مشهد من فيلم » الصارخ من الماء ) أول ما تذهب إليه عيناي في زياراتي للمدن الكبري أماكن النشاطات الثقافية من مكتبات ومتاحف ومعارض ومسارح ودور عرض سينمائي...وحتي أسوار الكتب المستعملة التي تذكرني بسور الأزبكية وسور السيدة زينب الذي نهلت منه أول مكتبة كونتها في حياتي. لذلك أعشق باريس ولندن والمدن المزدحمة بالحياة والبشر والأضواء التي لا تطفأ أبدا أكثر مما أحب الريف والمدن الهادئة النائمة بعد منتصف الليل. وقد فوجئت خلال زيارة قصيرة قمت بها إلي مدينة ساوباولو بالبرازيل أنها مدينة ثقافية بمعني الكلمة رغم أن ما سمعته عنها كان يقتصر علي أنها مدينة إقتصادية كبيرة هي أغني مدن البرازيل وواحدة من أغني مدن أمريكا اللاتينية والأمريكتين، كما أنها الأكبر من ناحية عدد السكان في الأمريكتين: 12 مليون في مدينة ساوباولو وأكثر من 20 مليون في الولاية التي تضم المدينة وتحمل نفس الإسم. دهشت من عدد المتاحف الفنية التي تضمها المدينة، وخلال زيارتين سريعتين لثلاثة من أشهر هذه المتاحف شاهدت العديد من الأعمال الفنية العالمية من تماثيل يونانية ولوحات من العصور الوسطي وعصر النهضة وحتي رينوار وموديلياني وبيكاسو إلي كبار الفنانين البرازيليين المعاصرين...وفي جولة سريعة في وسط المدينة شاهدت واحدة من المكتبات الكبيرة التي تضمها المدينة، مكتبات البيع وليس الإطلاع، وما أدهشني هو عدد الزوار والزحام علي شراء الكتب في زمن نردد فيه أن القراءة تتراجع! وخلال تصفحي في دليل سياحي للأنشطة الفنية والترفيهية في المدينة لمحت صورة وعنواناً وخبراً عن أحد الأفلام الحديثة التي بدأ عرضها في المدينة مأخوذ عن رواية الأديب البرازيلي الكبير جورجي أمادو التي تحمل عنوان "الموت الأول والثاني لكانكاس الصارخ من الماء" التي ترجمت إلي العربية بعنوان "كانكان العوام الذي مات مرتين" عن دار نشر الفارابي وترجمة محمد عيتاني، والتي قام الأديب مصطفي ذكري بتحويلها إلي واحد من أجمل أفلام السينما المصرية وهو "جنة الشياطين" للمخرج أسامة فوزي. كان لا بد أن أشاهد الفيلم بالطبع، حتي لو كان يعرض باللغة البرتغالية التي لا أفهمها، وأملا في مساعدتي بالترجمة اصطحبت معي صديق تعرفت عليه في ساوباولو هو أحد المنظمين لمهرجان "كلاسيكيات السينما المصرية" الذي دعيت للمشاركة فيه بإلقاء محاضرة عن تاريخ السينما المصرية. لم أستعن بترجمة الصديق علي الإطلاق، أولا لأنه خجل من الحديث في دار العرض أثناء دوران الفيلم، ولم أقل له أن الجميع يتحدثون مع بعضهم وعبر التليفون في دور العرض في مصر، وثانيا لأنني لم أكن أحتاج إلي الترجمة كثيرا لأن المخرج لم يغير شيئا في النص الأصلي للرواية التي قرأتها وكتبت عنها أيام عرض "جنة الشياطين" منذ عشر سنوات. الرواية _ لمن لا يذكر _ تدور حول موظف كبير ينتمي للطبقة الوسطي في مدينة "باهيا" المطلة علي المحيط، يترك زوجته المتسلطة وابنته الصغيرة وينضم إلي جموع المشردين والسكيرين والعاهرات في قاع المدينة، حيث يجد نفسه أخيراً، وبينما يصبح معشوقاً في العالم السفلي تحاول عائلته التبرؤ منه ونسيانه وإنكار وجوده بالمرة...