بينالي الإسكندرية الخامس والعشرون لدول البحر المتوسط، بدأ عرض إبداعات المشاركين فيه، في السابع عشر من ديسمبر ويستمر حتي الواحد والثلاثين من يناير، بمشاركة أربعة وثلاثين فنانا من ست عشرة دولة. وعنوان هذه الدورة أو التيمة الأساسية لها هو ماذا بعد؟! وهو تساؤل يشير إلي المتغيرات التي تعصف بالعالم تحت راية العولمة، حيث تولد مراكز تأثير جديدة، غير تلك التي عهدها العالم، وتنمو روابط جديدة تختلف خيوطها عن تلك التي اعتادها العالم حتي عهد قريب، علي الأقل منذ نهايات القرن الماضي. ماذا بعد؟! وكان نجم هذه الدورة ضيف الشرف الفنان الإيطالي بيستولوتو رغم أنه اضطر لظروف طارئة للتخلف في اللحظة الأخيرة. ولكن نابت عنه أعماله بقوة وسطوع. فكان الغائب الحاضر. وضيف الشرف الثاني للدورة، كانت الفنانة الفلسطينية سها شومان. والمشاركون في البينالي هذه المرة سواء من الفنانين أو أعضاء لجنة التحكيم، أو المتحدثين في الندوات، هم من الصفوة التي تضيء أسماء أصحابها، سماء الفن التشكيلي في العالم وتغذي جاليراهاته بأروع الأعمال. وكأن كل واحد منهم أمة واحدة في اهتمامه ومجال تركيزه، وآفاق اكتشافاته. حتي الشباب منهم الذين تدور أعمالهم حول الثلاثينيات أربعة من المشاركين في الثلاثين، فرضت أعمالهم نفسها علي أكبر المعارض الفنية في العالم. ومحسن شعلان رئيس قطاع الفنون التشكيلية محق، سواء في حديثه وهو يقدم رئيس لجنة التحكيم في محاضرته عن المتاحف في اليابان وآسيا، التي ألقاها في قصر الفنون، قبل افتتاح البينالي، أو في الكتالوج الخاص بالمعرض، مشيرا إلي أن دورة هذا العام كانت ثمرة مراجعة دقيقة لجوانب الضعف التي اعترت هذا الحدث الثقافي في السنوات الأخيرة، ونتج عن هذه المراجعة تغيير في أسلوب الإعداد للبينالي، وطريقة اختيار الفنانين والجوائز المالية. وانعكست هذه المراجعة علي كل جوانب البينالي. انعكست انعكاسا يستحق التفاتا واهتماما أوسع ليس فقط من الفنانين ولكن من عامة المثقفين ومحبي الفن. وقد شاهدت المعرض الرفيع المستوي. ولكن بعد أن قرأت الكتاب الخاص بالبينالي وجدت أنه أفضل وأكثر فائدة، أن أعود إليه مرة أخري علي ضوء شروح وإرشاد النقاد روميرو ومونبيز أو بأقلام الفنانين أنفسهم. فلكل فنان عالمه الذي يجوس خلال دروبه، وتمتلئ به روحه، والنافذة التي يطل منها علي العالم: فالإيطالي سكارابيلو يقضي ست سنوات، مكرسا لوحاته لعمال البناء والمهاجرين والمشردين والهنود الأمريكيين، والبدو في الصحراء الليبية، أي الفئات المهمشة والمتواضعة. والمغربية لالا السيري، تقضي السنوات الخمس الأخيرة، مع مجموعة من الصور الفوتوغرافية في منزل كبير مهجور تمتلكه عائلتي، وكان تركيزي منصبا علي هذا الحيز المادي، لأنه في هذا البيت كانت الشابة التي تعصي الأوامر، ترسل إليه وبرفقة الخدم الذين كانوا لا يخاطبونها، وتقضي شهرا حبيسة بداخله.. وزياراتي المتكررة لهذا المكان جعلتني أفكر في علاقتي المركبة كفنانة بهذا المكان منذ مرحلة الطفولة. وهكذا جميعهم، ومعظم الفنانين المشاركين حاولوا الإجابة عن التساؤل الملح: ماذا بعد؟!.. ومن هنا كان الإحساس بسطوة العولمة والتحديات التي فجرتها واضحا، ليس كموضوع للبينالي، لكن لأنه يشغل بال ووجدان المهتمين بمصير العالم. الإسباني لوبير 64 عاما قدم عملا كبيرا ومركبا، حول ظاهرة الهجرة غير الشرعية هي مشكلة كما تعرف تؤرق القارة الأوروبية والضفة