح أبو سيف ويوسف شاهين وشادي عبد السلام...وصولا إلي محمد هنيدي ومروان حامد...أمام جمهور غريب بعضه يسمع هذه الأسماء لأول مرة...سرعان ما تلاشي أمام اهتمام الحضور وأسئلتهم وأمام المقارنات والتشابهات التي فرضت نفسها بين السينما في مصر ومثيلتها في البرازيل. شخصيا فوجئت من حجم التشابهات عندما انتهزت فرصة وجودي في ساوباولو لأعرف بعض الأشياء عن السينما البرازيلية وأري بعض أفلامها القديمة والحديثة. ولدهشتي وجدت في دور العرض فيلما بعنوان «كانكاس الذي يصرخ من الماء» عن رواية الأديب البرازيلي الشهير جورجي أمادو، أحد مؤسسي تيار الواقعية السحرية في أدب أمريكا اللاتينية، وهي الرواية التي اقتبس منها الأديب المصري مصطفي ذكري سيناريو فيلمه «جنة الشياطين» الذي أخرجه أسامة فوزي منذ عشر سنوات. فوجئت أيضا من حقيقة أن السينما البرازيلية قدمت أفضل أفلامها، أو بالتحديد أفضل مخرجيها من ناحية الوعي الفني والسياسي، في نهاية الستينيات، ومعظم هذه الأفلام كانت تتناول حياة الفلاحين والطبقة العاملة والفقراء من منطلق اشتراكي يساري...ومن النظرة الأولي للأفلام التي تم اختيارها للمهرجان باعتبارها من كلاسيكيات السينما المصرية يمكن أن نلاحظ أن سبعة منها تم إنجازه في نهاية الستينيات من قبل مخرجين ملتزمين سياسيا وكلها تدور عن حياة الفلاحين والفقراء. وبالرغم من أنني لم أكن مرتاحا كثيرا للبرنامج الذي اختارته وزارة الثقافة لأن الأفلام كلها من فترة تاريخية واحدة وكلها عن الفلاحين، باستثناء «غزل البنات»، فإنني وجدت أن الأفلام قريبة من روح وعالم الجمهور البرازيلي الذي مر بتاريخ يتشابه كثيرا مع التاريخ المصري الحديث، من استعمار واستقلال واعتماد علي الزراعة وديكتاتورية عسكرية ومحاولة الخروج إلي الديمقراطية ...إلخ. الشعور بالغرابة تحول بعد ساعات من مشاركتي في أسبوع كلاسيكيات السينما المصرية في ساوباولو إلي شعور بالألفة والحميمية والقرابة بين الشعوب.. هذه المشاعر التي لا يفجرها سوي الفن والأدب والثقافة.. لمن يعلم.