وتبدأ الرواية بموت الرجل الذي يحمل اسمين، اسمه الأصلي واسم "كانكاس" مضافا إليه "الصارخ من الماء" وهو اسم شهرة علي طريقة أسماء السكان الأصليين للقارة _ الهنود الحمر _ كما تجدون في الفيلم الأمريكي الشهير "الراقص مع الذئاب"، وسبب هذه التسمية أن "كانكاس" ذات يوم صرخ وبصق الماء من فمه عندما تجرعه من أحد الزجاجات معتقدا أنه خمر! بعد موت كانكاس يتم إخبار عائلته، الأخ والأخت والإبنة وزوجها، الذين يذهبون مضطرين لإستلام الجثة حيث يشترون له سترة جديدة ويتفقون علي أفضل وسيلة لإخبار معارفهم بموته، في الوقت الذي يعتقد فيه أصدقاء "كانكاس" السكاري أنه لا يزال حيا، ويخطفون جثته متوجهين بها إلي البحر، حيث يلقي "كانكاس" الميت كلماته الأخيرة ويقفز إلي الماء. إذا كان تحويل الأعمال الأدبية إلي أفلام هو قراءة مختلفة لها، فإن مصطفي ذكري وأسامة فوزي ينظران في "جنة الشياطين" إلي حياة كانكاس نظرة فلسفية عدمية، تختلف عن نظرة جورجي أمادو الإشتراكية الرومانسية. في الرواية تكتسي العاهرات والمتشردين بمسحة إنسانية وعاطفة جياشة تتناقض مع لا إنسانية وجفاف الطبقة الوسطي التي تتجسد في عائلة كانكاس. تمرد "طبل" _ محمود حميدة _ في "جنة الشياطين" لا يحمل هذه الرؤية الماركسية للطبقات بقدر ما يحمل تمرداً علي "الأخلاق" وفقاً لتعريف الطبقة الوسطي والمجتمع بشكل عام، ويحطم الفيلم هذه "القيم" الشكلية الزائفة بحثاً عن أخلاقيات أخري أقرب للفهم الصوفي لها، وتحديداً وفقا لنوع من الفلسفة الصوفية يري أن التحرر من سيطرة الجسد والغرائز يمكن أن يتأتي عن طريق الإفراط في المتع الحسية حتي تموت المادة وتستيقظ الروح...وهو أحد المعاني المضمرة في الرواية بالطبع بجانب التفسير الماركسي التقليدي الذي ارتبط بها. في الفيلم البرازيلي الذي حمل نصف عنوان الرواية "كانكاس الصارخ من الماء" يطرح المخرج وكاتب السيناريو "سيرجيو ماشادو" وجهة نظر أكثر عصرية تتناسب مع العقد الأول من القرن الواحد والعشرين: بدلا من الحديث عن البروليتاريا والفقراء، فإن الحديث يتسع ليشمل كل حقوق الأقليات والمهمشين سواء لأسباب تتعلق بالجنس - النساء والمثليين _ أو العرق _ الملونين في البلاد التي يحكمها البيض، أو الدين _ الأقليات الدينية أو الملحدين. يركز "ماشادو" في فيلمه علي شيئين: الجانب الفكاهي من الرواية، خاصة الجزء المتعلق بالشك في كون "كانكاس" حياً أم ميتا، ويدفع بالكوميديا إلي حدود "الفارص" أحيانا...والجانب الجنسي بإعتباره المجال الأكثر وضوحا لتحرر الطبقة الوسطي، ولا يتوقف الفيلم عند موت "كانكاس" مثل الرواية، ولكن يتخذ من حياته وموته درساً للأجيال القادمة، للإبنة التي تتخلي عن خجلها وتدخل في علاقة مع ضابط شرطة أسود، وزوجها الذي يفعل نفس الشئ مع امرأة خلاسية من قاع المدينة...هذا الوجه العرقي بين بيض الطبقة الوسطي وفقراء الملونين يهتم المخرج بإبرازه جيدا، وبذلك يكتسب التحليل الماركسي لقصة "كانكاس" أبعاده الجنسية والعرقية الحديثة.