المواجهة لها علي المتوسط.. وقد استعان بصورة شهيرة رسمها الفنان الفرنسي جيريكوه، الطوافة من قناديل البحر، ومن خلالها قدم رؤية معاصرة، تقرأ منها النتائج المأساوية والموت الذي يرافق الهجرة غير الشرعية، ولأن الأفارقة في إسبانيا يعيشون علي بيع السيديهات المقرصنة، فسنري جزءا من العمل علي هيئة سيديهات حقيقية علي الأرض، علي شكل قارة أفريقيا. وتجد هنا أكثر من فن في اللوحة. وهذه السمة تبدو في مختلف قاعات البينالي، أقصد ذوبان الحدود بين الرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي والفيديو. هل هو واحد من تجليات العولمة وتعدد الثقافات كما لاحظ أحد النقاد؟! وهناك ملمح آخر لا تخطئه العين، وهو أن عددا كبيرا من الفنانين أبناء أكثر من ثقافة وأكثر من وطن. فنادية كعبي التونسية توزعت حياتها بين أوكرانيا وتونس والإمارات وباريس، وتعيش حاليا بين تونس وبرلين. وهو أمر يتكرر في معظم السير. فنانة مغربية تصف نفسها أود أن أقدم نفسي من خلال عدسات متعددة، فنانة مغربية، سعودية، تقليدية، ليبرالية، مسلمة، وباختصار فإنني أدعو المشاهدين لمقاومة الثوابت النمطية. يقف وراء تنظيم هذا المهرجان الرفيع، محسن شعلان ومحمد أبوالنجا ومحمد سالم ورفيق خليل ومصطفي عبدالوهاب وإيهاب فاروق وشريف عوض. والفنانون المصريون المشاركون: حازم طه حسين ومحمد عبلة وصباح نعيم وهاني راشد ووائل شوقي. المدير باتريتسيا قلت لك في السطور السابقة، إن الفنان الإيطالي بيستوليتو، كان أحد ضيفي الشرف اللذين احتفي بهما بينالي الإسكندرية الخامس والعشرون. وكان حقا نجم البينالي رغم أن طارئا منعه من الحضور، واللقاء بجمهور الفن في مصر. ولكن عمله ناب عنه. ويشاهد الجمهور في الصالة التي خصصت له، لوحات المرايا، وهو الاكتشاف الذي انتهي إليه في مرحلة من عمره، وتابعه إلي اليوم. وتحت المرايا الحقيقية المعروضة، ستري الشظايا المتناثرة في المرآة المكسورة، شظايا حقيقية. وإذا قدر لك أن تقف أمام هذا العمل، فاسترجع التفسير المرافق لها: المرايا الكبيرة الموضوعة حول جدران الغرفة، في بادئ الأمر تكون سليمة، إنها تفتح المجال من خلال انعكاسات بعضها ببعض. إن المرآة تهب سطحها للحياة المادية، كشاهد علي امتدادها غير المحدود في الزمان والمكان.. وعندما تتكسر المرايا، فإن قوتها الانعكاسية لا تضيع، بل تتكاثر كلما تطايرت الشظايا... وبيستوليتو - 67 عاما - في ساحة الفن منذ نصف قرن لا يكف عن العمل والابتكار، هو صاحب المرايا، وفن الفقراء والفن والدين، واثني عشر معرضا، كما أقام في المدينة التي ولد ونشأ بها، مؤسستين للفن: مدينة الفن وجامعة الأفكار. وكان المفروض أن يحتفي به المركز الثقافي الإيطالي قبل يومين من افتتاح البينالي لولا الأمر الطارئ الذي منعه. وخبر اعتذاره جاء قبل وقت قليل من اللقاء المعد له. وبذلت إدارة المركز الإيطالي ومديرته باترتستا رافيجي، جهدا يستحق كل تقدير، لإبلاغ المدعوين والحضور بإلغاء الاحتفال. ووقفت المديرة في انتظار العدد القليل من القادمين الذين لم يصلهم نبأ الإلغاء أو التأجيل تعتذر في أسف وحزن. وتعويضا عن غياب الضيف الكبير، ومن أجل الثمانية الذين حضروا مؤملين في ليلة بهجة، طلبت من البروفيسور جيوفاني ليستا، المتخصص في الفنون التشكيلية المعاصرة أن يتحدث إليهم عن بيستوليتو ودوره وارتباطه بالمستقبلية. وكان علي أن أستمع إلي محاضرة قصيرة بالإيطالية - ولا أعرف منها كلمة - ولكن ليستا كان يتكلم بكل تركيز واستغراق. سجلت هذه اللقطة رغم أن الاعتذار عن تأجيل نشاط متفق عليه أمر يمكن أن يحدث ويتقبله الحاضرون. ولكن مثل هذا الاهتمام ليس من شيمنا، ولا نأخذه مأخذ الجد والحرص علي احترام الآخرين، وليس من صميم تقاليدنا. وهو ما يجب أن نراجع أنفسنا فيه، ونحاسبها علي التقصير في أدائه. ناننجو من أفضل المبادرات التي تمت أثناء بينالي الإسكندرية والاحتفال بافتتاحه دعوة قصر الفنون للفنان الياباني فوميو ناننجو رئيس لجنة التحكيم لإلقاء محاضرة عن متحف موري للفن في اليابان، الذي يشغل منصب مديره، وعن متاحف أخري في اليابان وبعض بلدان آسيا، وبالتحديد الصين والهند وسنغافورة. والفكرة جيدة جدا، أقصد انتهاز فرصة كبار الضيوف الذين يزورون مصر، لأي سبب من الأسباب، والسعي للاستفادة من تجاربهم ومحاورتهم، وعلي الأقل التعريف بهم في وسائل الإعلام. إن مثل هذه المحاضرة التي ألقاها ناننجو قبل افتتاح البينالي بيومين حدث ثقافي في حد ذاتها. هي مبادرة تثير الاحترام والعرفان لصاحبها، رغم أنني عرفت من التقديم الذي تفضل به محسن شعلان، أن صاحب المبادرة هو ناننجو نفسه الذي يبدو أنه كان مستعدا لها، منذ موافقته علي المجيء، فقد حمل معه عددا كبيرا من اللوحات عن هذه المتاحف عرضها أمامنا علي الشاشة. ولابد أن ناننجو متمكن من معرفة مسارات الحركة الفنية في بلده وآسيا والعالم. فقد عمل قوميسيرا لجناح اليابان في بينالي فينيسيا في 7991، وتامييه 8991، وهانوفر 0002، ومديرا فنيا لبينالي يوكوهاما وسان باولو وسنغافورة. وكان عضوا في لجان تحكيم واستشاريا لعدد من المشروعات الفنية الخاصة والعامة، وعضوا باللجنة الدولية لمجلس المتاحف العالمي. ومن مؤلفاته 51 عاما كقوميسير مستقل، والمتاحف الكبري إلي أين؟. أطلت في نقل سيرته الذاتية، لأقنعك أن محاضرته كانت مفيدة للغاية. فقد عرف الحاضرون من الضيف المتمكن كثيرا من المعلومات حول النشاط الفني في اليابان والصين والهند وسنغافورة، من خلال استعراضه للمتاحف والفن والفنانين. ويبدو أن الحاضرين جميعا قد تعجبوا للمعلومة التي جاءت علي لسانه حول بناء الصين في السنوات العشر الأخيرة، لألفي متحف 0002 وهو رقم مثير! وحين سئل حول تفسيره لضخامة الرقم، حلل الأسباب وختمها بالإشارة إلي أن ازدهار الثقافة والفنون، دائما ما يرتبط بالازدهار الاقتصادي، وهذا كان وضع اليابان في الستينيات وكوريا الجنوبية في الثمانينيات والصين اليوم. وكثير من المتاحف التي عرض علينا صورا لها، تتميز بروح الابتكار والتفرد، فهناك متحف أقيم، بحيث يمكن أن يشاهده المارة في الشارع، وآخر تقل قطارا قديما إلي المتحف، ويمكن مشاهدة المعروضات من خلال فيديو، في نوافذ القطار ما يعرض لمحات من تاريخ الصين، كأنه تعبير عن قاطرة التاريخ، وهناك من نقل بيتا قديما بكامله، ليكون نموذجا للعمارة في العصور الماضية. وبناء هذه المتاحف نفسه، كان يتميز بإبداع معماري، يعبر عن ارتباط فن العمارة بالفن عموما، فضلا عن التناغم بين العمارة والفنون، في معظم ما تحويه هذه المتاحف. لقد كانت الساعتان غنيتين بالأفكار والأسماء والآراء ومظاهر الإبداع وشخصيات تتسم بالتفرد وغزارة الإنتاج وأصالته، وربما لست وحدي الذي أسمع بها لأول مرة. وشكرا لمن ساهم بحماس في إعداد هذا النشاط الثقافي: محسن شعلان ومحمد طلعت وفنانون محترمون تكبدوا مشقة الحضور.